سورة البقرة / الآية رقم 181 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


قبل: ظرف مكان، تقول: زيد قبلك. وشرح المعنى: أنه في المكان الذي هو مقابلك فيه. وقد يتسع فيه فيكون بمعنى: العندية المعنوية. تقول لي: قبل زيد دين. الرقاب: جمع رقبة، والرقبة: مؤخر العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم. ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال: أعتق الله عنقه، لأنها لما سميت رقبة، كانت كأنها تراقب العذاب. ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رقوب، لأجل مراعاتها موت ولدها. قال في المنتخب: وفعال جمع يطرد لفعلة، سواء كانت اسماً نحو: رقبة ورقاب، أو صفة نحو: حسنة وحسان، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته. البأساء: اسم مشتق من البؤْس، إلا أنه مؤنث وليس بصفة، وقيل: هو صفة أقيمت مقام الموصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال منه: بئس الرجل، إذا افتقر، قال الشاعر:
ولم يك في بؤس إذا بات ليلة *** يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا
والبأس: شدة القتال، ومنه حديث عليّ: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال: بؤس الرجل، أي شجع. الضراء: من الضر، فقيل: ليس بصفة، وقيل: هو صفة أقيمت مقام الموصوف. وفي الحديث: «وأعوذ بك من ضر أو مضرة» وقال أهل اللغة: الضراء، بالفتح: ضد النفع، والضر، بالضم. الزمانة. القصاص: مصدر قاص يقاص مقاصة وقصاصاً؛ نحو: قاتل يقاتل مقاتلة وقتالاً. والقصاص: مقابلة الشيء بمثله، ومنه: قتل من قتل بالمقتول، وأصله من قصصت الأثر: أي اتبعته، لأنه اتباع بدم المقتول، ومنه قصّ الشعر: اتباع أثره. الحر: معروف، تقول: حر الغلام يحرّ حرّية فهو حرّ، وجمعه، أعني فعلاً الصفة على أحرار محفوظ. وقالوا مرّوا مراراً، فإن كانت فعلاً صفة للآدميين، جمعت الواو والنون، وكما أن أحراراً محفوظ في الجمع، كذلك حرائر محفوظ في جمع حرّة مؤنثة. القتلى: جمع قتيل، وهو منقاس في فعيل، الوصف بمعنى ممات أو موجع. الأنثى: معروف، وهي فعلى، الألف فيه للتأنيث، وهو مقابل الذكر الذي هو مقابل للمرأة. ويقال للخصيتين أنثيان، وهذا البناء لا تكون ألفه إلا للتأنيث، ولا تكون للإلحاق، لفقد فعلل في كلامهم. الأداء: بمعنى التأدية، أدّيت الدين: قضيته، وأدّى عنك رسالة: بلغها أنه لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، أي لا يبلغ. أولوا: من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجرّ والنصب بالياء. ومعنى أولوا: أصحاب، ومفرده من غير لفظه، وهو ذو بمعنى: صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ، ومؤنثه أولات بمعنى: صاحبات، وإعرابها كإعرابها، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف، ولو سميت باولوا، زدت نوناً فقلت: جاء من أولون، ورأيت أولين، ومررت بأولين، نص على ذلك سيبويه، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل الإضافة.
كما تقول: ضاربو زيد، وضاربين زيداً. الألباب: جمع لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمى بذلك، إما لبنائه من قولهم: ألبّ بالمكان، ولبّ به: أقام، وإما من اللباب، وهو الخالص. وهذا الجمع مطرد، أعني أن يجمع فعل اسم على أفعال، والفعل منه على فعل بضم العين وكسرها، قالوا: لببت. ولبيت ومجيء المضاعف على فعل بضم العين شاذ، استغنوا عنه بفعل نحو: عزّ يعزّ، وخفّ يخفّ. فما جاء من ذلك شاذاً: لبيت، وسررت، وفللت، ودممت، وعززت. وقد سمع الفتح فيها إلا في: لبيت، فسمع الكسر كما ذكرنا. الجنف: الجور، جنف، بكسر النون، يجنف، فهو جنف وجانف عن النحاس، قال الشاعر:
إني امرؤ منعت أرومة عامر *** ضيمي وقد جنفت على خصوم
وقيل: الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي *** وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال آخر:
هم المولى وإن جنفوا علينا *** وأنا من لقائهم لزور
ويقال: أجنف الرجل، جاء بالجنف، كما يقال: ألام الرجل، أتى بما يلام عليه، وأخس: أتى بخسيس {ليسَ البرَّ أن تولوا وجُوهكُم قِبلَ المشرِق والمغرِب} قال قتادة، والربيع، ومقاتل، وعوف الأعرابي: نزلت في اليهود والنصارى، كانت اليهود تصلي للمغرب والنصارى للمشرق، ويزعم كل فريق ان البرّ ذلك.
وقال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والضحاك، وسفيان: نزلت في المؤمنين، سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت، فدعاه وتلاها عليه.
وقال بعض المفسرين: كان الرجل إذا نطق بالشهادتين وصلى إلى أي ناحية ثم مات وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الفرائض، وحدَّت الحدود، وصرفت القبلة إلى الكعبة، أنزلها الله.
وقيل: سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويلهم عن بيت المقدس إلى الكعبة، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنها إن كانت في أهل الكتاب، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلاً، وذكر ما أعد لهم، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلاَّ صلاتهم، وزعمهم أن ذلك البر، فردّ عليهم بهذه الآية. وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى.
وقرأ حمزة، وحفص {ليس البر} بنصب الراء، وقرأ باقي السبعة برفع الراء.
وقال الأعمش في مصحف عبد الله: لا تحسبن البرَّ، وفي مصحف أبيّ، وعبد الله أيضاً: ليس البر بأن تولوا، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس، وأن تولوا في موضع الإسم، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي، وهذه القراءة من وجه أولى، وهو أن جعل فيها اسم ليس: أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام، وقراءة الجمهور أولى من وجه، وهو: أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها: بما.
. أراد الحكم عليها بأنها حرف، كما لا يجوز توسيط خبر ما، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبورود ذلك في كلام العرب.
قال الشاعر:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم *** وليس سواء عالم وجهول
وقال الآخر.
أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ *** وليس علينا في الخطوب معوَّلُ
وقرأه: بأن تولوا، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها. قال الشاعر:
أليسَ عجيباً بأن الفتى *** يصابُ ببعض الذي في يديه
أدخل الباء على اسم ليس، وإنما موضعها الخبر، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة، وصار معنى الكلام: أعجب بأن الفتى، ولو قلت: أليس قائماً بزيد لم يجز.
والبرّ اسم جامع للخير، وتقدم الكلام فيه، وانتصابُ قبل على الظرف وناصبه تولوا، والمعنى: أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القِبلة حتى وقع التحويلُ إلى الكعبة.
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فردّ الله عليهم، وقيل: ليس البر فيما أنتم عليه، فإنه منسوخ خارج من البر.
وقيل: ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة.
وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى: {مكاناً شرقياً} واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين.
{ولكنّ البرَّ منْ آمنَ باللهِ} البرُّ: معنىً من المعاني، فلا يكون خبره الذوات إلاَّ مجازاً، فإمّا أن يجعل: البرُّ، هو نفس من آمن، على طريق المبالغة، قاله أبو عبيدة، والمعنى: ولكنّ البارَّ. وإمّا أن يكون على حذف من الأول، أي: ولكنّ ذا البر، قاله الزجاج. أو من الثاني أي: برُّ من آمن، قاله قطرب، وعلى هذا خرَّجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: {ولكنّ البرَّ من آمن} وإنما هو: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. انتهى.
وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهماً، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم.
وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبرّ، فأنا برّ وبارّ، قيل: فبنى تارة على فعلٍ، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ، ومثله: سرٌّ، وقرّ، ورَبٌّ، أي: سارّ، وقار، وبارّ، ورابُّ.
وقال الفراء: من آمن، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد الفراء:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندب
جعل نبات اللحية خبراً للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر: ولكن بسكون النون خفيفة، ورفع البرّ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ، والإعراب واضح، وقد تقدّم نظير القراءتين في {ولكن الشياطين كفروا}
{واليومِ الآخَرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ} ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحاً بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: «أن تؤمنُ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر خيره وشره» ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه، ومضمون الآية: ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور.
أحدها: الإيمان بالله، وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أمّا اليهود فللتجسم ولقولهم: {عزيرٌ ابن الله} وأمّا النصارى فلقولهم: {المسيحُ ابنُ اللهِ} الثاني: الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود أخلوا به حيث قالوا: {لنْ تمسنا النارُ إلاَّ أيّاماً} والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
والثالث: الإيمانُ بالملائكة، واليهود عادوا جبريل.
والرابع: الإيمان بكتب الله، والنصارى واليهود أنكروا القرآن.
والخامس: الإيمان بالنبيين، واليهود قتلوهم، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
والسادس: بذل الأموال على وفق أمر الله، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال.
والسابع: إقامة الصلاة والزكاة، واليهود يمتنعون منها.
والثامن: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوه.
وهذا النفيُ السابق، والاستدراك لا يحمل على ظاهرهما، لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً، ثم حكم بأن البرّ أمورٌ.
أحدها: الصلاة، ولا بدَّ فيها من استقبال القبلة، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ، لا على نفي أصله، أي: ليس البر كله هو هذا، ولكن البر هو ما ذكر، ويحمل على نفي أصل البرّ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثماً وفجوراً، فلا يعدّ في البر، أو لأن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى، وإنما يكون براً مع الإيمان وتلك الشرائط.
وقدم الملائكة والكتب على الرسل، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلاَّ بواسطة الرسل، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي، لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي، لا الترتيب الذهني.
وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، لأن المكلف له مبدأ، ووسط، ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به: وهو الكتاب، والموحى إليه: وهو الرسول.
وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو: إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان، حصلت حقيقة الإيمان، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات، وتعلق قدرته بكل الممكنات، وإرادته وكونه سميعاً وبصيراً متكلماً، وكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم، من أحكام: المعاد، والثواب، والعقاب، وما يتصل بذلك. والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة. والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة. والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم.
قال الراغب: فإن قيل لم قدّم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله.
{ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} قيل: يجوز ذلك، مع أن الواو لا تقتضي ترتيباً من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده، فأخر ذكره. ولما ذكر حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى، ثم أمر الآخرة، فقدّم ذكره تنبيهاً على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما. انتهى كلامه..
{وآتى المال على حبه} إيتاء المال هنا قيل: كان واجباً، ثم نسخ بالزكاة، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة.
وقيل: هي الزكاة، وبين بذلك مصارفها، وضعف بعطف الزكاة عليه، فدل على أنه غيرها.
قيل: هي نوافل الصدقات والمبار، وضعف بقوله آخر الآية {أولئك هم المتقون} وقف التقوى عليه، ولو كان ندباً لما وقف التقوى، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب، فلم يفرد التقوى، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى.
وقيل: هو حق واجب غير الزكاة.
قال الشعبي: إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية.
وقيل: رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر، فأمَّا ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق، فيحمل على الحقوق المقدرة. أما ما لا يكون مقدراً فغير منسوخ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك كله غير مقدّر.
{على حبه} متعلق {بآتى} وهو حال، والمعنى: أنه يعطي المال محباً له، أي: في حال محبته للمال واختياره وإيثاره، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله، كما جاء: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، والظاهر أن الضمير في {حبه} عائد على المال لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي، كما فسرناه، وقيل: الفاعل المؤتون، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم، وإلى الأول ذهب ابن عباس، أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره، فقول ابن الفضل: إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى، أي: على حب الإيتاء، بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها، وقال زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقول من أعاده على الله تعالى أبعد، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل، وهو أيضاً بعيد.
قال ابن عطية: ويجيء قوله {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه.
فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك، لأن شرط ذلك أن تكون جملة، وأن لا يكون لها محل من الإعراب، وهذه ليست بجملة، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح، لكن فيه إلباس، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول.
{ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب} أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم، وهو: من تقرب إليك بولادة، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم، كما ذهب إليه قوم، لأن الحرم حكم شرعي، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد. وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، في قوله {وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً} فاغنى عن اعادته.
{ذوي القربى} وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور، {المال} هو المفعول الثاني.
ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.
وأما على مذهب السهيلي فإن {المال} عنده هو المفعول الأول، و{ذوي القربى} وما بعده هو المفعول الثاني، فأتى التقديم على أصله عنده.
و {اليتامى} معطوف على {ذوي القربى} حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى، قال: لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه، ومتى فعل ذلك أخطأ، فإن كان مراهقاً عارفاً بمواقع حقه، والصدقة تؤكل أو تلبس، جاز دفعها إليه، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم، فيدفع للبالغ ولولِيّ الصغير. انتهى.
ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق: آتيت زيداً مالاً، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله {وابن السبيل}: الضيف، قاله قتادة، وابن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج؛ أو المسافر يمرّ عليك من بلد إلى بلد، قاله مجاهد، وقتادة أيضاً، والربيع بن أنس.
وسمي: ابن السبيل بملازمته السبيل، وهو الطريق، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء، ولمن مرت عليه دهور: ابن الليالي والأيام.
وقيل: سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه، شبه ابرازها له بالولادة، فأطلقت عليه البنوّة مجازاً والمنقطع في بلد دون بلده، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة، قاله أبو حنيفة، وأحمد، وابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى؛ أو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة، قاله الماوردي، وغيره عن الشافعي.
والسائلين: هم المستطعمون، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سدِّ خلته، إذ لا تباح له المسألة إلاَّ عند ذلك.
ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة.
{والرقاب}: هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم، قاله عليّ وابن عباس، والحسن، وابن زيد، والشافعي.
أو: عبيد يشترون ويعتقون، قاله مجاهد، ومالك، وأبو عبيد، وأبو ثور. وروي عن أحمد القولان السابقان.
أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر؛ وقيل: هؤلاء الأصناف الثلاثة، وهو الظاهر. فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا، فقيل: لا يجوز إلاَّ في إعانة المكاتبين، وقيل: يجوز في ذلك، وفيمن يشتريه فيعتقه. وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديماً، الأَوْلى فالأَوْلى، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها، ولذلك يستحق بها الإرث، فلذلك قدّم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم ذكره.
قال الراغب: اختير هذا الترتيب لما كان أَوْلى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه، فكان تقديمه أولى، ثم عقبه باليتامى، والناس في المكاسب ثلاثة: معيل غير معول، ومعول معيل، ومعول غير معيل. واليتيم: معول غير معيل، فمواساته بعد الأقارب أولى. ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقراً ممن قدم ذكره عليه. انتهى كلامه.
وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها.
وقال مالك: يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، واختلفوا في اليتيم: هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنياً؟ أو لا يعطى حتى يكون فقيراً؟ قولان لأهل العلم.
{وأقام الصلاة وآتى الزكاة}: تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيداً، وإلاَّ فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يُرَدْ به الزكاة، هذا هو الظاهر، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا والإيتاء، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة، وهو أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وتكرر في كل يوم وليلة، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة، فلذلك قدمت. وعطف قوله: {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} على صلة من، وصلة من آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها، وهو رأس الأعمال الدينية، وهو المطلوب الأول. وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب، ومن مناقبها الجلية، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسيئين لهم، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي:
فمالي أراني وابن عمي مالكاً *** متى أدنُ منه ينأَ عني ويبعد
ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها:
يعاتبني في الدِّين قومي وإنما *** ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
ومنها:
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى *** وإن قل مالي لم أكلفهم رِفداً
وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم، وفي ذلك يقول بعضهم:
إذا بعض السنين تعرَّقتنا *** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الأضياف والمسافرين، كما قال زهير بن أبي سلمى:
على مكثريهم رزق من يعتريهم *** وعند المقلين السماحة والبذل
وقال المقنع
وإني لعبد الضعف ما دام نازلاً *** وقال آخر
ورب ضيفٍ طرق الحيَّ سُرى *** صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
وقال مرة بن محكان:
لا تعذليني على إتيان مكرمة *** ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهباً
في عقر نابٍ ولا مالٌ أجود به *** والحمد خير لمن ينتابه عقبا
وقال إياس بن الارت:
وإني لقوّال لعافيّ مرحبا *** وللطالب المعروف إنك واجدُه
وإني لما أبسط الكف بالند *** إذا شنجت كف البخيل وساعدُه
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عليها بذلك، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين، وإيتاء السبيل على سبيل المكرمة، فَلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.
{والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}: والموفون معطوف على من آمن، وقيل: رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في: إذا، الموفون، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وفي مصحف عبد الله: والموفين، نصباً على المدح.
وقرأ الجحدري، بعهودهم على الجمع.
{والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس}: انتصب: والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: والصابرون، عطفاً على: الموفون، وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة. انتهى كلامه.
قال الراغب: وإنما لم يقل: ووفى، كما قال: وأقام، لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلاَّ منها، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعاً للفضائل، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ، غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد. انتهى كلامه.
واتفقوا على تفسير قوله {حين البأس} أنه: حالة القتال.
واختلف المفسرون في: البأساء والضراء، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك.
وقيل: البأساء: القتال، والضراء: الحصار، ذكره الماوردي.
وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولاً الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب: استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله، وهو: البأساء، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم، وهو: الضراء في مدافعة مؤذية، وهو: البأساء. انتهى كلامه.
وعدّى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلاَّ إذا صار له الفقر والمرض كالظرف، وأما الفقر وقتاً ما، أو المرض وقتاً ما، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد. وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها، كالجرم المحسوس، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام، قال: لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقد تقدم الكلام على ذلك.
{أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} أشار: بأولئك، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية، من الاتصاف بالإيمان وما بعده، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى، أي: يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة، كقوله: {أولئك على هدى من ربهم} والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى: أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقاً لا يتطرق إليه الكذب، ومنه: «لا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صادقاً، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا».
ويحتمل أن يراد بالصدق: الصدق في الأحوال، وهو مقابل الرياء أي: أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة، بل قصدوا وجه الله تعالى، وكانوا عند الظن بهم، كما تقول صدقني الرمح، أي: وجدته عند اختباره كما اختار وكما اظن به، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه، وامتثال طاعته.
وتنوع هنا الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول: بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، واخبر عن أولئك الثاني: بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة.
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}: روى البخاري عن ابن عباس قال: كان في بني اسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية. فقال الله تعالى هذه الآية.
وقال قتادة والشعبي: نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلاَّ سيداً، ولا بالمرأة إلاَّ رجلاً.
وقال السدي، وأبو مالك: نزلت في فريقين قُتِل أحدهما مسلم، والآخر كافر معاهد، كان بينهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال، فقُتِل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد، فنزلت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الرجل قصاصاً بدية الرجل، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة، ودية العبد قصاصاً بدية العبد. ثم أصلح بينهما.
وقيل: نزلت في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض. قال ابن جبير: هما الأوس والخزرج. وقال مقاتل بن حيان: هما قريظة والنضير، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الاخرى في الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وأمرهم بالمساواة فرضوا، وفي ذلك قال قائلهم:
هم قتلوا فيكم مظنة واحد *** ثمانية ثم استمروا فأربعوا
وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له، وقال له بعض من يذب عنهم: سل في قتل شأس، فقال: إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهنّ، فقالوا: ما هنّ؟ فقال: تحيون شأساً، أو تملؤون داري من نجوم السماء، أو تدفعون لي غنياً بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل، وحرّم ما حرّم، ثم اتبع بذكر من أخذ مالاً من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلاَّ النار، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي حفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مال بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول، لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان.
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة، لأن من كان مؤمناً يندر منه وقوع القتل، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم، ونبه أيضاً على أنه، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجاً له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}.
وأصل الكتابة: الخط الذي يقرأ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات، أي: فرض وأثبت، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه.
وقيل: هو على حقيقته، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء.
وقيل: معنى كتب: أمر، كقوله: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} أي: التي أمرتم بدخولها.
وقيل: يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} {فسأكتبها للذين يتقون} وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، {وفي القتلى} في هنا للسببية، أي: بسبب القتلى، مثل: «دخلت امرأة النار في هرة». والمعنى: أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه، أو يكون ذلك خطاباً مع القاتل، والتقدير، يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص، وذلك أنه يجب على القاتل، إذا أراد الولي قتله، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق، فإن لهما الهرب من الحدّ، ولهما أن يستترا بستر الله، ولهما أن لا يعترفا. ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه، وأن لا يتعدى على غيره، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضى الولي بدية أو عفو، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن، وأمّا إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص.
قال الراغب: فان قيل: على من يتوجه هذا الوجوب؟ قيل على الناس كافة، فمنهم من يلزمه تسليم النفس، وهو القاتل، ومنهم من يلزمه استيفاؤه، وهو الإمام إذا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدّى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدّي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدّون في القتل، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلاَّ بقتل حر. اه كلامه.
وتلخص في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم. الثاني: أنهم القاتلون. الثالث: أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه.
وقد اختلف في هذه الآية، أهي ناسخة أو منسوخة؟ فقال الحسن: نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه،. وإن كان قاتل الرجل امرأة، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل، وإن شاؤوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها.
قال: فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه. اه. ولا يكون هذا نسخاً، لأن فعلهم ذلك ليس حكماً من أحكام الله فينسخ بهذه الآية.
وقال ابن عباس: هي منسوخة بآية المائدة، وسيأتي الكلام في هذا.
ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، واختلفوا في دلالة هذه الجمل، فقيل: يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة، فلا يكون مشروعاً إلاَّ بين الحرين، وبين العبدين، وبين الأنثيين، فالالف واللام تدل على الحصر، كأنه قيل: لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى.
روي معنى هذا عن ابن عباس، وأن ذلك نسخ بآية المائدة، وروي عنه أيضاً أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة.
وممن ذهب إلى أنها منسوخة. ابن المسيب، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والثوري.
وقيل: لا تدل على الحصر، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكور، ألا ترى أن عموم: {والأنثى بالأنثى} تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة؟ فلو كان قوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} مانعاً من ذلك لتصادم العمومان.
وقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى} جملة مستقلة بنفسها، وقوله: {الحر بالحر} ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات.
وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس الذكر والأنثى سواء فيه، وأعيد ذكر الأنثى توكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية.
وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً، وذكرٌ أنثى، أو أنثى ذكراً. وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلاَّ أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلاَّ قيمة العبد، وإن شاء استحيى وأخذ قيمة العبد.
وقد أُنكر هذا عن علي والحسن. والإجماع على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلمٌ حراً بمحدد، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه، وهو قول عثمان البتي، قال: إذا قتل ابنه عمداً قتل به.
وقال مالك: إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به، وإن قتله يرمى بشيء أو يضرب، ففي مذهب مالك قولان: أحدهما: يقتل، والآخر: لا يقتل.
وقال عامة العلماء: لا يقتل الوالد بولده، وعليه الدية فيما له، قال بذلك: أبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وسووا بين الأب والجد، ورُوي ذلك عن عطاء ومجاهد.
وقال الحسن بن صالح: يُقاد الجدّ بابن الابن، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه، ولا يجيز شهادة الاب لابنه، وظاهر قوله: {الحر بالحر} قتل الابن بابيه، والظاهر أيضاً قتل الجماعة بالواحد، وصح ذلك عن عمر وعلي، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أحمد: لا تقتل الجماعة بالواحد، والظاهر أيضاً قتل من يجب عليه القتل لو انفرد إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطئ والصبيّ والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص على واحد منهما وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله والصبي والمخطئ والمجنون على عاقلته، وهو قول الحسن بن صالح.
وقال الأوزاعي: على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية.
وقال الشافعي: على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلاً عبداً، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانياً، وإن شاركه قاتل خطاً فعلى العامد نصف الدية، وجناية المخطئ على عاقلته.
وقال ابن المسيب، وقتادة، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد يقتل الحر بالعبد.
وقال مالك، والليث، والشافعي؛ لا يقتل به، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي. وقال أبو حنيفة: يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: لا يقتل به. قال مالك والليث: إن قتله غيلة قتل به وإلاَّ لم يقتل به وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر.
والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل، من مثقل حجر، أو خشبة، أو عصا، أو شبه ذلك مما يقتل غالباً، وهو مذهب مالك. والشافعي، والجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل إذا قتل بمثقل.
والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل وقال: أبو حنيفة، ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: لا يقتل إلاَّ بالسيف. وقال ابن الغنيم، عن مالك: إن قتل بحجر، أو عصا، أو نار أو تغريق قتل به، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت، وإن زاد على فعل القاتل.
وروى ابن منصور عن أحمد أنه: يقتل بمثل الذي قتل به، ونقل عن الشافعي: أنه إذا قتل بخشب، أو بخنق قتل بالسيف، وروي عنه أيضاً أنه: إن ضربه بحجر حتى مات فُعل به مثل ذلك، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة.
وقال ابن شبرمة: يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون: يجزي ذلك كله السيف.
قال: فإن غمسه في الماء حتى مات، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت.
والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله: {في القتلى} وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر. وهو: أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس. وقال ابن المسيب، والنخعي، وقتادة، والحكم وابن أبي ليلى: القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات، وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال الليث: يقتص للحر من العبد، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات. وقال الشافعي: من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس.
{والأنثى بالأنثى}. واتفقوا على ترك ظاهرها، وأجمعوا، كما تقدم ذكره، على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، إلاَّ خلافاً شاذاً عن الحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة.
وروي أن عمر قتل نفراً من صنعاء بامرأة، والمرأة بالرجل وبالعبد، والعبد بالحر، وقد وهم الزمخشري في نسبته أن مذهب مالك والشافعي أن الذكر لا يقتل بالأنثى، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها.
وقال عثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء.
واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء، فذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلاَّ في الأنفس، وذهب مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، والليث، والشافعي، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها، إلاَّ أن الليث قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه.
وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدئ بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حدّ قولهم: زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى، فالتقدير: الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً، ولو قلت: الحر كائن بالحر، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير: قتل الحر كائن بالحر، أي: بقتل الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله: {القصاص في القتلى} دلالة على هذا الفعل.
{فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} قال علماء التفسير: معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود، وجعل الله لهذه الأمة لمن شاء القتل، ولمن شاء أخذ الدية، ولمن شاء العفو.
وقال قتادة: لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة، وروي أيضاً عن قتادة: أن الحُكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو. ولا أرش بينهم، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم، فخير الله هذه الأمة بين الخصال الثلاث.
وارتفاع: مَنْ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة، والظاهر أن: من، هو القاتل والضمير في {له} و{من أخيه} عائد عليه، {وشيء}: هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو بمعنى المصدر، وبني {عفا}، للمفعول، وإن كان لازماً، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} والأخ هو المقتول، أي: من دم أخيه أو ولي الدم، وسماه أخاً للقاتل اعتباراً بأخوة الإسلام، أو استعطافاً له عليه، أو لكونه ملابساً له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به كما تقول: قل لصاحبك كذا، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة، وهذا الذي أقيم مقام الفاعل وإن كان مصدراً فهو يراد به الدم المعفو عنه، والمعنى: أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية. وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين، أما القصاص، وأما الدية. لأن الدية تضمنت عافياً ومعفواً عنه، وليس إلاَّ وليّ الدم والقاتل، والعفو لا يتأتي إلاَّ من الولي، فصار تقدير الآية: فاذا عفا وليّ الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف. وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام، وإلى الذنب بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه، وقوله: {فمن عفى له} من هذا الباب أي: فمن عفى له عن جنايته، وحذف عن جنايته لفهم المعنى، ولا يفسر عفى بمعنى ترك، لأنه لم يثبت ذلك معدّى إلاَّ بالهمزة، ومنه: «أعفوا اللحى» ولا يجوز أن تضمن عفى معنى ترك وإن كان العافي عن الذنب تاركاً له لا يؤاخذ به، لأن التضمين لا ينقاش.
قال الزمخشري. فإن قلت: فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأز




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال