سورة التوبة / الآية رقم 3 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ

التوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبةالتوبة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
التفسير:
المناسبة قريبة بين سورة التوبة، وسورة الأنفال قبلها.. بل إن بينهما لأكثر من وجه من الوجوه الجامعة بينهما على سبيل الوفاق، أو المقابلة.
فأولا: ختمت سورة الأنفال بالكشف عن الحدود الفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بحيث وضح موقف كل منهما من الآخر.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض.
وثانيا: بدئت سورة التوبة بهذا الإعلان العام الذي كان تطبيقا للأحكام التي تضمنتها الآيات الواردة في آخر الأنفال، من عزل المؤمنين عن الكافرين، حيث قضى هذا الإعلان ببراءة اللّه ورسوله من المشركين، ومن العهود المعقودة معهم.
وثالثا: كانت سورة الأنفال أول ما نزل من القرآن بالمدينة، على حين كانت التوبة آخر سورة نزلت من سورة القرآن بالمدينة أيضا! لهذا وغيره من المناسبات الجامعة بين السورتين، كان جمعهما على هذا النسق، فجاءت الأنفال، ثم جاءت بعدها التوبة، حتى لكأنهما سورة واحدة، الأمر الذي اقتضى عدم تصدير سورة التوبة بالبسملة، كما صدرت جميع سور القرآن.. هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء في التعليللعدم تصدير التوبة بالبسملة.. وذهب آخرون في تعليل ذلك إلى أن سورة التوبة خطاب للكافرين والمشركين، وأنها إعلان حرب عليهم، ولا يناسب ذلك أن يصدّر الحديث إليهم باسم اللّه الرحمن الرحيم. وقد اعترض على هذا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدأ كتبه إلى من دعاهم إلى الإسلام من المشركين والكافرين بالبسملة.
وردّ على هذا الاعتراض بأن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه كان في كتبه إلى من كتب إليهم يدعو إلى الإسلام، والسلام، وإلى الخير والرحمة، فناسب أن يصدّر ذلك باسم اللّه الرحمن الرحيم.. وليس كذلك ما حملت براءة إلى الكافرين والمشركين، من نذر التهديد والوعيد.
وقيل. إن التوبة مكملة لسورة الأنفال، فهما سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، وتعدّان معا السابعة من الطّول (أي السبع الطوال)، والطّول سبع سور، هى البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف- ثم الأنفال والتوبة، وما بعدها المئون، أي ما اشتملت السورة منها على مئة آية أو نحوها.
وقوله تعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
هو إعلان بقطع العلائق التي كانت تصل المؤمنين بالمشركين، من عهود ومواثيق.. وذلك لما أحدث المشركون من عبث بهذه العهود، واستخفاف بها، إذ أنهم كانوا لا يمسكون بها إلا إذا وجدوا في ذلك مصلحة محققة لهم، فإذا أمكنتهم الفرصة في المسلمين أنكروا هذه العهود، وألقوا بها كما تلقى نفايات الطعام بعد الشبع! وإذا كان أحد الطرفين المتعاقدين لا يوقّر ما تعاقد عليه، ولا ينزله من نفسه منزلة الاحترام والرعاية، ولا يستقيم عليه إلا إذا لم يكن له من ذلك مصلحة خاصة- كان ذلك العقد غبنا فاحشا على الطرف الآخر، الملتزم له، الحريص على الوفاء به، حيث تمكنه الفرصة في عدوّه فلا يهتبلها، على حين لو أمكنت الفرصة خصمه لم يلتزم العقد الذي بينهما.
فكان نقض هذه العهود القائمة بين المسلمين والمشركين وضعا للأمر في موضعه الصحيح، إذ هو إقرار لحقيقة واقعة، ونقض لعهود منقوضة من قبل أن يجفّ المداد الذي كتبت، ولا ينتظر المشركون لنقضها إلا الوقت المناسب، والفرصة السانحة.
وقد تولّى اللّه سبحانه وتعالى عن المسلمين نقض هذه العهود، وجعل سبحانه وتعالى ذلك إليه وإلى رسوله الكريم: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وذلك ليدفع عن المسلمين الحرج الذي ربما وجدوه في صدورهم لو أمروا بنقض هذه العهود.. وفى هذه ما فيه من لطف اللّه وإحسانه إلى المسلمين، ورعايته لهم، وبرّه بهم.
والبراءة من الشيء، والتبرؤ منه، هو مجافاته، وقطع الصلة به، واللّه سبحانه وتعالى، إنما يبرأ من المشركين، لأنهم برئوا منه.. ومعنى براءته سبحانه وتعالى منهم، طردهم من رحمته، وتركهم للأهواء والضلالات المتسلطة عليهم.. أما براءة رسول اللّه منهم، فهى قطع العلاقة التي كانت قائمة بينه وبينهم، بحكم العهود التي كانت معقودة بين النبىّ وبين المشركين.. فإذ قد برىء اللّه منهم، وطردهم من مواقع رحمته، فقد وجب على النبىّ أن يقطع كل صلة بهم.. إذ كانوا حربا على اللّه، وعلى دين اللّه، وعلى رسول اللّه، وعلى المؤمنين.
قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} هو إطلاق من اللّه سبحانه وتعالى للمشركين من تلك العهود التي عقدوها مع المؤمنين، وإرسال لهم في وجوه الأرض مدة أربعة أشهر، يتنقلون فيها حيث يشاءون، دون أن يعترضهم المسلمون، أو يلقوهم بأذى، إلا إذا بدءوهم ببغى أو عدوان.. وهذا هو السرّ في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ}.
: إذ لا تكون السياحة في الأرض إلا حيث الأمن.
والمشركون في هذه المدة التي أعطيت لهم، آمنون من كل عدوان.
وفى هذه الأشهر الأربعة فسحة للمشركين، يعدّون فيها أنفسهم للوضع الذي يتخيرونه، بعد انقضاء هذه المدة، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يدخلوا مع المسلمين في حرب وقتال.. وهى مدة كافية كلّ الكفاية لكى يقلّب فيها المشركون وجوه النظر، وليتخيّروا لأنفسهم أعدل المواقف التي ينتهى إليها تفكيرهم وتقديرهم.
وهذا وجه من وجوه الإسلام السمحة، وآية من آياته المشرقة في العدل والإحسان، حتى في مواقف المواجهة للعدو.. وفى ميدان الخصومة معه! وما كان لشريعة اللّه أن تكون على غير هذا الوجه الذي يقيم موازين العدل بين عباد اللّه جميعا.. مؤمنهم وكافرهم على السواء.. فالمشركون خلال هذه الأشهر الأربعة، في عافية من أمرهم، وفى حراسة من كل قهر أدبى أو مادّىّ، يحملهم على الوجه الذي يأخذونه من الإسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} هو تحذير للمشركين، وتنبيه لهم أن يأخذوا حذرهم، وأن يقدّروا موقفهم في الرأى الذي يرونه لأنفسهم، بعد هذه الأشهر الأربعة.. وليضعوا في حسابهم هاتين الحقيقتين:
أولاهما: أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يطلبهم، وأن يد اللّه لا تقصر عنهم في أي متّجه اتجهوا إليه.. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}.
وثانيتهما: أنّهم إذا انتهى بهم رأيهم إلى اختيار الشرك الذي هم عليه، فإنهم قد اختاروا الخزي والهوان، لأنهم حينئذ يكونون حربا على اللّه.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ}.
قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} الأذان: الإعلام، والإظهار للأمر بصورة كليّة كاشفة.. ويوم الحج الأكبر، هو يوم عرفة، وقيل يوم النحر، وفى كلا اليومين تتم معظم أعمال الحج.. ووصف الحجّ بأنه الحج الأكبر، تعظيما له وإلفاتا إلى تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيه، باجتماع هذه الحشود الحاشدة، التي تجمع الناس من كل أمة وقبيل.. يأتون من كل فج عميق.. فإذا احتوتهم دائرة الحرم كانوا على هيئة واحدة في ملابس الإحرام.. الأمر الذي لا تشهد العين مثله إلا في هذا الموطن! وقد أعلن هذا الأذان على الحجيج في موسم الحج، سنة تسع من الهجرة، في يوم عرفة أو يوم النحر.
وكان أبو بكر رضى اللّه عنه هو الذي ندبه الرسول، صلى اللّه عليه وسلم، أميرا على الناس يومئذ ليقيم لهم حجّهم.
وكان موسم الحج هذا العام، مجتمعا للمسلمين والمشركين، حيث يقيم المؤمنون حجّهم على الوجه الذي بيّنه الإسلام لهم، على حين يقيم المشركون حجّهم على ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان من عادتهم أن يطوفوا بالبيت عراة.. وقد آثر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا يشهد هذا المشهد الكريه من المشركين، فأقام أبا بكر مقامه في هذا الموسم، وكان ذلك في السنة التاسعة من الهجرة.. فلما كانت السنة العاشرة وطهّر اللّه المسجد الحرام من الشرك والمشركين، حجّ النبىّ حجة الوداع.
وما كاد أبو بكر ينفصل عن المدينة، في طريقه إلى البلد الحرام، حتى تلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ربّه هذه الآيات الأولى من سورة براءة.. فجعل إلى علىّ بن أبى طالب أن يؤدى عنه هذا الأمر، وأن يؤذّن به في الناس يوم الحجّ الأكبر.. فركب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء ولحق بأبى بكر في بعض الطريق قبل أن يدخل مكة، فقال له أبو بكر: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور..!
فأقام أبو بكر للمسلمين حجّتهم.
وأذّن علىّ في الناس بهذا الإعلان القرآنى من سورة براءة.
والسؤال هنا:
لما ذا لم يعهد الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إلى أبى بكر وهو أمير الحج، أن يؤدى هذه المهمة؟
والجواب على هذا: أن ما كان بين المسلمين والمشركين من عهود، إنما كانت معقودة باسم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، باعتباره ممثلا للمسلمين، وهو بهذا الاعتبار لم يكن عند المشركين أكثر من رئيس قبيلة، وليس لصفة النبوة حساب عندهم في هذا الأمر، إذ لم يكونوا معترفين بنبوته، وإلّا لآمنوا به.
ومن هنا لم يكن- من وجهة نظر المشركين- من المقبول أن يتولّي نقض هذه العهود ونبذها إلى أصحابها إلا المتعاقد معهم عليها، أو من يمثله من عصبته، وذوى قرابته الأدنين، وذلك أن أهل البيت، أو القبيلة يحملون معا تبعات الالتزامات التي بينهم وبين غيرهم، وأنه إذا جنى أحدهم جناية كانت تبعتها على الجماعة كلّها.
ومن أجل هذا، فإن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حين تلقى من ربّه الأمر بنبذ العهود إلى المشركين، قال: {لا يبلّغ عنى إلّا أنا أو رجل من بيتي}.
فجعل ذلك إلى ابن عمّه علىّ بن أبى طالب.. وإن كان المسلمون جميعا- على اختلاف بيوتهم وقبائلهم- أهلا لأن يؤدوا هذه المهمة، ولكن عند من يعترف بنبوة النبىّ، ويعترف بالمسلمين كوحدة تدين بدين، وتجتمع على شريعة.. ولكن المشركين كانوا يتعاملون مع النبىّ كواحد من بنى هاشم، ولا ينظرون كثيرا إلى من استجاب له وتبعه من المسلمين.. ولهذا، فإنه حين يئست قريش من أن تمسك النبىّ عن القيام.. برسالته، عمدت إلى مقاطعة بنى هاشم، وفرض الحصار الاقتصادى والاجتماعى عليهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يتعاملون معهم، أخذا أو إعطاء، وقد وقع بنو هاشم جميعا- مؤمنهم ومشركهم- تحت هذا الحكم الظالم، ووقفوا له جميعا جبهة واحدة في وجه قريش.
وفى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الواو في {ورسوله} للعطف على المصدر المؤول من الجملة السابقة: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي ورسوله برىء منهم.. فهو عطف جملة على جملة.. وذلك لتكون براءة اللّه من المشركين هى الأصل، ثم تجىء براءة رسول اللّه منهم تبعا لتلك البراءة، ثم تجىء براءة المؤمنين منهم تبعا لبراءة اللّه ورسوله.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} دعوة مجدّدة من اللّه- سبحانه- إلى المشركين، أن يستجيبوا للّه وللرسول، فذلك هو الذي يحقق لهم الفوز والفلاح، ثم هو تهديد لهم بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، إذا هم لم يتوبوا إلى اللّه، ويخلّصوا أنفسهم من الشرك الذي استولى عليهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} هو استثناء من الحكم العام الذي أنذر به المشركون، وهو أن العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين لن يكون لها مفعول بعد الأربعة الأشهر التالية ليوم النحر، الذي أعلنوا فيه بنبذ العهود التي عقدوها مع المسلمين.
والمستثنون من هذا الحكم العام من المشركين، هم أولئك الذين عرف منهم المسلمون صدق نواياهم في الوفاء بالعهود التي عقدوها معهم، حيث لم تظهر منهم بادرة تدلّ على خيانة، أو ممالأة عدوّ، أو تحريضه على المؤمنين- فهؤلاء قد وفوا بالعهود، فينبغى أن يفى معهم المسلمون بعهودهم، إذ المسلمون أولى بهذا منهم، وما نقض المسلمون العهود التي آذنهم اللّه بنقضها مع المشركين إلّا لما هو ظاهر من حالهم الذي يكشف عن نيات سيئة، تدبّر الشر، وتبيت العدوان، وتتربص بالمسلمين الدوائر.
فهؤلاء المستثنون، يجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهود التي عقدوها معهم، إلى الآجال المضروبة لها.. فهؤلاء لهم حساب.. ولعامة المشركين حساب آخر.
وقوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو بيان لموقف المسلمين من المشركين، بعد انقضاء الأربعة الأشهر التي حرّم على المسلمين فيها قتال المشركين، وتبدأ من العاشر من ذى الحجة إلى العشرين من ربيع الآخر.. حيث أعطى المشركون فيها أمانا مطلقا، حتى تتاح لهم الفرصة لاختيار الموقف الذي يقفونه من المسلمين بعد انقضاء هذه المدة، التي وقتتها الآية بأربعة أشهر في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
والأشهر الحرم هنا، هى غير الأشهر الحرم المعروفة، وهى ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.. والتي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
فهذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال بدءا به، ولا يحرم فيها لدفع العدوان.. وهذا الحكم هو لها في جميع الأزمان.. أما الأشهر الحرم التي ذكرت هنا فإن حرمة ما حرّم منها هو خاص بهذا العام، أي السنة التاسعة، وأول العاشرة من الهجرة.
والمشركون الذين أمر المسلمون بقتالهم بعد انسلاخ هذه الأشهر الأربعة هم مطلق المشركين، ما عدا الذين أمهلوا إلى أن تتم المدة المتعاهد معهم عليها.
وقوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} دعوة للمسلمين بالجد في طلب المشركين، وأخذهم بكل قوّة، وملاحقتهم في كل مكان، حتى لا يكون لهم مهرب.. وفى هذا إرهاص بما سيحلّ بالمشركين من بلاء واقع، لا وجه لهم من الإفلات منه.. بعد أن ينتهى الأجل المضروب لهم، وذلك من شأنه أن يلقى الرّعب في قلوب المشركين، وأن يفتح للكثير منهم طريقا إلى الإسلام، حيث يجد العافية، والأمن والسلام.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتوبة، وخلع نير الشرك من رقابهم، وذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين، وتصل إليهم سيوفهم، فإنهم إن وصلوا إلى تلك الحال، فلن تكون لهم نجاة، ولن تقبل منهم توبة، شأنهم في هذا شأن الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وفيهم يقول اللّه سبحانه وتعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [33- 34: المائدة] وفى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دعوة للمسلمين إلى التسامح والرفق، وأن يقبلوا هؤلاء الذين جاءوهم مسلمين، وأن يفسحوا لهم في قلوبهم مكانا مع إخوانهم المسلمين، وأن يغفروا لهم ما كان منهم من إساءات، فيما أصابوهم بهم في أموالهم وأنفسهم، فإن اللّه غفور رحيم، ينال المؤمنين برحمته، ومغفرته، فليأخذوا هم المسيئين إليهم برحمتهم ومغفرتهم.. ثم هو إغراء للمشركين أن يدخلوا في دين اللّه، فهذه رحمة اللّه ومغفرته مبسوطة لهم، وهؤلاء هم المؤمنون يلقونهم بالرحمة والمغفرة لما كان منهم، في عدوانهم عليهم، وكيدهم لهم.. إنها فرصة مسعدة، والسعيد من أخذ بخطه منها.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال