سورة البقرة / الآية رقم 117 / تفسير تفسير الرازي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين، واعلم أن الظاهر قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} أن يكون راجعاً إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله} [البقرة: 114] وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى، ومنهم من تأوله على مشركي العرب، ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى، لأن اليهود قالوا: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله، أما قوله تعالى: {سبحانه} فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه، كما قال تعالى في موضع آخر: {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] فمرة أظهره، ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه، واحتج على هذا التنزيه بقوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه:
الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً، أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود، ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين، وما به المشاركة، غير ما به الممايزة، ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين، وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه من غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته، هذا خلف، ثم نقول: إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه، ويقضي إلى كونه مركباً من أجزاء غير متناهية، وذلك محال، ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل، لأن كل كثرة فلابد فيها من الواحد، فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت، فالبسيط مركب هذا خلف، وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان، فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده، فإن كان الأول فذلك الممكن محدث، وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر، إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه، والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثاً فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولداً له، وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع.
والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً، فإن كان أزلياً لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرداً من غير دليل وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له.
والثالث: أن الولد لابد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك محال، فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة.
الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً، واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم، واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له، وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وقال في مريم: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُون مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [مريم: 34، 35] وقال أيضاً في آخر هذه السورة: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً} [مريم: 88 93] فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكاً لما في السموات والأرض، وفي سورة مريم بكونه مالكاً لمن في السموات والأرض على ما قال: {إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً} قلنا: قوله تعالى في هذه السورة: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} أتم، لأن كلمة (ما) تتناول جميع الأشياء، وأما قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قانتون} [الروم: 26] ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القنوت: أصله الدوام، ثم يستعمل على أربعة أوجه: الطاعة، كقوله تعالى: {يامريم اقنتى لِرَبّكِ} [آل عمران: 43] وطول القيام، كقوله عليه السلام لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت وبمعنى السكوت، كما قال زيد ابن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [البقرة: 238] فأمسكنا عن الكلام، ويكون بمعنى الدوام، إذا عرفت هذا فنقول: قال بعض المفسرين: {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس، فقيل لهؤلاء الكفار: ليسوا مطيعين، فعند هذا قال آخرون: المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة، وهو قول السدي، فقيل لهؤلاء: هذه صفة المكلفين، وقوله: {لَّهُ مَا فِي السموات} يتناول من لا يكون مكلفاً فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر.
الأول: بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية.
الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم، وعلى هذين الوجهين الآية عامة.
الثالث: أراد به الملائكة وعزيراً والمسيح، أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له، يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله، فقال علي رضي الله عنه: فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة، فانقطع النصراني.
المسألة الثانية: لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه.
المسألة الثالثة: يقال كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله: {قانتون} جوابه: كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم.
أما قوله تعالى: {بَدِيعُ السموات والأرض} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: البديع والمبدع بمعنى واحد.
قال القفال: وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة: سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع، والإبداع الإنشاء ونقيض الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً.
المسألة الثانية: اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول، لأنه تعالى قال: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات والأرض، ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال: {وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعض الأدباء: القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية، وفي معناه القضية، وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب ق ض ى وأصله قضاي إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظاً، ومن نظائره المضاء والإتاء، من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء، من سقيت وشفيت، والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول: قضيت وقضينا، وقضيت إلى قضيتن، وقضيا وقضين، وهما يقضيان، وهي وأنت تقضي، والمرأتان وأنتما تقضيان، وهن يقضين، وأما أنت تقضين، فالياء فيه ضمير المخاطبة، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من ذلك قولهم؛ قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم، لأنه فصل للدعوى، ولهذا قيل: حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها، وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع، وقولهم: قضى حاجته، معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه، وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12] وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له وفراغاً منه، ومنه: درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها، وأما قولهم؛ قضى المريض وقضى نحبه إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق، أما الأول فيقال: قاضه فانقاض، أي شقه فانشق، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع، فأولها: قضبه إذا قطعه، ومنه القضبة المرطبة، لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر، والقضيب: الغصن، فعيل بمعنى مفعول، والمقضب ما يقضب به كالمنجل.
وثانيها؛ القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان، لأن فيه قطعاً للمأكول، وسيف قضيم: في طرفه تكسر وتفلل.
وثالثها: القضف وهو الدقة، يقال رجل قضيف، أي: نحيف، لأن القلة من مسببات القطع.
ورابعها: القضأة فعلة وهي الفساد، يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة.
المسألة الثانية: في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا: أنه يستعمل على وجوه:
أحدها: بمعنى الخلق، قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} يعني خلقهن.
وثانيها: بمعنى الأمر قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23].
وثالثها: بمعنى الحكم، ولهذا يقال للحاكم: القاضي.
ورابعاً: بمعنى الإخبار، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِي الكتاب} [الإسراء: 4] أي أخبرناهم، وهذا يأتي مقروناً بإلى.
وخامسها: أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] يعني لما فرغ من ذلك، وقال تعالى: {وَقُضِىَ الأمر واستوت عَلَى الجودى} [هود: 44] يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال: {لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] بمعنى ليفرغوا منه، إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47] قيل: إذا خلق شيئاً، وقيل: حكم بأنه يفعل شيئاً، وقيل: أحكم أمراً، قال الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق؟ نعم وهو المراد بالأمر هاهنا، وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين: في أول آل عمران: {كُنْ فَيَكُونُ الحق} [آل عمران: 59، 60] وفي الأنعام: {كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} [الأنعام: 73] فإنه رفعهما، وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كل القرآن، أما النصب فعلى جواب الأمر، وقيل هو بعيد، والرفع على الاستئناف أي فهو يكون.
المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] هو أنه تعالى يقول له: {كُنَّ} فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على {كُنَّ} إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه:
الأول: أن كلمة {كُنَّ} لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون، فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لابد وأن يكون محدثاً، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً.
الثاني: أن كلمة {إِذَا} لا تدخل إلا على سبيل الإستقبال، فذلك القضاء لابد وأن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف {إِذَا} وقوله: {كُنَّ} مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون: {كُنَّ} قديماً.
الثالث: أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله: {كُنَّ} بفاء التعقيب فيكون قوله: {كُنَّ} مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لابد وأن يكون محدثاً فقوله: {كُنَّ} لا يجوز أن يكون قديماً، ولا جائز أيضاً أن يكون قوله: {كُنَّ} محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: {كُنَّ} وقوله: {كُنَّ} أيضاً محدث فيلزم افتقار: {كُنَّ} آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: {كُنَّ}.
الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود، والأول: باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، والثاني: أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً وذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هوالذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله: {كُنَّ} فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله: {كُنَّ} وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ.
الحجة الخامسة: أن {كُنَّ} لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن {كُنَّ} كلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما، فإن كان الأول لم يكن لكلمة {كُنَّ} أثر البتة، بل التأثير لأحد هذين الحرفين، وإن كان الثاني فهو محال، لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلاً، وحين جاء الثاني فقد فات الأول، وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] بين أن قوله: {كُنَّ} متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: {كُنَّ} في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، وإذا ثبت هذا فنقول لابد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
الثاني: أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل.
الثالث: أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم؛ {كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} [البقرة: 65] ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم.
الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال