سورة الأنفال / الآية رقم 73 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

الأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفالالأنفال




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات للآيات التي قبلها، هى أن المؤمنين والمشركين كانوا بعد تلك المواجهة التي شهدوها في بدر- كانوا قد تحددت معالمهم، واستعلنت مواقفهم، وإذا هم جبهتان متقاتلتان، وفريقان متخاصمان، كل منهما يطلب الآخر، ويقتضيه ما يقتضى الغريم من غريمه.
وقد ذكرت الآيات السابقة مراحل هذا الصراع الذي كان قائما بين الفريقين، وعرضت أحداث بدر وما وقع فيها، وما أحرز المسلمون من نصر، وما منى به المشركون من هزيمة، ثم عرضت المغانم والأسرى وما قضى اللّه فيهما.
فكان من المناسب أن تختم السورة بهذه الآيات التي تخطط الحدود، وترسم المواقع والمواقف التي يأخذها المؤمنون من الكافرين حتى يكونوا على بيّنة من أمرهم، فيما يأخذون أو يدعون من الجبهة المقاتلة لهم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
هو بيان لحكم الجماعة الإسلامية فيما بينها، فهم- المهاجرون والأنصار- جبهة واحدة، وكيان واحد، يجمعهم هذا النسب الكريم الذي انتسبوا له، وهو الإسلام، الذي يعلو كل نسب، ويفضل كل قرابة.
فمن أجل الإسلام هاجر المهاجرون، ومن أجل الإسلام جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه. وفى سبيل اللّه آوى الأنصار المهاجرين وشاركوهم أموالهم وديارهم، وفى سبيل الإسلام انتصروا لهم ونصروهم.
فهؤلاء جميعا- من مهاجرين وأنصار- بعضهم أولياء بعض، ينصر بعضهم بعضا، ويحامى بعضهم عن بعض، ولو حملهم ذلك على لقاء آبائهم وأبنائهم وقتالهم وقتلهم في سبيل اللّه.
وهناك مؤمنون، ولكنهم لم يهاجروا، قد حبستهم قريش، أو منعهم فما حكم هؤلاء المؤمنون؟ وما وضعهم في المؤمنين من المهاجرين والأنصار؟
إنهم لا شكّ أعضاء في هذا الجسد الإسلامى الجديد، الذي تبرز سماته في المهاجرين والأنصار. ولكن كان الإسلام في دور البناء للمجتمع الإسلامى، وكان من أجل هذا في مسيس الحاجة إلى كل يد عاملة لدعم هذا البناء، ورفع بنيانه- الأمر الذي جعل الهجرة إلى المدينة التي آوى إليها الرسول، واتخذ منها مركزا لدعوته، أمرا له قدره وأثره في رفع درجة المؤمن، وتشريفه بهذا المقام الكريم الذي أفرد اللّه سبحانه وتعالى به المهاجرين، وجعل لهم وللأنصار ذكرا طيبا، جاء به القرآن الكريم أكثر من موضع.
من أجل هذا، فإن الذين آمنوا ولم يهاجروا- لعلّة أو لأكثر- لم يكن حسابهم قائما على هذا التقدير الذي يسوّى بينهم وبين المهاجرين، أو الأنصار.
إذ كان المهاجرون، مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم هجرة، وكان الأنصار مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم أنهم آووا ونصروا.. أما المؤمنون الذي حبستهم أعذارهم عن الهجرة، فإنهم لم يضيفوا إلى إيمانهم شيئا مما فعله المهاجرون أو الأنصار.. فهم والحال كذلك ليسوا بالّذين يدخلون في ذمّة المؤمنين في هذه المرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية، بحيث يمنعونهم من عدوّهم، ويدفعون عنهم ما يعرض لهم من ظلم وبغى، وهم في ديار الظالمين.. وحسب المهاجرين والأنصار في هذه المرحلة من مسيرة الدعوة الإسلامية- حسبهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يدفعوا البغي المتسلط عليهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا}.
وفى هذا تخفيف عن الجماعة الإسلامية، وإعفاء لها من حمل عبء فوق أعبائها، وهو الدفاع عن الأفراد أو الجماعات الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل ظلّوا بين أهليهم وأقوامهم الذين ينظرون إليهم نظرات مغيظة حانقة، ترمى بالضر والأذى.
ولو دخل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا- لو دخلوا في ذمة المؤمنين وفى ولائهم، لكان على المؤمنين الانتصار لهم من كل ظلم، والحماية لهم من كلّ عدوان، وهذا يجعل الجماعة الإسلامية- مع ما هى عليه من قلة عدد يومئذ- في وجه حرب متصلة، مع قبائل العرب جميعا، حيث كان في كل قبيلة فرد أو أفراد من الذين آمنوا، واستجابوا للّه وللرسول.. وكان وضع هؤلاء الأفراد في أقوامهم محفوفا بالمكاره، متصلّا بالضرّ والأذى، فلو دخلوا في ذمة المسلمين لكان على المهاجرين والأنصار، نصرهم ودفع الضر عنهم.
وفى قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}.
هو بيان للحال التي يجب على جماعة المسلمين أن ينتصروا فيها لمن يستنصر بهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وتلك الحال هى أن يكون استنصار المستنصرين بهم من أجل الدّين، ولحساب الدّين، لا لعصبية نسب أو قرابة أو حلف.
ومعنى الاستنصار في الدين أن يجد هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا، فرصة سانحة لنصرة الدين، في مواطنهم التي هم فيها، كأن تجد تلك الجماعة التي لم تهاجر، قدرة على دفع عدوان المعتدين عليها ولكنها تحتاج إلى مساندة عدد من المسلمين- عندئذ يجب على الجماعة الإسلامية أن تناصرها وتشدّ ظهرها بالرجال والسلاح.. ففى هذا انتصار لدعوة الإسلام، وتمكين لها في هذا الموطن الجديد.
هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين أن الولاية هنا هى التوارث بينهم، وقالوا: إن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، جاعلين نسب الإسلام بينهم، أولى من نسب القرابة.. ثم نسخ ذلك ب قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ}.
وقد كان رأينا على غير هذا، وهو أن المراد بالولاية: التناصر، والتعاطف، وتلاحم المشاعر، في ظل الأخوة الإسلامية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [10: الحجرات] وفى هذا يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «مثل في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى».
وفى قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} إلزام للجماعة الإسلامية بأن تقوم بالانتصار لمن استنصر بها من أجل الدّين.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} استثناء من الحكم الموجب على الجماعة الإسلامية الانتصار لمن يستنصر بهم من المؤمنين دفاعا عن الإسلام، ودعوة الإسلام.. وذلك أنه إذا كان هناك ميثاق وموادعة بين المسلمين وبين من دعاهم المؤمنون إلى حربهم، حينئذ يجب على المسلمين أن يحترموا هذا الميثاق، وأن يلتزموا حدوده، وأن يقوموا على الوفاء به، ولا يدخلوا في حرب مع من دعوا إلى حربه، وهو موادع لهم بميثاق واثقهم عليه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}: هو تقرير لحكم واقع بين الكافرين وهو أنهم على ولاء فيما بينهم. وأنهم حزب واحد، مجتمع على عداوة المؤمنين، ناصب لحربهم، راصد للفرصة الممكنة له منهم.
وليس في هذا الذي يقرره القرآن الكريم دعوة لجماعات الكافرين أن يكونوا على هذا الولاء الذي بينهم، وإنما هو- كما قلنا- تقرير لأمر واقع، يرى منه المؤمنون كيف يجتمع أهل الضلال على الضلال، وكيف يقوم بينهم الولاء والتناصر.. فارنى للمؤمنين ثم أولى لهم، أن يجتمعوا على الإيمان، وأن يتناصروا على الحق والخير.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ} إشارة إلى ما ينبغى أن يكون بين جماعة المؤمنين من تلاحم وتناصر. وأنهم إن لم يفعلوا هذا، فسد أمرهم، وتمكّن العدوّ منهم، وسقطت راية الحق التي يقاتلون عليها، وخلا وجه الأرض للفساد والمفسدين.
والضمير في {تفعلوه} يعود إلى الولاء الذي ينبغى أن يكون بين المؤمنين، بعد أن دعاهم اللّه إليه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
وبعد أن لفتهم سبحانه إلى ما بين أهل الكفر والضلال من ولاء والتقاء على البغي والعدوان.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
هو عرض للمهاجرين والأنصار، وإفراد لهم بتلك المنزلة الرفيعة من الإيمان الذي حقّقوا صفته فيهم على أكمل وجه وأروعه.. {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي المؤمنون إيمانا كاملا، لم تشبه شائبة من ضعف، ولم تعلق به خاطرة من شك أو ريب.. فهو الإيمان الخالص، وهو الحقّ حقّا.
{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي مغفرة عامة شاملة، تنال كلّ ذنوبهم، ولهم {رِزْقٌ كَرِيمٌ} طيّب، من كل شىء، في الدنيا وفى الآخرة. وهذا من بعض الأسرار التي جاء عليها النظم القرآنى في تنكير المغفرة والرزق الكريم، حيث يراد بهما العموم والشمول.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ}.
هذا إغراء لمن تحدّثه نفسه، وتنزع به همته أن يكون في هذا الموكب الكريم الذي انتظم أولئك الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى هذا الوصف الكريم، وحلّاهم بحلية الإيمان الكامل، وأنزلهم منازل مغفرته ورضوانه.. إغراء لكل من يطلب هذا المقام الكريم أن يستحثّ خطاه إليه، وأن يتخفف من كل ما يمسكه عن الهجرة، فيهاجر إلى من سبقوه إلى دار الهجرة، وهناك سيأخذ مكانه بينهم، وينزل حيث أنزلهم اللّه في منازل فضله وإحسانه.
فإن الطريق إلى اللّه مفتوح دائما، ورحمة اللّه تسع كل شىء، وعطاؤه موصول لا ينقطع، ولا ينفد.
وفى قوله تعالى بعد هذا: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} إشارة إلى ما بين المؤمنين- من سبق منهم ومن لحق- من نسب قريب، ورحم ماسّة.. فيهم جميعا أبناء أب واحد، هو الإسلام، الذي يولدون فيه حالا بعد حال، وجيلا بعد جيل.
وقوله سبحانه: {فِي كِتابِ اللَّهِ} يحتمل وجهين: إما أن يكون متعلقا بقوله تعالى: {أولى} ويكون المعنى: وأولوا الأرحام- أي المؤمنون- بعضهم أولى ببعض فيما جاء في كتاب اللّه، أي دين اللّه، الذي حمله كتاب اللّه وهو القرآن.. بمعنى أن ولاء المؤمنين بعضهم لبعض، إنما هو فيما هو حق وخير وإحسان، وهذا الخير والإحسان مما هو في كتاب اللّه، الذي آمنوا به، ودانوا بشريعته.
وإما أن يكون استئنافا، هو جواب لسؤال مقدر، وتقديره: من أين جاء هذا الحكم الذي قرّرته الآية في قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} فكان الجواب:فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علم اللّه، وفيما أقام العباد عليه، حيث جعل بين أولى الأرحام مودة، ورحمة، وولاء.. ومثل هذا ما جاء في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أي في علمه وتقديره، وتدبيره.. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن قوله تعالى:.. {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} هو مراد به الولاية في التوارث، بحكم القرابة بينهم، على ما جاء في كتاب اللّه سبحانه، في أحكام الميراث.. وعلى هذا تكون هذه الآية ناسخة لما قررته الآيات السابقة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} إلى قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ}.
وقد روى عن ابن عباس قال:آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه، وورّث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية، فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.
ويروى عن ابن عباس أيضا، أنه استدل بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} على توريث ذوى الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرّق بين العصبيات وغيرهم، فيدخل من لا تسمية لهم، ولا تعصب، وهم.. هم (أي ذوو الأرحام).
والقول بنسخ هذه الآية لما قررته الآيات التي قبلها، من ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وتناصرهم وتعاطفهم.. هذا القول مردود من وجوه:
فأولا: أن الأحكام التي قررتها الآيات السابقة من وجوب قيام تلك الوحدة الشعورية بين المسلمين، بحيث تجعل منهم كيانا واحدا- هذه الأحكام، هى من صميم الدعوة الإسلامية، ومن الدعائم القويّة التي قام عليها بناء المجتمع الإسلامى، بحيث يؤثر المؤمن إخوانه في الإيمان، على أهله وذوى قرابته.. كما يقول تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [23: التوبة]- ويقول سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [22: المجادلة].
فهذه العزلة الشعورية التي تعزل المؤمن عن الذين يحادّون اللّه ورسوله، من أهله وأقرب المقربين إليه، يقابلها تلاحم في المشاعر، وتزاوج في العواطف، بين المؤمن وجماعة المؤمنين.
فالإيمان عند المؤمن هو نسبه الذي ينتسب إليه، وعلى هذا النسب يصل الناس أو يقطعهم، ويوادّهم أو يجافيهم، ويسالمهم أو يحاربهم!.
فكيف تجىء آية قرآنية تنسخ هذا المبدأ، الذي هو أقوى دعامة في بناء المجتمع الإسلامى!
وثانيا: آيات المواريث التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في سورة النساء، تقرر في صراحة واضحة أحكام الميراث بين ذوى القربى، بحيث لا تدع مجالا لغيرهم أن يشاركهم في هذا الميراث، الذي فرض لهم فيها.
فقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} لا يضيف جديدا إلى ما قررته آيات المواريث: ولو كان لها مكان في أحكام الميراث، لكان مكانها بين آيات الميراث، لا في هذا الموضع الذي يقرر أسسا ومبادئ للعلاقات التي تقوم بين المؤمنين، ثم بينهم وبين غير المؤمنين.
وثالثا: ما يقال من أن هذه الآية نسخت التوارث الذي قام بين المهاجرين والأنصار بحكم التآخى الذي أقامه الرسول بينهم- متوجّه له، لأن آيات المواريث تغنى في تطبيقها عن الاحتياج إلى نص صريح بتحريم التوارث على هذا النسب الذي أقامه النبىّ الكريم بين المهاجرين والأنصار.. بل إن آيات المواريث نفسها قد تقدمها النصّ القرآنى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}.
هذا إذا كانت الأحكام الواردة في آيات المواريث تحتاج إلى بيان لعلة التوارث بين الأقارب.
هذا، وقد جاء في سورة الأحزاب قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} جاء هذا مقررا الولاية بالقرابة والنسب، بعد أن أبطل التبنّي! وذلك مراعاة لمقتضى الحال.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال