سورة الأنفال / الآية رقم 39 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُـوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

الأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفال




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


يمضي السياق في السورة، يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر؛ ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر، مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر؛ ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره.. الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم؛ كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق.
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة- وقبل هذه الغزوة- من القلة والضعف وقلة المنعة، حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس؛ وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله..
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة ويتآمرون. وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب- إن كان هذا هو الحق من عند الله- بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به!
ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ويجمعوا لحرب رسول الله؛ ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا، والحشر إلى جهنم في الآخرة، والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير.
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين: أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات. أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم؛ وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد..
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين؛ وحتى تتقرر الألوهية في الأرض لله وحده- فيكون الدين كله لله- فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله، والله بما يعملون بصير. وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده، وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض، واصل المسلمون جهادهم، مستيقنين أن الله مولاهم، ونعم المولى ونعم النصير..
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين}..
إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف. وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر.. ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق. وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق؛ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة.
وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم!
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا؛ ليتفرق دمه في القبائل؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر!
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجريري، عن مقسم مولى ابن عباس، أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك}.. قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخروجه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فبات عليّ رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه؛ فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره؛ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.. فمكث فيه ثلاث ليال.
{ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}..
والصورة التي يرسمها قوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله}.. صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون!
إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير؛ فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور.
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم؛ ودعاويهم ومفترياتهم. حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا! مع وصف هذا القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين:
{وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إن هذا إلا أساطير الأولين}..
ذكر ابن كثير في التفسير- نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم- أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال: فإنه- لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار؛ ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن.
فكان- عليه الصلاة والسلام- إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك؛ ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففعل ذلك والحمد لله. وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه.. كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما فأمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله عزو جل ما يقول». فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك». فقال المقداد: هذا الذي أردت! قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين}..
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن: إنه أساطير الأولين: {وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكره وأصيلاً} وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن، وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب؛ ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك. وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات. وهم يعلمون أنها مناورات! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد!
لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحةَ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة، والخروج من حاكمية العباد جملة؛ والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته. ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله!.
وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها؛ وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد صلى الله عليه وسلم ويخضعون لقيادته وسلطانه؛ وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة عليها هذه القيادة الجديدة..
كان هذا كله مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وكان هذا واقعاً يشهده الملأ من قريش؛ ويحسون خطره على كيانهم، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم.
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون- لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم؛ ويؤدون بعض الشعائر التعبدية، بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل؛ وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه.
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة.. ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية؛ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة؛ كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها؛ وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين.. فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل. ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام..
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام، ومن هذا القرآن.. إنه لم يزعجهم من قبل أن الحنفاء اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم؛ واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده، واجتنبوا عبادة الأصنام أصلا.. فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء؛ لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية! إن هذا ليس هو الإسلام- كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين، ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين!- إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه؛ والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع.. وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتى الأساليب.. ومنها هذا الأسلوب.. أسلوب الادعاء على القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين! وأنهم- لو شاءوا- قالوا مثله! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة.. وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون!
والأساطير واحدتها أسطورة. وهي الحكاية المتلبسة- غالباً- بالتصورات الخرافية عن الآلهة، وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً.
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين؛ وقصص الخوارق والمعجزات؛ وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين.. إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات؛ فيقولون للجماهير المستغفلة: إنها أساطير الأولين؛ اكتتبها محمد ممن يجمعونها؛ وجاء يتلوها عليكم، زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله.. وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهائه؛ أو يجلس مجلساً آخر يجاوره؛ ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس؛ ليقول للناس: إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد. وها أناذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كا يدعي! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير!
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس. وبخاصة في أول الأمر، قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص، وبين القرآن الكريم. لندرك لم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث. ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفر القليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى؛ ولم يقبل فيه فدية كالآخرين.
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً؛ وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين؛ وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله؛ وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات، فلم يقف له منها شيء؛ وراح الملأ من قريش- في ذعر- يقولون: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون!} ووجد كبراؤهم، من أمثال أبي سفيان، وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن؛ ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خفية عن الآخرين؛ حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألا يعودوا إليها، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين!
على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه، لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون.. لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر.. لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن. فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون، وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم... ويفهمون أنهم مسلمون، ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين!
لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه.
لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها.. حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم، إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم، وقيمهم وموازينهم! ثم قالوا لهم: إن هذا الدين محترم، وإن هذا القرآن مصون. وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين؛ ويترنم به المترنمون، ويرتله المرتلون.. فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل؟! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم، وأما أنظمتكم وأوضاعكم، وأما شرائعكم وقوانينكم، وأما قيمكم وموازينكم، فإن هناك قرآناً آخر هو المرجع فيها كلها، فإليه ترجعون!
إنها مناورة النضر بن الحارث، ولكن في صورة متطورة معقدة، تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة.. ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين، على مدار القرون!
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه- على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه- ما يزال يغلب!.. إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين؛ وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين!
إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية؛ بحيث يذيعه- على السواء- اليهود، ويذيعه الصليبيون، ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين!
وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس المسلمين!- إلى مجرد أنغام وتراتيل؛ أو مجرد تمائم وتعاويذ! وبعد أن أبعدوه- حتى في خاطر الناس.. المسلمين!.. من أن يكون مصدر التوجيه للحياة؛ وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون.. ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد؛ وسيظل يعمل؛ وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب، وتتخذه وحده مصدر التوجيه؛ وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين، من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد.. وما كان مرة لا بد أن سيكون..
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه؛ وإذا بهم يتمنون على الله- إن كان هذا هو الحق من عنده- أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو أن يأتيهم بعذاب أليم. بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
{وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم}..
وهو دعاء غريب؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقاً! إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة.
ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه.. وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس!
ويعقب السياق على هذا العناد، وعلى هذا الادعاء، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه- إن كان هذا هو الحق من عنده- وإنه للحق.. مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم. لأن رسول صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى. والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم. كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت. فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية. فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}..
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام- وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه!
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه- ولو بعد حين- وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، يدعوهم، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون. والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}..
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
{وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام. وما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون}..
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام.. فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع. إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه. إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف. إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله.
ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم- عليه السلام- فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة. والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم!
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم. فما هذه بصلاة! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيفاً بالأيدي، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لهيبة الله.
عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون.
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها بلاد المسلمين! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة. بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة: صورة ألوهية العبيد في الأرض، وحاكميتهم في حياة الناس.. وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها، وفرع منها!
{فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}..
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة. فأما العذاب الذي طلبوه- عذاب الاستئصال المعروف- فهو مؤجل عنهم، رحمة من الله بهم، وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومقامه فيهم، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه.
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله.. هكذا فعلوا يوم بدر، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة.. وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية. والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ ثم يغلبون؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً، فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون}..
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم- أي جيشهم المهزوم- إلى مكة؛ ورجع أبو سفيان بِعيره، مشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم! فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا. ففعلوا. فقال: ففيهم- كما ذكر ابن عباس- أنزل الله عز وجل: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم...}.
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين.
إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم، في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين. وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين..
إن المعركة لن تكف. وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة. ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن. وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت.
والله- سبحانه- ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة.. إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا. وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى.. ذلك..
{ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً؛ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}..
فكيف؟
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة.. وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل- حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء!- ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم.. وتلك غاية الخسران..
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار!
{فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم}..
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعاً أعمق في الحس.. وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير..
وعندما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم، عن مصير الكفر المتعاون، ونهاية الخبث المتراكم، يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينذر الكافرين إنذاره الأخير، ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة، وحتى يكون الدين كله لله، ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها، فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد، والله وليها الناصر المعين:
{قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير}..
قل للذين كفروا- في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم، وحسرتهم على ما أنفقوا، وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يركم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم.
{قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}..
فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر، ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله، ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله.. والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله، ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف. فالإسلام يجب ما قبله، ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه.. فأما إن هم عادوا- بعد هذا البيان- إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف.. ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين؛ وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين... وهذه السنة ماضية لا تتخلف.. وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق!
بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا:
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير}..
وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان، لا في ذلك الزمان.. ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة، وبقوانين الحرب والسلام، ليست هي النصوص النهائية، فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة؛ ومع أن الإسلام- كما قلنا في تقديم السورة- حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة، وأنه حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائر مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية..
ومع هذا فإن قوله تعالى:
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}..
يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم..
ولقد جاء الإسلام- كما سبق في التعريف بالسورة- ليكون إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده- سبحانه- وربوبيته للعالمين.. وأن معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور.. الخ.
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال.. وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام، وتنفذه في عالم الواقع، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه.
وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر- في صورة من الصور- وذلك لضمان الهدف الأَول، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا لله وحده- فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله- وليس هو مجرد الاعتقاد..
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول، على حين أن الله سبحانه يقول: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام- وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب: الجهاد في سبيل الله للأستاذ أبي الأعلى المودودي، ما يكفي للبيان الواضح.. إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين!
إن الذي يعنيه هذا النص: {ويكون الدين كله لله}.. هو إزالة الحواجز المادية، المتمثلة في سلطان الطواغيت، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد، فلا يكون هناك- حينئذ- سلطان في الأرض لغير الله، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله.. فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى، ويفتن بها الذين يتحررون فعلاً من كل سلطان إلا سلطان الله.. إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد.
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله، ولن يتحرر الإنسان في الأرض، إلا حين يكون الدين كله لله، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه.
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
{حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}..
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره، وتركوا هذا لله:
{فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير}..
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
{وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم. نعم المولى ونعم النصير}..
هذه تكاليف هذا الدين؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس..
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه!
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان.
وهو منهج حركي واقعي، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة.. يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان.. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله..
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد- كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة- أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه.
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين.. لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون.. ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من المسلمين، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين!
.. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال