سورة البقرة / الآية رقم 158 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الـرَّحِيم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


الصفا: ألفه منقلبة عن واو لقولهم: صفوان، ولاشتقاقه من الصفو، وهو الخالص. وقيل: هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث، ومفرده صفاة. وقيل: هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال، قالوا: صفيّ وأصفاء. مثل: قفيّ وأقفاء. وتضم الصاد في فعول وتكسر، كعصي، وهو الحجر الأملس. وقيل: الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين، أو تراب يتصل به، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق. وقيل: هو الصخرة العظيمة. المروة: واحدة المرو، وهو اسم جنس، قال:
فترى المرو إذا ما هجرت *** عن يديها كالفراش المشفتر
وقالوا: مروان في جمع مروة، وهو القياس في جمع تصحيح مروة، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: الحجارة الصلبة. وقيل: الصغار المرهفة الأطراف. وقيل: الحجارة السود. وقيل: البيض. وقيل: البيض الصلبة. والصفا والمروة في الآية: علمان لجبلين معروفين، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة، كهما في البيت: للكعبة، والنجم: للثريا، الشعائر: جمع شعيرة أو شعارة. قال الهروي: سمعت الأزهري يقول: هي العلائم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها. وقال الزجاج: كل ما كان من موقف ومشهد ومسعى ومذبح. وقد تقدّمت لنا هذه المادة، أعني مادة شعر، أي أدرك وعلم. وتقول العرب: بيتنا شعار: أي علامة، ومنه أشعار الهدى. الحج: القصد مرة بعد أخرى. قال الراجز:
لراهب يحج بيت المقدس *** في منقل وبرجد وبرنس
والاعتمار: الزيارة. وقيل: القصد، ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني: كالبيت والنجم في الأعيان. وقد تقدّمت هاتان المادّتان في يحاجوكم وفي يعمر. الجناح: الميل إلى المأثم، ثم أطلق على الإثم. يقال: جنح إلى كذا جنوحاً: مال، ومنه جنح الليل: ميله بظلمته، وجناح الطائر. تطوّع: تفعل من الطوع، وهو الانقياد. الليل: قيل هو اسم جنس، مثل: تمرة وتمر، والصحيح أنه مفرد، ولا يحفظ جمعاً لليل، وأخطأ من ظنّ أن الليالي جمع الليل، بل الليالي جمع ليلة، وهو جمع غريب، ونظيره: كيكه والكياكي، والكيكة: البيضة، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة: لييلية، وقد صرحوا بليلاه في الشعر، قال الشاعر:
في كل يوم وبكل ليلاة ***
على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعاً نحو:
أعوذ باللَّه من العقراب ***
وقال ابن فارس: بعض الطير يسمى ليلاً، ويقال: إنه ولد الحبارى. وأما النهار: فجمعه نهر وأنهرة، كقذل وأقذلة، وهما جمعان مقيسان فيه. وقيل: النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء يقع على القليل والكثير، وليس بصحيح. قال الشاعر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر *** ثريد ليل وثريد بالنهر
ويقال: رجل نهر، إذا كان يعمل في النهار، وفيه معنى النسب.
قالوا: والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعدي: «إنما هو بياض النهار وسواد الليل»، يعني في قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار. وقال النضر بن شميل: ويغلب أول النهار طلوع الشمس. زاد النضر: ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال الزجاج، في (كتب الأنواء): أول النهار ذرور الشمس، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت:
والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد
وقال عدي بن زيد:
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
والمصر: القطع. وأنشد الكسائي:
إذا طلعت شمس النهار فإنها *** أمارة تسليمي عليك فودّعي
وقال ابن الأنباري: من طلوع الشمس إلى غروبها نهار، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار. وقد تقدمت مادّة نهر في قوله: {تجري من تحتها الأنهار} الفلك: السفن، ويكون مفرداً وجمعاً. وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد، وإذا استعمل مفرد أثنى، قالوا: فلكان. وقيل: إذا أريد به الجمع، فهو اسم جمع، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد، ولا تقدر بغيرها. وإذا كان مفرداً فهو مذكر، كما قال: {في الفلك المشحون} وقالوا: ويؤنث تأنيث المفرد، قال: {والفلك التي تجري}، ولا حجة في هذا، إذ يكون هنا استعمل جمعاً، فهو من تأنيث الجمع، والجمع يوصف بالتي، كما توصف به المؤنثة. وقيل: واحد الفُلك، فَلَك، كأُسُد وأَسَد، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء الذي تدور فيه النجوم، وفلكة المغزل، وفلكة الجارية: استدرار نهدها. بث: نشر وفرق وأظهر. قال الشاعر:
وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب ***
ومضارعه: يبث، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلاّ ما شذ. الدابة: اسم لكل حيوان، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة:
كأنهم صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهنّ دبيب
ويقول الأعشى:
دبيب قطا البطحاء في كل منهل ***
وفعله: دب يدب، وهذا قياسه لأنه لازم، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة، والهاء في الدابة للتأنيث، إما على معنى نفس دابة، وإما للمبالغة، لكثرة وقوع هذا الفعل، وتطلق على الذكر والأنثى. التصريف: مصدر صرف، ومعناه: راجع للصرف، وهو الرد. صرفت زيداً عن كذا: رددته. الرياح: جمع ريح، جمع تكسير، وياؤه واو لأنها من راح يروح، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها، وحين زال موجب القلب، وهو الكسر، ظهرت الواو، وقالوا: أرواح، كجمع الروح. قال الشاعر:
أريت بها الأرواح كل عشية *** فلم يبق إلا ال نؤي منضد
قال ابن عطية: وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره، ولحن في ذلك.
وقال أبو حاتم: إن الأرياح لا يجوز، فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال له: صدقت ورجع. انتهى. وفي محفوظي قديماً أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم، كأنهم بنوه على المفرد، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، وإنما ذلك من العود، لكنه لما لزم البدل جعله كالحرف الأصلي. السحاب: اسم جنس، المفرد سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما يقال له: حبى، لأنه يحبو، قاله أبو علي. التسخير: هو التذليل وجعل الشيء داخلاً تحت الطوع. قال الراغب: التسخير: القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه. الحب: مصدر حب يحب، وقياس مضارعه يحب بالضم، لأنه من المضاعف المتعدي، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء، ويقال: أحب، بمعنى: حب، وهو أكثر منه، ومحبوب أكثر من محب، ومحب أكثر من حاب، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه، قال الشاعر:
ثلاثة أحباب فحب علاقة *** وحب تملاق وحب هو القتل
والحب: إناء يجعل فيه الماء. الجميع: فعيل من الجمع، وكأنه اسم جمع، فلذلك يتبع تارة بالمفرد: {نحن جميع منتصر}، وتارة بالجمع: {جميع لدينا محضرون} وينتصب حالاً: جاء زيد وعمرو جميعاً، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل. تبرأ: تفعل، من قولهم: برئت من الدين. براءة: وهو الخلوص والانفصال والبعد. تقطع: تفعل من القطع، وهو معروف. الأسباب: جمع سبب، وهو الوصلة إلى الموضع، والحاجة من باب، أو مودة، أو غير ذلك. قيل: وقد تطلق الأسباب على الحوادث، قال الشاعر:
ومن هاب أسباب المنية يلقها *** ولو رام أسباب السماء بسلم
وأصل السبب: الحبل، وقيل: الذي يصعد به، وقيل: الرابط الموصل. الكرّة: العودة إلى الحالة التي كان فيها، والفعل كر يكر كراً، قال الشاعر:
أكر على الكتيبة لا أبالي *** أحتفي كان فيها أم سواها
الحسرة: شدة الندم، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله..
{إن الصفا والمروة من شعائر الله}، سبب النزول: أن الأنصار كانوا يحجون لمناة، وكانت مناة خزفاً وحديداً، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا، فأنزلت. وخرّج هذا السبب في الصحيحين وغيرهما. وقد ذكر في التحرّج عن الطواف بينهما أقوال. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله تعالى لما أثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن وكان أحد أركان الإسلام، ناسب ذكره بعد ذلك. والصفا والمروة، كما ذكرنا، قيل: علمان لهذين الجبلين، والأعلام لا يلحظ فيها تذكير اللفظ ولا تأنيثه.
ألا ترى إلى قولهم: طلحة وهند؟ وقد نقلوا أن قوماً قالوا: ذكّر الصفا، لأن آدم وقف عليه، وأنثت المروة، لأن حوّاء وقفت عليها. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يدعى أسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدم المذكر. نقل القولين ابن عطية: ولولا أن ذلك دوّن في كتاب ما ذكرته. ولبعض الصوفية وبعض أهل البيت كلام منقول عنهم في الصفا والمروة، رغبنا عن ذكره. وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله، بل ذلك على حذف مضاف، أي إن طواف الصفا والمروة، ومعنى من شعائر الله: معالمه. وإذا قلنا: معنى من شعائر الله من مواضع عبادته، فلا يحتاج إلى حذف مضاف في الأول، بل يكون ذلك في الجر. ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة. بين تعالى ذلك بقوله: {فمن حج البيت أو اعتمر}، ومن شرطية. {فلا جناح عليه أن يطوّف بهما}، قرأ الجمهور: أن يطوّف. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر: أن لا، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة لا، نحو: {ما منعك أن لا تسجد} وقوله:
وما ألوم البيض أن لا تسخرا *** إذا رأين الشمط القفندرا
فتتحد معنى القراءتين، ولا يلزم ذلك، لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه، إذ هو تخيير بين الفعل والترك، نحو قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} فعلى هذا تكون لا على بابها للنفي، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصاً، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصاً، وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك، فليس الطواف بهما واجباً، وهو مروي عن ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وعطاء، ومجاهد، وأحمد بن حنبل، فيما نقل عنه أبو طالب، وأنه لا شيء على من تركه، عمداً كان أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه. ومن ذهب إلى أنه ركن، كالشافعي وأحمد ومالك، في مشهور مذهبه، أو واجب يجبر بالدم، كالثوري وأبي حنيفة، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، كأبي حنيفة في بعض الرّوايات، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآني. وقول عائشة لعروة حين قال لها: أرأيت قول الله: {فلا جناح عليه أن يطوّف بهما}، فما نرى على أحد شيئاً؟ فقالت: يا عرية، كلا، لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف، لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل، وإذا كان مباحاً كنت مخيراً بين فعله وتركه.
وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما، لم يعد طائفاً. ودلت الآية على مطلق الطواف، لا على كيفية، ولا عدد. واتفق علماء الأمصار على أن الرّمل في السعي سنة. وروى عطاء، عن ابن عباس: من شاء سعى بمسيل مكة، ومن شاء لم يسع، وإنما يعني الرمل في بطن الوادي. وكان عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى. وسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ليرى المشركين قوته. فيحتمل أن يزول الحكم بزوال سببه، ويحتمل مشروعيته دائماً، وإن زال السبب، والركوب في السعي بينهما مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند مالك الركوب في السعي، ولا في الطواف بالبيت، إلا من عذر، وعليه إذ ذاك دم. وإن طاف راكباً بغير عذر، أعاد إن كان بحضرة البيت، وإلا أهدى. وشكت أم سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» ولم يجئ في هذا الحديث أنه أمرها بدم. وفرق بعض أهل العلم فقال: إن طاف على ظهر بعير أجزاه، أو على ظهر إنسان لم يجزه. وكون الضمير مثنى في قوله: بهما، لا يدل على البداءة بالصفا، بل الظاهر أنه لو بدأ بالمروة في السعي أجزأه، ومشروعية السعي، على قول كافة العلماء، البداءة بالصفا. فإن بدأ بالمروة، فمذهب مالك، ومشهور مذهب أبي حنيفة، أنه يلغي ذلك الشوط، فإن لم يفعل، لم يجزه. وروي عن أبي حنيفة أيضاً: إن لم يلغه، فلا شيء عليه، نزله بمنزلة الترتيب في أعضاء الوضوء. وقرأ الجمهور: يطوف وأصله يتطوّف، وفي الماضي كان أصله تطوف، ثم أدغم التاء في الطاء، فاحتاج إلى اجتلاب همزة الوصل، لأن المدغم في الشيء لا بدّ من تسكينه، فصار أطوف، وجاء مضارعه يطوف، فانحذفت همزة الوصل لتحصين الحرف المدغم بحرف المضارعة. وقرأ أبو حمزة: أن يطوف بهما، من طاف يطوف، وهي قراءة ظاهرة. وقرأ ابن عباس وأبو السمال: يطاف بهما، وأصله: يطتوف، يفتعل، وماضيه: اطتوف افتعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء، كما قلبوا في اطلب، فهو مطلب، فصار: أطاف، وجاء مضارعه: يطاف، كما جاء يطلب: ومصدر اطوف: اطوّفا، ومصدر اطاف: اطيافاً، عادت الواو إلى أصلها، لأن موجب إعلالها قد زال، ثم قلبت ياء لكسرة ما قبلها، كما قالوا: اعتاد اعتياداً، وأن يطوف أصله، في أن يطوف، أي لا إثم عليه في الطواف بهما، فحذف الحرف مع أن، وحذفه قياس معها إذا لم يلبس، وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون: أن يطوّف، في موضع رفع، على أن يكون خبراً أيضاً، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في عليه.
وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.
{ومن تطوّع خيراً}: التطوّع: ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك. ألا ترى إلى قوله في حديث ضمام: هل عيّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، أي تتبرّع. هذا هو الظاهر، فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان، وهو قول الحسن؛ أو بالنفل على واجب الطواف، قاله مجاهد، أو بالعمرة، قاله ابن زيد؛ أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه، أو بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول من أسقط وجوب السعي، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، حمل هذا على الطواف بهما، كأنه قيل: ومن تبرع بالطواف بينهما، أو بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة، أقوال ستة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: تطوّع فعلاً ماضياً هنا، وفي قوله: {فمن تطوّع خيراً فهو خير له}، فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوّع بخير. ويطوّع أصله: يتطوّع، كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً.
{فإن الله شاكر عليم}: هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً، فهي جملة في موضع خبر المبتدأ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة. وشكر الله العبد بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء. وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل. وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن، لأن التطوّع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم، وإن كانت متقدمة، على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي.
{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى}: الآية نزلت في أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عباس: أن معاذاً سأل اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه إياه، فأنزل الله هذه الآية.
والكاتمون هم أحبار اليهود وعلماء النصارى، وعليه أكثر المفسرين وأحبار اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوه. ما أنزلنا: فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم. والبينات: هي الحجج الدالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم. والهدى: الأمر باتباعه، أو البينات والهدى واحد، والجمع بينهما توكيد، وهو ما أبان عن نبوّته وهدى إلى اتباعه. أو البينات: الرجم والحدود وسائر الأحكام، والهدى: أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى.
{من بعد ما بيناه للناس في الكتاب}: الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور: بيناه مطابقة لقوله: أنزلنا. وقرأ طلحة بن مصرّف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب. والناس هنا: أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإِنجيل، وقيل: الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن. والأولى والأظهر: عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه. وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال: لو بثثته لقطع هذا البلعوم. وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ: الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة. انتهى كلامه.
{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}: هذه الجملة خبر إن.
واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: {إن الذين يكتمون}. ولذلك أتى صلة الذين فعلاً مضارعاً ليدل أيضاً على التجدد، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون: كل من يتأتى منهم اللعن، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين، قاله الربيع بن أنس؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب، إذا وضع في قبره وعذب فصاح، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين؛ أو البهائم والحشرات، قاله مجاهد وعكرمة، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها، لأن اللعن هو الطرد؛ أو الملائكة؛ قاله قتادة؛ أو المتلاعنون، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود، قاله ابن مسعود؛ والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل، إذ صدرت منه اللعنة، وهي من فعل من يعقل، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً.
{إلا الذين تابوا}: هذا استثناء متصل، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان إلى الإظهار. {وأصلحوا} ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال. {وبينوا}: أي الحق الذي كتموه، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها، أو ما في التوراة والإِنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم، أو ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. {فأولئك}: إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. {أتوب عليهم}: أي أعطف عليهم، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة. {وانا التواب الرحيم}: تقدم الكلام في هاتين الصفتين، وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.
وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة، منها أن كتمان العلم حرام، يعنون علم الشريعة لقوله: {ما أنزلنا من البينات}، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه، وأن يكون متعيناً لذلك. فإن لم يكن من أمور الشرائع، فلا تحرج في كتمها. روي عن عبد الله أنه قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حدث الناس بما يفهمون» أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ قالوا: والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه، كما فعل أبو هريرة، وإن لم يتعين عليه فكذلك، ما لم يسأل فيتعين عليه، ومنها: تحريم الأجرة على تعليم العلم، وقد أجازه بعض العلماء. ومنها: أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرّف به إلى مكاره الرعية، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقاً إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات. ومنها: وجوب قبول خبر الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله، لأن قوله من البينات والهدى يعم المنصوص والمستنبط وجواز لعن من مات كافراً، وقال بعض السلف: لا فائدة في لعن من مات أو جنّ من الكفار، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين. وقال بعضهم بوجوبها، وأما الكافر المعين فجمهور العلماء على أنه لا يجوز لعنه. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً بأعيانهم. وقال ابن العربي: الصحيح عندي جواز لعنه. وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من المسلمين. وذكر بعض العلماء فيه خلافاً، وبعضهم تفصيلاً، فأجازه قبل إقامة الحدّ عليه. ومنها: أن التوبة المعتبرة شرعاً أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول، فإن كان مرتداً، فبالرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه، أو عاصياً، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد. وأما التوبة باللسان فقط، أو عن ذنب واحد، فليس ذلك بتوبة. وقد تقدم الكلام في التوبة مشبعاً.
{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله}: لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب، ذكر حال من مات مصراً على الكفر، وبالغ في اللعنة، بأن جعلها مستعلية عليه، وقد تجللته وغشيته، فهو تحتها، وهي عامة في كل من كان كذلك. وقال أبو مسلم: هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين، ثم ذكر حال التائبين، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم.
ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة، ذكر أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات. والجملة من قوله: {وهم كفار}، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر إن، ولعنة الله مبتدأ، خبره عليهم. والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد بكونه خبراً لذي خبر، فيرفع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجمل.
وقرأ الجمهور: {والملائكة والناس أجمعين}، بالجر عطفاً على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك: {ألا لعنة الله على الظالمين}، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل: أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت: هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجئ بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل.
فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد وعمراً: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمراً. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: {واسئل القرية} الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم. وظاهر قوله: والناس أجمعين العموم، فقيل ذلك يكون في القيامة، إذ يلعن بعضهم بعضاً، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون، فصار عاماً، وبه قال أبو العالية. وقيل: أراد بالناس من يعتد بلعنته، وهم المؤمنون خاصة، وبه قال ابن مسعود، وقتادة، والربيع، ومقاتل. وقيل: الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقولون: في الدنيا لعن الله الكافر، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار، بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً. {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله}؟ من لعنه الله، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس. ألا ترى إلى قول بعض الصحابة: وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله؟ وكما روي عن أحمد، أن ابنه سأله: هل يلعن؟ وذكر شخصاً معيناً. فقال لابنه: يا بني، هل رأيتني ألعن شيئاً قط؟ ثم قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ قال فقلت: يا أبت، وأين لعنة الله؟ قال: قال تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} ثم ثنى بالملائكة، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلث بالناس، لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.
{خالدين فيها}: أي في اللعنة، وهو الظاهر، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ إلا اللعنة. وقيل: يعود على النار، أضمرت لدلالة المعنى عليها، ولكثرة ما جاء في القرآن من قوله: خالدين فيها، وهو عائد على النار، ولدلالة اللعنة على النار، لأن كل من لعنه الله فهو في النار. {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}: سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف}، الآية، فأغنى عن إعادته هنا. إلا أن الجملة من قوله: {لا يخفف} هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم.
ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: {لا يخفف}، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب. وفي آخر الجملة الثانية، هناك: ولا ينصرون، نفى عنهم النصر، وهنا: ولا هم ينظرون، نفي الأنظار، وهو تأخير العذاب.
{وإلهكم إله واحد} الآية. روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش، قالوا: يا محمد، صف وانسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية. وروي عنه أيضاً أنه كان في الكعبة، وقيل حولها، ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله، فنزلت. وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى. ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال: صف لنا ربك وانسبه، أو خطاباً لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار. وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً. والواحد المراد به نفي النظير، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء، أو المتوحد في استحقاق العبادة. أقوال أربعة أظهرها الأول. تقول: فلان واحد في عصره، أي لا نظير له ولا شبيه، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.
{لا إله إلا هو}: توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره. وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية. وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله: {لا ريب فيه}، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبراً. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الإسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضاً، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد.
كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلاً على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيداً، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافاً.
وقال في المنتخب: لما قال تعالى: {وإلهكم إله واحد}، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال: لا إله إلا هو. فقوله: لا إله يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: إلا الله، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق. ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، والتقدير: لا إله لنا، أو في الوجود، إلا الله، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: {وإلهكم إله واحد}، وبين قوله: {لا إله إلا هو فرق}، فيكون ذلك تكراراً محضاً، وأنه غير جائز. وأما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفياً لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، وإنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، ونفي الشركاء والأنداد. انتهى الكلام.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن): هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
وأما قوله: إذا لم يضمر كان نفياً للماهية، قلنا: نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
{الرحمن الرحيم}: ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم».
{إن في خلق السموات والأرض}: روي أنه لما نزل {وإلهكم} الآية، قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل: {إن في خلق}. ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون. فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال: {إن في خلق السموات}. وخلقها: إيجادها واختراعها، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم: خلق فلان حسن: أي خلقته وشكله. وقيل: خلق هنا زائدة والتقدير: إن في السموات والأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء. والآيات في المشاهد من السموات والأرض، لا في الإرادة، وهذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، ولأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشئ عن الإرادة. قالوا: وجمع السموات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأحرى، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب. وبدأ




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال