سورة النحل / الآية رقم 112 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

النحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحلالنحل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ}.
الواو هنا للاستئناف، ووصل حدث بحدث.
وهذا الحدث هنا، هو المثل الذي ضربه اللّه لمن يعقل، ويعتبر، ويأخذ من مضرب المثل عظة وعبرة.
والمثل المضروب هنا، هو تلك القرية التي كانت آمنة مطمئنة، بما يسوق اللّه إليها من نعم.. فبطرت معيشتها، وكفرت بأنعم اللّه.
وقد اختلف المفسّرون في هذه القرية.. أهي قرية من قرى الأولين التي أهلكها اللّه ودمدم على أهلها؟ أم هى مكة.
والذي نميل إليه هو أن هذه القرية هى واحدة من تلك القرى التي أهلكها اللّه، والتي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ} [11: الأنبياء].. وبقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [59: الكهف] وبقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [48: الحج].
فأية قرية من تلك القرى الظالمة التي أهلكها اللّه بظلمها، والتي عرف المشركون أخبارها وما حلّ بأهلها- أية قرية من تلك القرى صالحة لأن تكون المثل المضروب لأهل مكة.. يرون في مخلّفاتها العبرة والعظة، إن كانوا يعتبرون ويتعظون.. فلقد عرف مشركو قريش ما حلّ بالقرى التي حولهم من عذاب اللّه.. فيما قصّ عليهم سبحانه وتعالى من أخبار {سبأ} في قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [15- 17: سبأ].
فهذه القرية- مثلا- كانت- كما يقص القرآن الكريم من أخبارها- في حياة طيبة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، تحفّ بها الجنات عن يمين وشمال، فأكل أهلها من رزق اللّه، ولم يشكروا له، بل كفروا بنعمه، ومكروا بآياته، فأخذهم بالبأساء والضرّاء، وبدّلهم بجنتيهم ذواتى الثمر الطيب، والخير الموفور، أرضا قفرا لا تمسك إلا ببقايا حياة باهتة من شجر لا يعطى إلا خسيس الثمر، وقليله..! وهكذا كل من يكفر بنعم اللّه، ويمكر بآلائه.
وفى قوله تعالى: {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} إشارة إلى ما حلّ بهذه القرية الظالمة من بلاء، وما وقع عليها من بأس اللّه إذ جاءها، فقد بدل اللّه أمنها وطمأنينتها، جوعا دائما وخوفا متصلا، حتى لقد اشتمل عليها الجوع والخوف، كما يشتمل الثوب على الجسد ويحتويه، وحتى أنه كلما بلى هذا الثوب، ألبسهم اللّه ثوبا غيره.. وهكذا، لا يخلعون ثوبا إلا لبسوا غيره، ليذوقوا العذاب، بما كانوا يصنعون.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ} هو إشارة إلى أن هذه القرية الظالمة، التي حلّ بها هذا البلاء، لم تؤخذ هكذا على غير حجّة قامت عليها، بل لقد بعث اللّه سبحانه وتعالى إلى أهلها رسولا منهم، فبلغهم رسالة ربّه إليهم، ودعاهم إلى الإيمان باللّه، وإلى الاستقامة على طريق الحقّ والخير، فأبوا إلا عنادا وكفرا.. فكان أن أوقع اللّه بهم البلاء، كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء].
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} هو إلفات إلى أهل مكة خاصة، وإلى كل ذى عقل ونظر، أن يأخذوا العبرة من هذا المثل، وأن يجدوا في النعم التي أنعمها للّه عليهم، داعية يدعوهم إلى شكر اللّه، والولاء له.. وإلّا حلّ بهم عذاب اللّه، كما حلّ يتلك القرية الظالمة.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تحريض المؤمنين على التمسك بالإيمان باللّه، وإخلاص العبادة له وحده، وأن يقطعوا كل صلة كانت تصلهم بمعبوداتهم التي عبدوها من دون اللّه، وذلك أنهم كانوا في جاهليتهم يدّعون أنهم مؤمنون باللّه، وأنهم إنما يعبدون هذه الأوثان التي يعبدونها ليتقربوا بها إلى اللّه، كما يقول اللّه سبحانه على لسانهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].. وهذا ضلال مبين، وشرك صراح باللّه، فهو سبحانه الذي تفرّد بالخلق والرزق، فواجب أن يفرد بالولاء والعبودية.
قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو بيان لتلك المآكل الخبيثة التي يجب على المؤمن باللّه أن يتجنّبها، حتى يكون مأكله حلالا طيبا. وتلك المآكل الخبيثة، هى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير اسم اللّه عليه.. فمن اضطر إلى أخذ شيء من تلك المآكل، {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} أي غير محلّ لها، وغير متجاوز حدود الحاجة التي يدفع بها الهلاك الذي يتعرض له- {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يتجاوز للمضطر عن هذا المنكر الذي ألمّ به، وعليه أن يخلّص نفسه منه في أقرب فرصة تسنح له.
إنه أشبه بالتقيّة، التي يتقى فيها المؤمن بلسانه، الأذى الذي يعرض له، إذا هو وقع ليد عدوّ من أعداء اللّه.
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
فى هذا تحذير لأولئك الذين تدعوهم أهواؤهم إلى إتيان المنكر، فيسوّغونه بتلك الصفات الكاذبة التي يخلعونها عليه، ويلبسونه بها ثوب الحلال الطيب.. فما اشتهته أنفسهم جعلوه حلالا طيبا، وإن كان في حقيقته حراما خبيثا، وما لم تمل إليه أهواؤهم وسموه سمة الحرام، وإن كان حلّا مباحا.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} إشارة إلى أن هذه المقولات التي يقولونها في حلّ الأشياء وحرمتها، إنما هى مما أملته عليهم أهواؤهم، وأنهم لم يحتكموا فيها إلى شرع أو عقل.
وقوله تعالى: {الْكَذِبَ} بدل من ضمير النصب المحذوف، وهو العائد على الاسم الموصول من الفعل {تصف} أي ولا تقولوا لما تصفه ألسنتكم، الذي هو الكذب، فما تصف ألسنتهم إلا كذبا، ولا تقول إلا زورا وبهتانا.
وقوله تعالى: {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} هو مقول قولهم، أي إن قولهم عن مطعوماتهم، هذا حلال، وهذا حرام، هو قول كذب، قالوه لينتهى بهم إلى الافتراء على اللّه.. فاللام في قوله تعالى: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} هى لام العاقبة.
وقوله تعالى: {مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو تعليل لنفى الفلاح عن الذين يفترون على اللّه الكذب، فإنهم بافترائهم الكذب قد خسروا خسرانا مبينا.. ذلك أن هذا الذي عاد عليهم من كذبهم وافترائهم، هو شيء تافه، استرضوا به أهواءهم في هذه الحياة الدنيا، فأوقعهم في هذا الذي هم فيه، من عدوان على حرمات اللّه، وعصيان للّه، وشرك به.. وذلك هو الخسران المبين..!
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
هو ردّ على الذين هادوا، أي اليهود، الذين كانوا من وراء المشركين، يزكّون أفعالهم المنكرة، ويقولون لهم: إن هذا الذي أنتم عليه فيما تحلّون وتحرّمون من مطاعمكم، هو الحق، وأنه من شريعة إبراهيم، وأن ما يحدثكم به محمد، هو مما يفتريه على اللّه.. فاثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تستمعوا له..!
وقد رد اللّه عليهم سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.. أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..} [145: الأنعام].. ثم كشف سبحانه وتعالى عما أخذ به اليهود من عقاب، فحرّم عليهم طيبات كانت أحلّت لهم، نكالا لهم، بسبب عدوانهم على حرمات اللّه، وافترائهم عليه.. فقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام].
ففى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} إلفات إلى هذا الموقف الذي وقفه اليهود من النبي، حين دعا المشركين بكلمات ربه، إلى أن يدعوا الزور الذي أدخلوه على مطاعمهم، كما ذكر اللّه لهم ذلك في قوله تعالى: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [138- 139: الأنعام].. فجاء اليهود إلى المشركين يكذبون النبي فيما يقول لهم عن ربه في هذه المطاعم، فرمى اللّه اليهود بهذا الخزي الذي حملته إليهم الآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ...}.
فهذا الذي حرمه اللّه سبحانه وتعالى على اليهود في تلك الآية هو، ما أشارت إليه الآية:
{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}.
وهذا يقطع بأن آية الأنعام قد سبقت آية النحل نزولا.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى الضالين عن سبيله، والشاردين عن الحق الذي يدعو إليه رسوله، أن يرجعوا إلى اللّه من قريب، وأن يتوبوا إليه، ويصلحوا من أنفسهم ما أفسدوا.. فإن فعلوا، وجدوا ربّا غفورا رحيما، يغفر لهم ما كان منهم، ويدخلهم في عباده المؤمنين.
والجهالة في قوله تعالى: {عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ} ليس المراد بها الجهل بالشيء، والوقوع في الإثم عن جهل بأنه إثم.. فهذا من المعفوّ عنه ابتداء، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} [115: التوبة].
وإنما المراد بالجهالة هنا، ما يركب المرء من نوازع الحمية والعصبية، وما يستولى عليه من حماقات الكبر والعناد.. وهذا هو أكثر ما يحمل الناس على معاندة الحق، ومعاداته، ويدعوهم إلى إتيان المنكرات، وركوب الضلالات وإلى هذا المعنى للجهالة، يشير الشاعر الجاهلى، عمرو بن كلثوم بقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالدعوة هنا إلى الرجوع إلى اللّه، دعوة عامة إلى كل شارد عنه، مسوق بهواه، محمول على مطية حميته، وعناده.
وفى العطف ب {ثم} في الموضعين هنا، إشارة إلى هذا البعد البعيد، الذي ينتقل به الإنسان من حال إلى حال.
فالذين عملوا السوء بجهالة، ثم كانت لهم إلى أنفسهم عودة، وكان لهم معها حساب.. هم على حال مباينة بونا شاسعا، لأولئك الذين يعملون السوء، ثم لا يقع في أنفسهم ما بسوؤهم منه، ولا تمس ضمائرهم نخسة من آثاره.
فالأولون لا بد أن تكون لهم إلى اللّه رجعة، وقليل منهم من يمضى على طريق السوء الذي هو فيه إلى آخره.. والآخرون هيهات أن يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم.. وقليل منهم من يفعل. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [17: النساء].. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135: آل عمران] والذين انتقلوا من حال المراجعة مع أنفسهم إلى حال التوبة وإصلاح ما أفسدوا، هم في حالهم الثانية على بعد بعيد من حالهم الأولى.. ولهذا جاء العطف ب {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ تابُوا}.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِها} يعود إلى التوبة، المفهومة من قوله تعالى {تابُوا}.
وهذا يعنى أن المغفرة والرحمة من اللّه تجىء بعد التوبة من الذنب، لا قبلها.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال