سورة يونس / الآية رقم 27 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وَجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

يونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونسيونس




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)}.
التفسير:
الإنسان.. وما ينزل من السماء:
قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ..}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن وجه هذه الحياة الدنيا، التي ذكرت الآية السابقة تعلق الناس بمتاعها، وركوبهم مراكب البغي والطغيان في سبيل المتاع بها.
وقد صورت الآية الكريمة هنا الحياة الدنيا في ألوانها، وزخارفها، التي تغرى الناس بها، وتفتنهم فيها- بما نزل من السماء، فخالط نبات الأرض، فأخرج حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، ولبست الأرض من ذلك كله حلة زاهية مختلفة الأصباغ والألوان، وبدت كأنها العروس في ليل عرسها.. ثم إذا إعصار مجنون ملتهب، يمس هذه الجنّات المعجبة، وتلك الزروع المونقة، ويضربها بجناحيه، فإذا هى حصيد تذروه الرياح، وبباب قفر يضلّ به القطا.
وفى قوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها} إشارة إلى تمكن أصحابها من جنى ثمارها، وتناول قطوفها.. إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر.. فإذا اجتاحتها آفة وهى على تلك الحال من الجمال والنضارة، كان ذلك أوجع وأفجع لأهلها.. كما يقول الشاعر:
إن الفجيعة في الرياض نواضرا *** لأجلّ منها في الرياض ذوابلا
وفى قوله تعالى: {أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.
الحصيد ما حصد من الزروع بعد نضجه.. و{تغن}.
بمعنى تكون، أو توجد، على حال من الاستقرار والثبات.. يقال غنى بالمكان، أي أقام فيه واستقرّ.
وفى إسناد الاستقرار إلى الأرض، مع أن الاستقرار إنما هو لأهلها، إشارة إلى أنها بما لبسها من حياة، وما نبض في عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حلل وحلى. قد أصبحت كائنا حيّا، مستغنيا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.
وفى تشبيه الحياة الدنيا، وما يلبس الناس فيها من ألوان الحياة والسلطان، وما يقع لأيديهم منها من مال ومتاع- في تشبيه هذه الحياة بالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط بنبات الأرض، ويلبس هذه المظاهر التي يشكلها من هذا النبات، ويصيرها جنّات وزروعا، وزهرا، وفاكهة وحبّا.
في هذا التشبيه إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من الآيات الدالة على علوّ متنزّله.
فالإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومادة من موادها.. إنه ماء من هذا الماء.. هكذا هو في أصله ومادة تكوينه.. يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [20: المرسلات].
ويقول سبحانه: {خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً} [54: الفرقان].. ويقول جل شأنه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ} [5- 6: الطارق].
هذا الإنسان الذي هو ابن الماء.. يخالط الحياة، ويتحرك في أحشاء الوجود، وسرعان ما يصبح هذا الكائن، أو هذا الكون الذي يمشى على الأرض، وكأنه جنة قد أخذت زخرفها وازينت.. بملأ الأرض تيها وعجبا، ويمشى عليها مختالا فخورا، يكاد يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.
وهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويختلط به نبات الأرض، وقد عرفت شأنه، وما يصنع من هذا النبات.. أليس هو هو الإنسان ابن الماء والطين؟ ثم أليس هذا الإنسان الذي هو محصول هذا الماء، ومنبت ذلك الطين، يصير حصيدا هشيما، كما يصير النبات ابن الماء والطين حصيدا هشيما؟
إن التطابق بين الصورتين على هذا التصوير المعجز، هو آية من آيات اللّه.. ليس في مقدور بشر أن يمسك بخيط من خيوط نسجه المحكم الرائع! وهل هذا كل ما هنالك من هذا الإعجاز في هذه الصورة؟ ومعاذ اللّه أن ينفد إعجاز كلامه، أو ينقطع جنى ثمره، على مدى الأزمان، وعلى كثرة الواردين والطاعمين.
انظر في قوله تعالى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}.
وأكاد أدعك لتكشف عن سرّ هذا النظم، الذي جعل اختلاط نبات الأرض بالماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات.. هكذا: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنسانىّ لهذه الظاهرة.
فالماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسرى في كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى، وهكذا نقدّر! ولكنّ عين المقدرة ترى مالا نرى، وتعلم مالا نعلم! فإن كنت تنكر هذه القدرة، أو تشك في هذا العلم، فهات قدرتك، واستحضر علمك، وقل لى ماذا ترى هناك؟ وماذا تعلم مما بين الماء والنبات؟.
أيهما المختلط وأيهما المختلط به؟ وأيهما الفاعل وأيهما المفعول به؟
ودع عنك ما أنت فيه من نظر، وعلم.
وانظر في كلمات اللّه تلك، وخذ العلم الحق منها.
ولن أدعك كما قلت لك.. بل سأنظر معك، وأتلقى العلم في صحبتك!
الماء، والنبات.. حين يلتقيان.. ماذا يحدث عند التقائهما؟ وماذا يكون من هذا اللقاء؟
وليكن في تقديرك- قبل الإجابة على هذا التساؤل- أن المراد بالنبات هنا، هو نبات الأرض، أي بذرة النبات التي تغرس في الأرض، لا النبات حين يكون نباتا.. فإنه في تلك الحال، لا يكون مجرد نبات، بل هو الماء والنبات معا.. وأن لقاء قد كان بين الماء وبذرة النبات حتى أصبح نباتا، وإلا فهو بذرة، أو حبة، وليس نباتا وإذا تقرر هذا.. فلنجب على هذا السؤال: ماذا يحدث من التقاء الماء بالبذرة أو الحبة؟
البذرة أو الحبة التي تقلّبها بين يديك، ليست شيئا ميّتا- كما يبدو لنا- بل هى كائن حىّ، يحتفظ في كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر من يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور.. وذلك لا يكون إلا بأمرين:
أولا: غرسها في الأرض.. وثانيا: وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين بهذا الماء.
هنا تبدأ الحياة الكامنة في البذرة، أو الحبّة تتحرك، وتأخذ طريقها إلى الماء المختلط بالتراب، أعنى الطين، فتجذبه إليها، وتفتح له الطريق إلى الحياة الكامنة فيها، وتأخذ منه ما يروى ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق التي ائتمنها عليها.
فالبذرة أو النبتة إذن هى الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها.
وما الماء، وما التراب، وما الطين إلا عناصر مساعدة. فالحبة إذن هى الداعية لتلك العناصر، الطالبة للاختلاط بها.. ومن هنا جاء النظم القرآنى.. {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا.. كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}!!
أرأيت إذن سر هذا النظم، الذي أسند الاختلاط بالماء إلى البذرة أو الحبة.. والذي لو جاء على عكس هذا، فأسند الاختلاط بالحبة إلى الماء، لكان خطأ علميا، يناقض ما كشف عنه علم الأحياء اليوم.
وهذا الذي حدثنك عنه لا يمثل إلا وجها واحدا من الصورة، هو وجه الماء والنبات.
أما الوجه الآخر، وهو الإنسان المقابل لهذا الوجه.. فهذا ما نقص عليك من أمره:
هذا الإنسان وإن كان نبتة من نبات الأرض، فإنه هو الماء الذي يبعث الحياة في موجوداتها، ويكشف عن القوى الكامنة.. فهو- بهذا- قائم على ذلك الوصف الذي أنبأ عنه التشبيه في قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ}.
ويكون من هذا أن الحياة الدنيا هى هذا {الإنسان}.
وأنه لولا هذا الإنسان لما كانت تلك الحياة الدنيا، وما تنبض به عروقها من حياة دافقة، في كل وجه من وجوهها..!
فالإنسان هو الحياة الدنيا.. وهو الماء الذي يثير الحياة، بل ويخلق الحياة في كل ما على هذه الدنيا.. كما يبعث الماء الحياة في الأحياء، بل وكما تتخلق منه الحياة، كما يقول اللّه تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [30: الأنبياء].
وانظر مرة أخرى في قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}..
وضع {الإنسان} أو {الناس} مكان الحياة الدنيا تجد:
أولا: الإنسان- الذي هو من الماء- والوجود الذي أقامه هذا الإنسان من عالم الموات فكان تلك الحياة الدنيا- كالماء المنزل من السماء، وما أثار في الأرض من انطلاق الحياة الكامنة فيها.
وثانيا: الإنسان ودنياه التي صنعها بيده، ونسج خيوطها بعقله ويده- هو زرع، يبزغ، ويخضر، ويمتد، ويزهر، ويثمر، ثم يكون حصيدا هشيما، كهذا النبات الذي يملأ وجه الأرض حياة وجمالا، ثم يصير هشيما تذروه الرياح..!
وثالثا: هذا الإنسان الذي هو ابن ماء السماء.. فيه نفخة من اللّه ونفحة من روحه.. قد جاء إلى هذه الأرض من عل، فغيّر معالمها، وزين وجوهها.. تماما كما ينزل ماء الغيث من السماء إلى الأرض فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
ورابعا: الإنسان- ابن ماء السماء هذا- وإن كان علوىّ المتنزل، فإن منبته من الأرض، جاء منها، وارتفع فوق سمائها، ثم استوى عليها.
تماما كماء الغيث.. كان على الأرض، ثم كان سماء فوقها، ثم عاد إليها واختلط بها.
هذا، ولك أن تذهب إلى ما لا ينتهى، في عد ما يؤديه إليك النظر، من مطالعة وجه الآية الكريمة، على امتداد هذه النظرة.. ثم لك أيضا بعد هذا أن تدير نظرك إلى أكثر من اتجاه غير هذا الاتجاه.. وستجد معطيات كثيرة لا تنتهى..!
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تحدثت عن الحياة الدنيا، وكشفت عن أنها دار فناء، لا بقاء لشىء فيها، وإن زها وازدهر.. لا تبيت أحدا على جناح أمن أبدا، وإن أمكنته من كل أسباب السلطان والقوة والعزة.
فهو على طريق ينتهى به دائما إلى نهاية، هى الموت..!!
هذه هى الدار التي كشفت عنها الآية السابقة، وهى دار متاعها غرور، وظلها زائل.. لا يغتربها، ولا يثق فيها إلا من استجاب لداعى هواه، ووساوس شيطانه.
أما الدار التي تشير إليها هذه الآية: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ..}.
فهى الدار الآخرة، وهى دار أمن وسلام، وخلود، يدعو إليها اللّه سبحانه وتعالى عباده، ويبعث فيهم رسله ليدلوهم عليها، وليكشفوا لهم معالم الطريق إليها.. فمن استجاب لدعوة اللّه، وصدّق برسله، واستقام على دعوتهم، كان من أهل هذه الدار، ومن أهل السلامة والأمن والنجاة، والفوز بنعيم الجنات، وبرضوان اللّه..!
وفى قوله تعالى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} إشارة إلى أنه ليس كل مدعوّ إلى هذه الدار بمستجيب للدعوة، إلا من وفقه اللّه، وشرح صدره لقبول هذه الدعوة، والاستجابة لها.
فالدعوة عامة.. موجهة من اللّه تعالى، إلى عباد اللّه جميعا.. ولكن من كان ممن رضى اللّه عنهم، وأحب أن يكون ضيفا على مائدة فضله وكرمه- جعلنا للّه منهم- هشّ للدعوة وسعى حثيثا إلى جنات ربه، وأما من غلبت عليهم شقوتهم، واستبدت بهم شياطينهم- وعافانا اللّه من هذا البلاء- فإنهم في صمم عن دعوة للّه، لا يسمعونها ولا يستجيبون لها إذا سمعوها.
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
الرّهق: علوّ الشيء للشىء، وغلبته له، وتمكنه منه، بعد أن ينهكه ويرهقه.. كالمتسابقين في الجري مثلا.. يرهق أحدهما الآخر، ويسبقه، بعد أن يجهده ويكدّه! والقتر: الغبار.. وهو هنا كناية عن الشدّة التي تصيب الإنسان، فتظهر آثارها على وجهه، فينطفئ بريقه، ويجفّ ماء الحياة منه.
وتعرض الآية الكريمة، صورة كريمة مشرقة لمن دعوا إلى دار السّلام، وأجابوا دعوة اللّه، وآمنوا به وبرسله، فكانوا من المحسنين، وكان جزاؤهم إحسانا بإحسان، وزيادة مضاعفة على هذا الإحسان.
وفى التعبير بالحسنى عن الإحسان: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى}.
إشارة إلى العاقبة، وأنها العاقبة الحسنى.. فهى تدلّ على الإحسان، وعلى زمن الإحسان معا، وأنها في الدار الآخرة، التي هى دار الجزاء الحق.
كما يقول سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [83: القصص].
وكما يقول سبحانه: {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [22- 23: الرعد].
وفى قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} تعريض بالكافرين الذين سينزل بهم هذا البلاء يوم القيامة، فيركب وجوههم الفتر، وتعلوها الذلة والهوان.
وعدم وقوع هذا بالمؤمنين المحسنين ليس جزاء لهم، وإنما هو لازم من لوازم الجزاء الحسن الذي جوزوا به، فحيث كان جزاؤهم الحسنى وزيادة، وكانت دارهم النعيم والرضوان، فإن القتر لا يطوف بهم، وإن الذّلة أبعد ما تكون عنهم.
فذكر هذا في جانب المحسنين، هو تعريض بالكافرين، الذين سيرهق وجوههم القتر وتركبهم الذلة.. ثم هو- مع هذا- تذكير للمحسنين بالنعيم الذي هم فيه، والرضوان المحفوفين به، وأنهم في عافية مما يحلّ بالكافرين من عذاب ونكال.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
ذلك هو حساب الكافرين والمشركين وأصحاب الضلالات في الآخرة، وذلك هو نزلهم يوم الدين.. وتلك هى دارهم يوم القيامة!- {جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها}.
كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال.
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ}.
أي أنهم ينزلون منازل الهوان، والبلاء.
ثم هم مع هذا في يأس قاتل، من أن تمتدّ إليهم يد تخفف عنهم ما هم فيه من عذاب ونكال.. {ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ} يعصمهم من هذا البلاء، ويحول بينهم وبينه.
{كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً}.
قد كسفت وجوههم، وعلتها غبرة، ترهقها قترة، حتى لكأنما غمست هذه الوجوه في قطعة من الليل- في ليلة حالكة السواد، لا يطلع فيها قمر، ولا يلمع فيها نجم، فكانت- لما علاها من غبرة- كأنما قدّت من هذا الليل البهيم.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ}.
فى هاتين الآيتين عرض لبعض مشاهد يوم القيامة.. يوم يحشر الناس إلى ربّهم للحساب والجزاء.
وفى هذا المشهد، ينادى منادى الحقّ على المشركين: {مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ}.
أي الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تتحركوا حتى تحاسبوا على ما ارتكبتم من آثام.
وفى هذه الدعوة الزاجرة الصادعة ما يكشف عن وجه هؤلاء القوم، وأنهم مجرمون، قد ضبطوا متلبسين بجرمهم.. وهذه يد القصاص تمسك بهم، وتقيّدهم حيث هم، إلى أن يلقوا الجزاء الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} [22- 24: الصافّات].
وفى موقف المساءلة والحساب، فرّق بين الفريقين: العابدين والمعبودين.
فأخذ كل فريق جانبا مواجها للآخر.. {فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ} أي فرقنا بينهم، وأصله من الزوال، وهو ذهاب الشيء واختفاؤه، ومنه وقت الزوال، وهو توسط الشمس في كبد السماء، حيث يختفى ظل الأشياء في هذا الوقت.
وقد جاء اللفظ القرآنى {زيّلنا} بدلا من اللفظ {فرقنا}.
لأن مع التفريق بقية أمل في الاجتماع، أما التزييل، فهو غروب إلى الأبد، واختفاء لا ظهور بعده.
وفى هذا ما يزيد في وحشة المشركين، الذين كانوا يستندون إلى من عبدوهم وأشركوا بهم، وكانوا يتأسّون بمشاركتهم فيما سيقع لهم، ففى هذه المشاركة عزاء لهم أي عزاء.. كما تقول الخنساء:
ولو لا كثرة الباكين حولى *** على إخوانهم لقتلت نفسى
وقبل أن يزايل المعبودون موقف المشركين، ينكرون ما كان بينهم من صلات عقدها المشركون معهم، على غير علم منهم.. قائلين لهم: {ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ}.
ثم يشهدون اللّه سبحانه وتعالى على ذلك: {فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ} أي إننا لا ندرى من أمركم شيئا.
و{إن} هنا هى {إنّ} المؤكدة، خفّفت.. أي إننا كنا عن عبادتكم لغافلين.
وإنكار العبودية على المشركين أنّهم عبدوهم، مع أن اللّه سبحانه وتعالى أعلمهم بهذا، إذ جمعهم بعابديهم- هذا الإنكار يراد به أن هذه العبادة لم تكن عن علم من المعبودين، أو عن دعوة منهم لعابديهم.. فهو تقرير لواقع الأمر، حين وقعت هذه العبادة، وذلك أنهم إنما كانوا يعبدون أصناما جامدة، وأحجارا صمّاء، لا تدرى من أمر عابديها شيئا.. أو بشرا اتخذوهم آلهة لهم بعد موتهم، كما قالت اليهود عن عزيز، وكما قالت النصارى عن المسيح.. وهذا ما يشير إليه قولهم بعد هذا {فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ}.
قوله تعالى: {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} {تبلو}: من الابتلاء، وهو الاختيار للشىء، والتعرف على حقيقته.
و{أسلفت} أي ما سلف لها من عمل، وما كان لها من سعى.
والمعنى: أنه في هذا الموقف، موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، تعرف كلّ نفس ما قدمت من عمل في دنياها لآخرتها.
فهناك يرى الناس أعمالهم على حقيقتها، حيث يكشف الغطاء عن وجوهها، فيعرف الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والهدى من الضلال.. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ} [6: الزلزلة]- وفى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} إشارة إلى ما كان يتعامل به المشركون والكافرون من ضلالات ومنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً} [105: الكهف].




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال