سورة النحل / الآية رقم 49 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ

النحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات التي سبقتها ذكرت البعث وإمكانيته، وكشفت عن بعض الحكمة من وقوعه في قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ..} وإذ كان هذا وجها من وجوه الموقف يوم القيامة، ناسب أن يذكر الوجه الآخر، وهو وجه الذين آمنوا باللّه، وصدّقوا بآياته.. وأكرم ما في هذا الوجه الكريم هم الذين هاجروا في اللّه من بعد ما مسّهم الضر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وذلك بما ساق إليهم المشركون من ألوان العسف والبلاء.. فهؤلاء سيوفيهم اللّه سبحانه أجرهم مرتين.. في الدنيا.. وفى الآخرة.
فهم في الدنيا سينصرون على عدوّهم، وسوف تمتلئ أيديهم بالخير، بما يمكّن اللّه لهم في الأرض.. أما في الآخرة، فلهم جنات النعيم، ورضوان من اللّه أكبر.. وذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ} إشارة إلى أن الهجرة جهاد في سبيل اللّه، ولهذا ضمّن الفعل هاجر معنى الفعل جاهد، فعدّى بحرف الجر {فى}.
ويجوز أن يكون حرف الجر {فى} بمعنى الباء، التي تفيد السببية.. ويكون المعنى: والذين هاجروا بسبب اللّه، أي بسبب الإيمان باللّه.. وفى الحديث: «عذبت امرأة في هرة» أي بسبب هرة.
وقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} أي لننزلنهم منزلة حسنة في الدنيا.. يقال: باء يبوء: أي رجع.. وسمّى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يأوى إليه الإنسان بعد طوافه وسعيه في الحياة.
ولقد صدق اللّه وعده، فأيد المؤمنين بنصره، ومكّن لهم في الأرض، وأذلّ الكافرين والمشركين.. والمنافقين، وجاء نصر اللّه والفتح، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
وهذا الوعد الذي وعده اللّه المؤمنين، وأنجزه لهم لم يكن لأشخاصهم فردا فردا، وإنما هو لهم كجسد واحد، ومجتمع واحد.. هكذا المؤمنون، فيما أصابهم، من بلاء، أو عافية، فهم جميعا فيه شركاء، شأن الجسد حين تنزل به علة، أو تلبسه عافية..!
قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هو عطف بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ}.
فهؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، واحتملوا في سبيل اللّه ما احتملوا من مفارقة الأهل والوطن.
مخلفين كل شيء وراءهم، فما كان لهم في هجرتهم من مال ومتاع.. بل هاجروا متوكلين على اللّه، معتصمين به، مستغنين بما عنده.
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} هو ردّ مفحم للمشركين الذين أبوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وقالوا: {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [24: القمر].. وقالوا ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟} [21: الفرقان].
فجاء قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}: ليرى المشركين أمرا واقعا، لا سبيل إلى إنكاره، أو الجدل فيه، وهو أن كلّ رسل اللّه الذين بعثوا في الأمم التي سبقتهم كانوا {رجالا} أوحى اللّه إليهم بما شاء أن يوحيه إليهم من آياته وكلماته.. فإذا لم يكن عند هؤلاء المشركين علم بهذا، فليسألوا أهل الذكر، أي أصحاب العلم، وهم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فإن من واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم، قبل أن يتعامل به، ويجادل فيه.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا رِجالًا} إشارة إلى أن رسل اللّه جميعا كانوا من الرجال، ولم يكن أحد منهم من النساء، وأنهم أوحى إليهم وهم رجال، قد بلغوا الرشد، وجاوزوا مرحلة الصبا والشباب، وأنه لم يكن أحد من رسل اللّه من عالم غير عالم البشر.
قوله تعالى: {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} هو متعلق بقوله تعالى: {نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
أي نوحى إلى هؤلاء الرجال الذين اخترناهم لرسالتنا {بالبينات} أي بالآيات البينات، وهى المعجزات المادية المحسوسة، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات عيسى. {والزبر} أي الكتب، والصحف.. كصحف إبراهيم، وصحف موسى، وكالتوراة والإنجيل.
وفى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} التفات إلى النبي الكريم، بهذا الخطاب الكريم من رب العالمين.. وأن اللّه سبحانه وتعالى قد نزّل إليه الذّكر أي القرآن الكريم، وسمّى ذكرا، لأن فيه من آيات اللّه ما يذكر الناس باللّه سبحانه وتعالى، ويلفت قلوبهم وعقولهم إليه.
كما أن فيه ذكرا باقيا للنبىّ الكريم وقومه، كما يقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.
فهذا الحديث الطيب المتصل مع الزمن، المردّد على أفواه الأمم، من سيرة النبي الكريم، وسيرة أصحابه الكرام، والهداة المصلحين من أئمة المسلمين وعلمائهم- هذا الحديث، هو أثر من آثار هذا الكتاب الكريم، الذي أنزل على النبي الكريم.
وفى تعدية الفعل {أنزلنا} بحرف الجر {إلى} بدل الحرف المطلوب له وهو {على} إشارة أن إنزال الكتاب لم يكن محمولا إلى النبي حملا، جملة واحدة، وإنما أوحى إليه وحيا، آية آية، أو آيات آيات.
وقد جاء قوله تعالى: {طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} كما جاء الفعل في آيات أخرى، متعديا بإلى وبعلى، وذلك ليجمع بين نزول القرآن مفرقا، وبين الجهة العالية التي نزل منها.
وفى قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزل إلى النبىّ، هو كذلك نزّل إلى الناس.. فهم شركاء للنبىّ في هذا الكتاب، ومطلوب من كل إنسان أن يحسب أن هذا الكتاب هو كتابه المنزل عليه.. يفقهه، ويعمل به، ويدعو الناس إلى العمل به، مقتفيا في هذا أثر النبىّ، مشاركا في حمل الرسالة معه، في حال حياته، أو من بعد وفاته..!
وفى مخاطبة النبىّ بقوله تعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} ومخاطبة الناس بقوله سبحانه: {نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} تفرقة من وجهين:
الأول: أن النبىّ الكريم خوطب خطابا مباشرا من الحقّ سبحانه وتعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} على حين أن الناس خوطبوا بفعل لم يذكر فاعله هكذا {نزّل إليهم}، لأن التنزيل لم يكن مباشرا لهم، بل كان بوساطة النبىّ، الذي تلقّاه بدوره عن طريق الملك.
الثاني: أن الفعل {أنزل} يفيد الجمع، على حين أن الفعل نزّل، يفيد {التفرّق}، وهذا هو ما يشير إليه الحال من أمر القرآن بين النبىّ والذين تلقوه منه.. فالنبى بالنسبة لهم هو المصدر الأول الذي تجيئهم منه آيات اللّه وكلماته.. وهم يتلقونها منه آية آية، أو آيات آيات، فناسب أن يخاطب النبي في مواجهتهم بقوله تعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ}.
وأن يخاطبوا هم ب قوله تعالى: {نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}.
هو تهديد لهؤلاء الذين يكذّبون رسول اللّه من المشركين، ويمكرون السيئات، أي يدبّرون الأعمال السيئة، ويرسمون خططها.. فالمكر هو إعمال الرأى والحيلة في الأمور.. ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو سيّىء.. وهؤلاء إنّما مكرهم من النوع السيّء الذي يبعدهم عن الخير، ويعرضهم للهلاك، والبوار. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فهل أمن هؤلاء الذين يدبّرون السوء، ويبيتون الشرّ والعدوان أن يخسف اللّه بهم الأرض، كما خسفها بالظالمين من قبلهم، أو يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، كما أنى أمما وأقواما، مكروا بآيات اللّه وكذبوا رسله؟: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} [99: الأعراف].
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} هو بيان لبعض الأحوال التي يقع فيها عذاب اللّه بأهل السوء والشقاق.. فهم إمّا أن يؤخذوا على حين غفلة.. وإما أن يلقاهم العذاب وهم في يقظة، حيث يتقلبون في وجوه الأرض.. أو يحلّ بهم البلاء وهم {على تخوف} أي على توقع للبلاء، بين يدى إرهاصات، تهدّد به وتنذر بوقوعه.. إن عذاب اللّه يقع حيث يشاء اللّه، ومتى يشاء.. وما هو من الظالمين ببعيد.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى اللّه سبحانه وتعالى من فضل على هذه الأمة، إذ عافاها مما ابتلى به الأمم السابقة، حين عجّل لها العذاب.. أما هذه الأمة، فقد أفسح للّه سبحانه وتعالى للفجّار من أهلها في الأجل، حتى تكون لهم إلى اللّه رجعة، حين يطول وقوفهم مع رسوله الكريم، وبين يدى ما معه من كلمات ربّه.. وفى هذا مزيد فصل من اللّه سبحانه على نبيّه، إذ لم يفجعه في قومه، ولم يهلكهم بسبب خلافهم عليه، ومكرهم السيّء به.. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
فهل يلقى هؤلاء المشركون المعاندون رأفة ربّهم بهم ورحمته لهم، بالإقبال عليه، ومصافاة رسوله وموادّته؟
ذلك ما كان يجب أن يكون!
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ}.
تفيأ الظلّ: تنقل من جهة إلى أخرى.. والداخر: الصاغر، المستكين.
وفى الآية الكريمة وعيد للمشركين، واتهام لعقولهم الضالّة المظلمة، التي أخرجتهم عن نظام الموجود كلّه، فكانوا نغما نشازا، لا يتناغم مع لحن الموجودات، المسبّحة بحمد اللّه ربّ العالمين.
وقد أراهم اللّه سبحانه في هذه الآية الكريمة صورة محسوسة لهذا الوجود وقد سجد فيه كل موجود، ولاء اللّه، وخشوعا لجلاله وعظمته.
فما خلق اللّه من شيء يرونه، في عالم الجماد، أو النبات، أو الحيوان، إلّا كان له ظل، يتبعه، ساجدا على الأرض، سجود العابدين الخاشعين.. في ذلة وانكسار للّه الواحد القهار.
وفى قوله تعالى: {ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} إشارة إلى تلك الأشياء المحسوسة، التي يحدّث جسمها عنها، وينبىء عن وجودها، فهى ليست من عالم المعقولات، ولهذا كان لها ظلّ، لما فيها من كثافة.
وفى قوله تعالى: {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} خروج على مألوف النظم، وهو إما أن يجىء هكذا: {يتفيّأ ظلّه} أو هكذا: {تتفيأ ظلاله} بمعنى أنه إذا أفرد الفاعل جاء الفعل مذكرا، وإذا جمع الفاعل، جاء الفعل مؤنثا.. ولكنه في النظم القرآنى، جمع بين الأمرين.. فجاء بالفعل مذكرا وبالفاعل جمعا.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، إذ دلّ بهذا على أن الفاعل، وهو {الظل} هو مفرد في أصله.. هو شيء واحد، ولكنه في أفعاله، وحركاته، بين القبض والبسط، والتحرك من يمين إلى شمال، يكون ظلالا، لا ظلا واحدا.. فهو جمع في واحد، وواحد في جمع!! وهذا بيان لا يكون إلا في كلمات اللّه، وفى كتابه المبين.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} هو استكمال لما قررته الآية السابقة من سجود ظلال الأشياء للّه، وأنها ليست وحدها هى التي تسجد للّه سبحانه، بل كل ما في السموات وما في الأرض.. من كل دابة تدبّ على الأرض.. ومن الملائكة في السموات يسجدون للّه، وهم لا يستكبرون.. يقول اللّه تبارك وتعالى في آية أخرى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} [15: الرعد].
وخصّت الدوابّ بالذّكر، لأنّها من مخلوقات الأرض، ذات الحسّ والحركة، وهى دون الإنسان منزلة.. وخصّت الملائكة بالذكر كذلك، لأنها من عالم السموات، وهى أشرف مخلوقاتها.
وفى هذا قطع لكل حجة للإنسان ألا يكون في الساجدين للّه.. فإذا عدّ نفسه من عالم الأرض، فهذه دوابّ اللّه كلّها تسجد للّه.. فليسجد معها.. وإذا كان يرى أنّه فوق هذه الدواب، فهذه مخلوقات السماء، وهذه الملائكة أشرف مخلوقاتها وأكرمها عند اللّه، قد سجدت للّه في ولاء وخشوع.. فليسجد للّه كما سجدت الملائكة، أو كما سجدت الدوابّ! وقوله تعالى: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} هو وصف للملائكة الذين دأبهم العبادة، وشأنهم السجود للّه.. فهم- مع منزلتهم عند اللّه- يخافون ربّهم الذي علا بسلطانه على كل سلطان {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} به، من اللّه، في غير تردد أو تكرّه.. إذ هم أعرف بما للّه في خلقه، وما على الخلق من واجب الطاعة والولاء للخالق.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال