سورة الرعد / الآية رقم 22 / تفسير تفسير الشعراوي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ

الرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعدالرعد




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22)}
ونجد هذه الآية معطوفة على ما سبقها من صفات أولي الألباب الذين يتذكَّرون ويعرفون مَواطن الحق بعقولهم اهتداءً بالدليل؛ الذين يُوفون بالعهد الإيماني بمجرد إيمانهم بالله في كُلِّيات العقيدة الوحدانية، ومُقْتضيات التشريع الذي تأتي به تلك العقيدة.
ولذلك جعلها سبحانه صفقة أوضحها في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً...} [التوبة: 111].
وهي صفقة إيجاب وقَبُول، والعهد إيجاب وقبول؛ وهو ميثاق مُؤكَّد بالأدلة الفِطْرية أولاً، والأدلة العقلية ثانياً.
وهُمْ في هذه الآية مَنْ صبروا ابتغاءَ وجه ربهم، والصبر هو تحمُّل متاعب تطرأ على النفس الإنسانية لتخريجها عن وقار استقامتها ونعيمها وسعادتها، وكل ما يُخرِج النفس الإنسانية عن صياغة الانسجام في النفس يحتاج صبراً.
والصبر يحتاج صابراً هو الإنسان المؤمن، ويحتاج مَصْبوراً عليه؛ والمَصْبور عليه في الأحداث قد يكون في ذات النفس؛ كأنْ يصبر الإنسان على مشقَّة التكليف الذي يقول (افعل) و(لا تفعل).
فالتكليف يأمرك بترْكِ ما تحب، وأنْ تنفذ بعض ما يصعب عليك، وأن تمتثل بالابتعاد عما ينهاك عنه، وكُلُّ هذا يقتضي مُجَاهدة من النفس، والصبر الذاتي على مشَاقِّ التكليف.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصلاة مثلاً: {... وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45].
وهذا صَبْر الذَّات على الذات. ولكن هناك صَبْر آخر؛ صبر منك على شيء يقع من غيرك؛ ويُخرِجك هذا الشيء عن استقامة نفسك وسعادتها.
وهو ينقسم إلى قسمين: قسم تجد فيه غريماً لك؛ وقسم لا تجد فيه غريماً لك.
فالمرض الذي يُخرِج الإنسان عن حَيِّز الاستقامة الصِّحية ويُسبِّب لك الألم؛ ليس لك فيه غريم؛ لكنك تجد الغريم حين يعتدي عليك إنسانٌ بالضرب مثلاً؛ ويكون هذا الذي يعتدي عليك هو الغريم لك.
وكل صبر له طاقة إيمانية تحتمله؛ فالذي يَقْدر على شيء ليس فيه غريم؛ يكون صَبْره معقولاً بعض الشيء؛ لأنه لا يوجد له غريم يهيج مشاعره.
أما صبر الإنسان على أَلم أوقعه به مَنْ يراه أمامه؛ فهذا يحتاج إلى قوة ضَبْط كبيرة؛ كي لا يهيج الإنسان ويُفكِّر في الانتقام.
ولذلك تجد الحق يفصل بين الأمرين؛ يفصل بين شيء أصابك ولا تجد لك غريماً فيه، وشيء أصابك ولك من مثلك غريمٌ فيه.
ويقول سبحانه عن الصبر ليس لك غريم فيه: {... واصبر على ما أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17].
ويقول عن الصبر الذي لك فيه غريم، ويحتاج إلى كَظْم الغيظ، وضبط الغضب: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].
وحينما يريد الحق سبحانه منك أن تصبر؛ فهو لا يطلب ذلك منك وحدك؛ ولكن يطلب من المقابلين لك جميعاً أنْ يصبروا على إيذائك لهم؛ فكأنه طلب منك أنْ تصبر على الإيذاء الواقع من الغير عليك؛ وأنت فرد واحد.
وطلب من الغير أيضاً أنْ يصبر على إيذائك، وهذا هو قمة التأمين الاجتماعي لحياة النفس الإنسانية، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تصبر على من آذاك؛ فقد طلب مَنْ الناس جميعاً أن يصبروا على آذاك لهم.
فإذا بدرتْ منك بادرة من الأغيار؛ وتخطئ في حق إنسان آخر وتؤلمه؛ فإن لك رصيداً من صبر الآخرين عليك؛ لأن الحق سبحانه طلب من المقابل لك أن يصبر عليك وأنْ يعفو.
وإذا كان لك غريم؛ فالصبر يحتاج منك إلى ثلاث مراحل: أن تصبر صبراً أولياً بأن تكظم في نفسك؛ ولكن الغيظ يبقى، وإن منعت الحركة النُّزوعية من التعبير عن هذا الغيظ؛ فلم تضرب ولم تَسُبّ؛ ويسمى ذلك: {الكاظمين الغيظ...} [آل عمران: 134].
والكَظْم مأخوذ من عملية رَبْط القِرْبة التي نحمل فيها الماء؛ فإنْ لم نُحْكِم ربطها انسكب منها الماء؛ ويُقال (كظم القربة) أي: أحكم ربطها.
ثم يأتي الحق سبحانه بالمرحلة الثانية بعد كظم الغيظ فيقول: {والعافين عَنِ الناس...} [آل عمران: 134].
وهنا تظهر المسألة الأَرْقى، وهي إخراج الغيظ من الصدر؛ ثم التسامي في مرتبة الصِّديقين؛ فلا ينظر إلى مَنْ كظم غيظه عنه أولاً؛ بل يعفو عنه، ولا ينظر له بعداء، بل بنظرة إيمانية.
والنظرة الإيمانية هي أن مَنْ آذاك إنما يعتدي على حَقِّ الله فيك؛ وبذلك جعل الله في صَفِّك وجانبك؛ وهكذا تجد أن مَنْ ظلمك وأساء إليك قد جعلك في معية الله وحمايته؛ وعليك أن تُحسِن له.
والصبر له دوافع؛ فهناك من يصبر كي يُقال عنه: إنه يملك الجَلَد والصبر؛ وليبين أنه فوق الأحداث؛ وهذا صبر ليس ابتغاء لوجه الله؛ بل صبر كيلا يَشْمت فيه أعداؤه.
وصبر لأنه قد توصل بعقله أن جزعه لن ينفعه، ولو كان حصيفاً لَصبر لوجه الله، لأن الصبر لوجه الله يخفف من قَدَر الله.
ومَنْ يصبر لوجه الله إنما يعلم أن لله حكمة أعلى من الموضوع الذي صبر عليه؛ ولو خُيِّر بين ما كان يجب أن يقع وبين ما وقع؛ لاختار الذي وقع.
والذي يصبر لوجه الله إنما ينظر الحكمة في مَوْرد القضاء الذي وقع عليه، ويقول: أحمدُكَ ربي على كل قضائك وجميل قَدَرتك؛ حَمْدَ الرضى بحكمك لليقين بحكمتك.
فمَنْ يصبر على الفاقة؛ ويقول لنفسك: (اصبري إلى أن يفرجها الله) ولا يسأل أحداً؛ سيجد الفرج قد أتى له من الله.
انظر إلى الشاعر وهو يقول:
إذَا رُمْتَ أنْ تستخرِجَ المالَ مُنْفقاً *** عَلى شَهَواتِ النفْسِ في زَمَنِ العُسْرِ
فَسَلْ نفسَكَ الإنفاقَ مِنْ كَنزِ صَبْرِها *** عليْكَ وإنذاراً إلى سَاعةِ اليُسْرِ
فَإنْ فعلْتَ كنتَ الغنيَّ وإنْ أبيْتَ *** فَكلُّ مُنوَّع بعدَها وَاسِعُ العُذْرِ
أي: إنْ راودتْك نفسك لتقترض مالاً لتنفقه على شهوات النفس، ورفضتَ تلك المُرَاودة، وطلبت من نفسك أنْ تعطيك من كَنْز الصبر الذي تملكه؛ وإنْ فعلتَ ذلك كنت الغنيَّ، لأنك قدرتَ على نفسك.
والذي يلفت إلى الحَدَث وحده يتعب؛ والذي يلتفت إلى الحدث مقروناً بواقعه من ربه؛ ويقول: (لابد أن هناك حكمة من الله وراء ذلك) فهو الذي يصبر ابتغاء وجهه الله. ويريد الله أنْ يخُصَّ مَنْ يصبر ابتغاء وجهه بمنزلة عالية؛ لأنه يعلم أن الله له حكمة فيما يُجريه من أقدار.
ويتابع سبحانه وَصْف أُولي الألباب: {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً...} [الرعد: 22].
وسبق أن قلنا في الصلاة أقوالاً كثيرة؛ وأن مَنْ يؤديها على مطلوبها؛ فهو مَنْ يعلم أنها جَلْوة بين العبد وربه، ويكون العبد في ضيافة ربه.
وحين تُعْرَض الصَّنْعة على صانعها خمس مرات في اليوم فلابد أنْ تنال الصَّنْعة رعاية وعناية مَنْ صمَّمها وخلقها، وكما أن الله غَيْبٌ عنك؛ فكذلك أسباب شفائك من الكروب يكون غيباً عنك.
وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك (فكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة). ومن عظمة الإيمان أن الله هو الذي يدعوك إلى الصلاة؛ وهو سبحانه لا يمنع عنك القُرْب في أيِّ وقت تشاء؛ وأنت الذي تُحدِّد متى تقف بين يديه في أي وقت بعد أن تُلبِّي دعوته بالفروض؛ لتؤدي ما تحب من النوافل؛ ولا يُنهِي سبحانه المقابلة معك كما يفعل عظماء الدنيا؛ بل تُنهِي أنت اللقاء وقَتَ أنْ تريد.
ولقد تأدَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب ربه؛ وتخلَّق بالخلُق السامي؛ فكان إذا وضع أحد يده في يد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا ينزع يده من يد مَنْ يُسلِّم عليه؛ إلا أنْ يكون هو النازع.
وقول الحق سبحانه: {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ...} [الرعد: 22].
يعني: أنك لا يجب أن تنظر إلى ما يؤخذ منك، ولكن انظر إلى أنك إنْ وصلتَ إلى أن تحتاج من الغير سيؤخذ لك، وهذا هو التأمين الفعال، ومَنْ يخاف أن يترك عيالاً دون قدرة، ولو كان هذا الإنسان يحيا في مجتمع إيماني، لوجد قول الحق مُطبَّقاً: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
وبذلك لا يشعر اليتيم باليُتْم؛ ولا يخاف أحد على عياله، ولا يسخط أحد على قَدَر الله فيه. وسبحانه يضع الميزان الاقتصادي حين يطلب منا الإنفاق، والإنفاق يكون من مال زائد؛ أو مال بلغ النصاب، ولذلك فعليك أنْ تتحرك حركة نافعة للحياة، ويستفيد منها الغير، كي يكون لك مال تُنفِق منه، وعلى حركتك أن تَسعَكَ وتسَعَ غيرك.
وهناك مَنْ ينفق مِمَّا رزقه الله بأن يأخذ لنفسه ما يكفيها، وينفق الباقي لوجه الله؛ لأنه يضمن أن له إلهاً قادراً على أن يرزقه، والمضمون عند الله أكثر مما في يده.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أبا بكر فيما ناله من غنائم ويقول له: ماذا صنعتَ بها يا أبا بكر؟ فيقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: تصدَّقْتُ بها كلها. فيقول الرسول: وماذا أبقيت؟ يقول أبو بكر: أبقيت الله ورسوله.
وسأل رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وماذا فعلتَ يا عمر؟ فيقول ابن الخطاب: تصدقْتُ بنصفها ولله عندي نصفها.
وكأنه يقول للرسول: إن كان هناك مصرف تريدني أن أصرف فيه النصف الباقي لله عندي؛ فلسوف أفعل.
وهكذا رأينا مَنْ يصرف مِمَّا رزقه الله؛ بكل ما رزقه سبحانه، وهو أبو بكر الصديق؛ ونجد مَنْ ينفق مِمَّا رزقه الله ومستعد لأن ينفق الباقي إن رأى رسول الله مصرفاً يتطلب الإنفاق.
ونجد من توجيهات الإسلام أن مَنْ يراعى يتيماً؛ فليستعفف فلا يأخذ شيئاً من مال اليتيم إنْ كان الوليُّ على اليتيم له مال؛ وإن كان الولي فقيراً فليأكل بالمعروف.
ولقائل أنْ يسأل: ولماذا نأتي بالفقير لتكون له ولاية على مال اليتيم؟
وأقول: كي لا يحرم المجتمع من خبرة قادرة على الرعاية؛ فيأتي الفقير صاحب الخبرة؛ وليأْكل بالمعروف.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال: {وارزقوهم فِيهَا...} [النساء: 5].
ولم يَقُلْ: ارزقوهم منها أي: خُذوا الرزق من المَطْمور فيها يملكون بالحركة في هذا المال.
وهكذا نفهم كيف يُنفق الإنسان المؤمن مِمَّا رزقه الله؛ فهناك مَنْ ينفق كل ما عنده؛ لأنه واثق من رصيده عند ربه، وهناك مَنْ ينفق البعض مما رزقه الله؛ وقد تأخذه الأريحية والكرم فيعطي كل مَنْ يسأله، وقد ينفق كل ما عنده؛ مثل مَنْ يجلس في جُرْن القمح ويريد أن يُزكِّي يوم الحصاد؛ فيعطي كل مَنْ يسأله؛ إلى أن يفرغ ما عنده.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: {... وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141].
وهنا نجد الحق سبحانه يصف هؤلاء المُنْفِقين في سبيله: {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً...} [الرعد: 22].
والسر هو الصَّدقة المندوبة، أما الإنفاق في العلانية؛ فهي الصَّدقة الواضحة؛ لأن الناس قد تراك غنياً أو يُشَاع عنك ذلك، ولا يرونك وأنت تُخرِج الزكاة، فتنالك ألسنتهم بالسوء؛ وحين يَرَوْنكَ وأنت تنفق وتتصدَّق؛ فهم يعرفون أنك تؤدي حقَّ الله، وتشجعهم أنت بأن يُنفِقوا مما رزقهم الله.
وصدقة السِّر وصدقة العَلَن أمرها متروك لتقدير الإنسان؛ فهناك مَنْ يعطي الصدقة للدولة لتتصرف فيها هي؛ ويعطي من بعد ذلك للفقراء سراً؛ وهذا إنفاق في العَلَن وفي السر؛ وجاء الحق بالسر والعلانية؛ لأنه لا يريد أنْ يحجب الخير عن أيِّ أحد بأي سبب.
وقد يقول قائل: إن فلاناً يُخرِج الصدقة رياءً.
وأقول لِمَنْ يتفوَّه بمثل هذا القول: أَلَمْ يَسْتفِد الفقير من الصدقة؟ إنه يستفيد، ولا أحدَ يدخل في النوايا.
ويتابع سبحانه: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة...} [الرعد: 22].
والدّرْء: هو الدَّفْع بشدة؛ أي: يدفعون بالحسنة السيئة بشدة. وأول حسنة إيمانية هي أنْ تؤمن بالله؛ وبذلك تدفع سيئة الشرك، أو دفعتَ السيئة. أي: دفعتَ الذنب الذي ارتكبته وذلك بالتوبة عنه؛ لأن التوبة حسنة، وحين ترى مُنْكراً، وهو سيئة، فأنت تدفعه بحسنة النُّصْح.
أو: أن يكون معنى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة...} [الرعد: 22].
هو إنْ فعلتَ سيئة فأنت تتبعها بحسنة، والكمال المطلق لله وحده ولرسوله؛ لنفترض أن واحداً لديه سيئة مُلِحّة في ناحية من النواحي؛ فالحقُّ سبحانه يأمره أن يدفع السيئة بأن يفعل بجانبها حسنة.
يقول سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات...} [هود: 114].
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاذ رضي الله عنه: (اتق الله أينما تكون، وأتبع السيئة حسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخلق حسن).
ولذلك، فأنت تجد أغلب أعمال الخير في المجتمع لا تصدر من أيِّ رجل رقيق لا يرتكب السيئات؛ فلا سيئةَ تطارده كي يفعل الحسنة التي يرجو أنْ تمحو السيئة.
فالسيئة ساعةَ تُلهِب ضمير مَن ارتكبها؛ ولا يستطيع أن يدفعها؛ لأنه ارتكبها؛ فهو يقول لنفسه (فَلأبنِ مدرسة) أو (أبني مسجداً) أو (أقيم مستشفى) أو (أتصدق على الفقراء).
وهكذا نجد أن أغلب حركات الإحسان قد تكون من أصحاب السيئات، فلا أحدَ بقادر على أنْ يأخذ شيئاً من وراء الله؛ فمَنْ يرتكب سيئة لابُدَّ أنْ تُلِحّ عليه بأحاسيس الذَّنْب؛ لتجده مدفوعاً من بعد ذلك إلى فعل الحسنات؛ لعلَّ الحسنات تُعوِّض السيئات.
ومن دَرْء الحسنة بالسيئة أيضاً؛ أنه إذا أساء إليك إنسان فأنت تَكْظِم غيظك وتعفو؛ وبذلك فأنت تحسن إليه.
وتجد الحق سبحانه يقول: {... ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وإذا أنت جرَّبْتَها في حياتك؛ وأخلصْتَ المودة لمن دخل في العداوة معك؛ ستجد أنه يستجيب لتلك المودة ويصبح صديقاً حميماً لك.
ولكن هناك مَنْ يقول: جرَّبْتُ ذلك ولم تنفع تلك المسألة.
وأقول لمن يقول ذلك: لقد ظننتَ أنك قد دفعتَ بالتي هي أحسن، لكنك في واقع الحال كنت تتربص بما يحدث منك تجاه مَنْ دخلتَ معه في عداوة، ولم تُخلص في الدفع بالتي هي أحسن، وأخذت تُجرِّب اختبار قول الله؛ فذهبتْ منك طاقة الإخلاص فيما تفعل؛ وظل الآخر العدو على عداوته.
لكنك لو دفعتَ بالتي هي احسن ستجد أن الآية القرآنية فيها كل الصِّدْق؛ لأن الله لا يقول قضية قرآنية ثم تأتي ظاهرة كونية تُكذِّب القرآن.
ولذلك يقول الشاعر:
يَا مَنْ تُضايِقه الفِعَالُ مِنَ التي ومِنَ الذي *** دفع فِدْيتك بالتي حتَّى نَرى فإذَا الذِي
أي: يا مَنْ تضايقه أفعال الذي بينك وبين عداوة؛ عليك أن تُحسن الدَّفْع التي هي أحسن، حتى ترى أن العداوة التي كانت بينك وبين ما ذكره الحق سبحانه في قوله: {... فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
ويتابع الحق سبحانه: {... أولئك لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22].
أي: أن المتقدمين أولي الألباب الذين اجتمعت لهم تلك الصفات التِسعة؛ بدايةً من أنهم يُوفُون بعهد الله؛ ولا ينقضون الميثاق؛ ويَصِلون ما أمر الله أنْ يُوصَل ويخشوْن ربهم؛ ويخافون سُوء الحساب؛ وصبروا ابتغاء وجه ربهم؛ وأقاموا الصلاة؛ وأنفقوا مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويَدْرءون بالحسنة السيئةَ، هؤلاء هم الذين لهم عُقْبى الدار.
وعُقْبى مأخوذة من العقب؛ فالقدم له مقدم وله عَقِب، وعقب هو ما يعقب الشيء، ونقول في أفراحنا (والعافية عندكم في المسرات) أي: أننا نتمنى أن تتحقق لكم مَسرَّة مثل التي عندنا، وتكون عقب المَسرَّة التي فرحنا نحن بها.
وهكذا تكون العقبى هي الشيء الذي يعقب غيره، والذي يعقب الدار الدنيا هي الدار الآخرة. ولذلك يقول الحق سبحانه في الآية التالية مُوضِّحاً العاقبة لهؤلاء: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ...}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال