سورة الكهف / الآية رقم 93 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَداًّ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً

الكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهفالكهف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)}.
التفسير:
الذّكر: الخبر، والحديث عن الأمر بما يذكّر به.
مكنّا له في الأرض: جعلنا له مكانا ذا سلطان فيها.
السبب: ما يتوصل به إلى أمر من الأمور.. وهو في الأصل: الحبل الذي يصل شيئا بشىء.. ويقال للباب الذي يدخل منه إلى المكان: سبب.
عين حمئة: الحمأة: الطين الأسود، والعين الحمئة: التي اسودّ ما فيها من طين.. وقرىء: {عين حامية} أي شديدة الحرارة.. كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ} [8- 11: القارعة] السّدّان: مثنىّ سدّ، والسدّ: الحاجز بين الشيئين، ويسمى الجبل سدّا، لأنه يحجز بين ما بين يديه وما خلفه.
زبر الحديد: القطع العظيمة منه.. واحدتها زبرة: كغرفة.
الصّدفان: مثنىّ صدف، والصّدف جانب الجبل، ولا يقال له صدف حتى يكون في مقابله صدف آخر.. فكأن أحدهما صادف الآخر، وقابله.
القطر: النحاس المذاب، لأنه يقطر كما يقطر الماء.
أن يظهروه: أي أن يتسلقوه، ويركبوا ظهره، لملامسته وارتفاعه.
النقب: الثقب والخرق في الجدار، ينفذ من جانبه إلى الجانب الآخر.
ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه؟:
فى الخمس عشرة آية السابقة قصّة رجل ذى شأن عجيب، بين يديه قوّى، ومعه سلطان، قلّ أن يقع مثلهما ليد إنسان.. وسمى ذا القرنين لبلوغه المشرق والمغرب، فكأنه حاز قربى الدنيا.
ومن أجل هذا كانت المناسبة قوية بين قصة هذا الرجل، وبين قصة العبد الصالح.. صاحب موسى، فجاءت هذه القصة وراء قصّة العبد الصالح، تالية لها.
ثم إنه- مع هذا- يوجد بين القصّتين، أكثر من وجه من وجوه الشبه.
فأولا: العبد الصالح، وذو القرنين، كلاهما ممن اختصه اللّه سبحانه وتعالى بشىء من فضله ورحمته.
فاللّه سبحانه وتعالى يقول عن العبد الصالح: {عَبْداً مِنْ عِبادِنا.. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}.
ويقول جل شأنه في ذى القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}.
والفرق بين الرجلين فيما اختصهما اللّه تعالى به، أن ما أصاب العبد الصالح من فضل اللّه، كان علما لدنّيّا، ارتقى به فوق مستوى العلم البشرى، على حين أن ما أصاب ذا القرنين كان تمكينا في الأرض، وهداية إلى الأسباب التي تدعم هذا التمكين، وتحرسه من الآفات التي تجعل من تلك القوة الممكنة، أن تكون أداة بغى وعدوان.. فكان بهذا على مستوى من الحكمة والتدبير وحسن السياسة للملك، بما يكاد يتفرد به بين أصحاب الملك والسلطان.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن العبد الصالح نسيج وحده في العلم الذي معه، وإن ذا القرنين، نسيج وحده كذلك في دنيا الملوك والسلاطين، أصحاب الجاه والسلطان.
وثانيا: الأحداث التي اشتملت عليها كلتا القصتين.
ففى كل منهما ثلاثة أحداث، هى التي كشف عنها القرآن من أمر صاحبى القصة.
فخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.. هى الأحداث الثلاثة التي جرت على يد العبد الصالح.
وبلوغ مغرب الشمس، وبلوغ مشرقها، وإقامة السدّ.. هى أحداث ثلاثة، من أحداث ذى القرنين.
ثالثا: تحركات الرجلين.
كانت لكل منهما ثلاثة منطلقات.. كل منطلق إلى غاية من الغايات الثلاث، التي تولد من كل غاية منها حدث.
فالعبد الصالح، ينطلق في كل مرّة، ومعه صاحبه موسى.. وكأن موسى هو السبب الذي كان عنه منطلقه إلى كل غاية من غاياته الثلاث: {فانطلقا} {فانطلقا} {فانطلقا} وذو القرنين، ينطلق في كل مرة، ومعه سبب، يتبعه سبب، حتى يبلغ غايته.. {فَأَتْبَعَ سَبَباً} {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً}! ورابعا: أسباب العبد الصالح، تجرى على مستوى قدرى، فوق مستوى البشر.
أما أسباب ذى القرنين فتجرى على مستوى العقل البشرى، حيث يأخذ الأمور بأسبابها الظاهرة التي تبدو لعين العاقل، البصير، العالم.
ومع هذا، فإن أسباب كلّ منهما تلتقى عند نهايتها بما هو مطلوب ومحمود.
وهذا يعنى أن مستوى البشرية، يستطيع أن يرتفع بما يكتسب من العلم والمعرفة إلى حيث يجرى في طريق مستقيم، تتكشف فيه لبصيرته مواقع الحق والخير، فلا يخطىء الغاية، ولا يضل السبيل.
وهذا يعنى من جهة أخرى أن العلم المكتسب: إذا صادف قلبا سليما، وعقلا حكيما، ونفسا مطمئنة، كان أشبه بما يفاض على الإنسان فيضا، مما يفتح اللّه للناس من رحمته، فضلا، وكرما، من غير كسب! ذلك أن في الإنسان- كل إنسان- قبسة من العالم العلوىّ إذا أمدّها الإنسان بالسعي والجدّ في تحصيل المعرفة، ونفخ فيها من روحه وعزمه، ظلت مضيئة مشرقة، ثم ازدادت مع السعى والجدّ ضياء وإشراقا.
أما إذا أهمل الإنسان هذه القبسة العلوية التي في كيانه، ولم يمدّها من ذات نفسه بالوقود المناسب لها، خبت، ثم انطفأت وخمدت!.
تساؤلات.. وتصورات:
وفى أحداث القصة أمور لفتت إليها الأنظار، وأثارت كثيرا من التساؤلات، التي أدت بدورها إلى كثير من المقولات المتضاربة، الناجمة في أكثرها عن تصورات وأوهام: دون أن يكون لها مستند من واقع، ولا قبول من عقل، ولا إجازة من منطق.
ومن هذه التساؤلات، والمقولات، ما دار حول ذى القرنين والأسباب التي معه، ومغرب الشمس ومطلعها، ويأجوج ومأجوج، والسدّ الذي أقيم دونهم.
فكل أمر من هذه الأمور أصبح قضية، كثر المتخاصمون فيها، وكثرت مدّعيات كل طرف من أطراف الخصومة عليها، بحيث كان على من يريد النظر في أية قضية منها، أو أن يتعرف على وجه الرأى فيها- أن يستمع إلى عشرات الأقوال المتناقضة، التي يدعمها أصحابها بأحاديث تروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبآراء تستند إلى الأجلاء الأعلام من صحابة رسول اللّه رضوان اللّه عليهم، كعلىّ بن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، وابن عباس وغيرهم ولا نريد أن نشغل أنفسنا بهذه المقولات، ما صح منها وما لم يصح وذلك لأمرين:
أولهما: أن أية مقولة تقال في هذه الأمور، لا تزيد من قيمتها، ولا تنقص من قدرها في ميزان العبرة والعظة الماثلة منها.. إذ لا تعدو هذه المقولات التي قيلت أو تقال في هذه المسميات أن تكون ذيولا وإضافات، لا تغير شيئا من ذات المسمّى.. تماما كالاسم الذي يطلق على المسمى.. إنه ليس أكثر من إشارة يشار بها إليه، أو رمز يستدل به عليه!! أما ذاته وحقيقته، فلا يؤثر فيها الاسم الذي يطلق عليها، ولا يغير من صفتها شيئا.
وثانيهما: أن هذه المقولات مبثوثة في كتب التفاسير، والحديث، والقصص.. بحيث لا يحتاج الأمر في الوقوف عليها عند من يهمّه أمرها، إلى كبير مشقة.. فما هى إلا أن يمد يده إلى أي كتاب منها حتى يقع على ما يريد وأكثر مما يريد! وعلى هذا، فإننا سنقتصر على إشارة دالة على كل مشخص من هذه المشخصات، حسب مفهومنا له.
فأولا:
ذو القرنين: هو الإسكندر الأكبر، ملك مقدونيا، من بارد اليونان.. والذي استطاع أن يضم بلاد اليونان كلها إلى ملكه الذي ورثه عن أبيه، ثم استطاع كذلك أن يوسع دائرة مملكته شرقا وغربا، حتى ضمّ إليه بفتوحاته معظم العالم المعمور الذي كان معروفا في وقته.. فبلغ الصين والهند شرقا، ودارت في فلك دولته قرطاجنة، ومصر، والشام، والعراق، وإيران، وأفغانستان، والهند، وأطراف الصين.
أما سبب امتداد ملكه جهة الشرق لا الغرب، فلأن الشرق في ذلك الحين، كان هو مركز النشاط الإنسانى، ومطلع العلوم والفنون، والآداب، وكان هو الذي يناظر بلاد اليونان التي كانت الشعلة المضيئة في الظلام المنعقد على أوربا في ذلك الحين.. ولهذا كان الاحتكاك دائما في هذه العصور الغابرة، واقعا بين بلاد اليونان، وفارس، وما بينهما.
وقد تتلمذ الإسكندر على الفيلسوف اليوناني العظيم، أو المعلم الأول أرسطو.
وساعده نبوغه العبقري على أن يهضم فلسفة أرسطو في فترة قصيرة، وأن يتمثلها تمثيلا صحيحا، وأن يصفّيها من كلّ شائبة.. فكانت تلك الفلسفة غذاء صالحا لهذا العقل السليم المتفتح لاستقبال كل ما يمدّه بطاقات من النور، تزداد بها بصيرته نفوذا إلى أعماق الأشياء، والوصول إلى لبابها.
فالإسكندر، بذكائه وعبقريته، وباستعداده الموروث للملك والسلطان- استطاع أن يحوّل فلسفة أرسطو إلى واقع عملىّ، وإلى قوة منطلقة معه لتحقيق آماله الكبيرة، وبناء هذه الدولة العظيمة التي تحركت لها همته، على أساس وطيد، من العدل والإحسان.
وذو القرنين- كما يذكره القرآن- رجل مؤمن باللّه، التقى فيه هذا الإيمان بطبيعة قوية، تنفى الخبث، وتعاف المنكر من الأمور، وتأبى أن تنزل إلى ما يمسّ المروءة، ويجور على الشرف والكرامة.
فكانت خطواته كلّها قائمة على طريق الحق، والعدل، والخير.
والإسكندر، أشبه الناس بذي القرنين هذا فقد كان مؤمنا باللّه، وقد فتح له الطريق إلى هذا الإيمان أستاذه أرسطو، الذي كان موحّدا، يقول بالصانع الأول، وبالعقل الأول، وبالمحرّك الأول، وبالسبب الأول.. إلى غير ذلك من المقولات، التي تجعل على الوجود قوة عاقلة، يدور في فلكها كل موجود! وإذا كانت تصورات أرسطو للّه سبحانه وتعالى يحفّها الغموض، فإنها تصورات في صميمها، تبلغ بمن يأخذ طريقه معها على هدى وبصيرة- إلى التصوّر الصحيح للّه سبحانه وتعالى.
وليس بالبعيد أن يكون الإسكندر قد اهتدى في طريقه إلى اللّه بما لم يهتد إليه أستاذه، فآمن بإله متفرد بكل كمال، منزّه عن كل نقص.. لا يشاركه أحد في ملكه، مما كان يقول به أستاذه، وتقول به الفلسفة اليونانية، من العقول السبعة، النابعة من العقل الأول، والعاملة معه..!
وعلى أىّ، فإن ذا القرنين، سواءا كان هو الإسكندر الأكبر، أو غيره من عباد اللّه، فإنه على صفتين:
أولهما: أنه ذو سلطان متمكن، وأنه- بما آتاه اللّه من عقل وحكمة، ومن ملك وسلطان- قد اجتمع له من الأسباب ما يمكّن له من الحصول على مسببات لم تجتمع ليد أحد غيره، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} وليس المراد بقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} العموم والشمول، لجميع الأشياء.. وإنما المراد به كل شيء يصلح به أمره، ويقوم عليه سلطانه.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان الهدهد عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} [23: النمل] ومثله قوله تعالى على لسان سليمان: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [16: النمل].. فالمراد بكل شيء في الموضعين: ما يصلح عليه الأمر، ويتم به نظام الحياة في المستوي الطيب الكريم.
وثانية الصفتين اللتين يتصف بهما ذو القرنين: أنه مؤمن باللّه وأنه أقام هذا الملك الواسع العريض على الحق، والعدل والإحسان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً} فهو في هذه الآيات يخاطب من اللّه وحيا أو إلهاما، كما أنه في هذه الآية أيضا يقوم داعية للّه يدعو إلى الإيمان باللّه.. ثم هو مؤمن بالآخرة وبالجزاء الأخروي، يأخذ الكافرين باللّه بالبأساء والضراء في الدنيا، ثم يدعهم ليلقوا في الآخرة العذاب الشديد النّكر الذي لا تعرفه الحياة، ولا يذوق مثله الأحياء في الدنيا.
ومما يدل على إيمانه باللّه، ما تكرر على لسانه من إضافته إلى ربّه.
فيقول: {ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}.
ويقول: {هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}.
ويقول: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.
الأسباب التي بين يدى ذى القرنين:
والأسباب هى الوسائل التي يتوسل بها إلى نتائج ومسببات.. وقد تكون هذه النتائج، وتلك المسببات أسبابا إلى نتائج ومسببات.. وهكذا.
أسباب يتوسل بها إلى مسببات، ثم مسبّبات تكون وسائل يتوسل بها إلى مسببات.. ثم تكون هذه المسببات، وسائل إلى مسببات.. في سلسلة تتصل حلقاتها، ويتكون من كل حلقة منها سلسلة من الأسباب والمسببات.
بحيث ترتبط أحداث الحياة كلها بهذه السلاسل، وتلك الحلقات، كما ترتبط بالشجرة أغصانها، وفروعها، وأوراقها.
وما آتاه اللّه سبحانه وتعالى ذا القرنين من أسباب لكل شىء.
هى تلك الوسائل السليمة الصحيحة، المؤدّية إلى مسبّبات طيبة كريمة، قائمة على الخير والإحسان.
وقد يكون للشىء أكثر من سبب، وأكثر من وسيلة يتوسل بها إليه.
وبعض هذه الأسباب سليم كريم، وبعضها ملتو خبيث.
فالحصول على المال مثلا، يمكن أن يتوسل إليه بالعمل الجادّ، وبالكسب الحلال، كما يمكن أن يتوسّل إليه بأسباب كثيرة فاسدة، كالسّرقة، والغصب، والاحتيال، والنصب، والغشّ، والرّبا.. ونحو هذا.
وفى قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} إشارة إلى أن الأسباب التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى في يد ذى القرنين، وأقام نظره وقوله عليها، هى الأسباب السليمة الصحيحة المعزولة عن الأسباب الفاسدة الظالمة.. وهذا هو السرّ في النظم الذي جاء عليه النظم القرآنى، من إفراد كلمة سبب، ليكون ذلك إشارة دالة على أنه سبب واحد، متخيّر من بين كل الأسباب، وأنه السبب الصالح السليم فيها، أو هو أصلح وأسلم الأسباب.. ويكون معنى النظم: {وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}.
أي آتيناه سببا من كل شيء يعالجه، ويعمل فيه، وهو السبب الموصّل إليه على أكمل صورة وأعدلها.. وفى تنكير السبب، ما يغنى عن وصفه، إذ أن هذا التنكير يحمل في كيانه- مع هذا الأسلوب الذي عليه النظم القرآنى- تنويها به، ورفعا لقدره، واستعلاء بمكانته بين الأسباب المتداخلة معه في الوصول إلى الغاية المتّجه إليها.
مغرب الشمس.. ومطلعها:
تحدثت الآيات عن بلوغ ذى القرنين مغرب الشمس، ومطلع الشمس وأنه تحرك غربا حتى بلغ مغرب الشمس، وتحرّك شرقا حتى بلغ مطلعها وقد حمل ذلك كثيرا من المفسّرين على الخوض في تحديد المكان الذي تغرب فيه الشمس، والمكان الذي تطلع منه.. وكثير من الخائضين في هذا الأمر كانوا على علم من هذا الذي نعلمه نحن اليوم من أمر الفلك، وأن الشمس لا تغرب أبدا.. وأنها إذا غربت من أفق من آفاق الأرض كانت في شروق على أفق آخر من آفاقها..!
وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن غروب الشمس وشروقها، فهو حديث منظور فيه إلى الواقع المشاهد من حياتنا، في تعاملنا مع الشمس.. فنحن نراها تغرب وتشرق كل يوم، على الأفق الذي نعيش فيه من الأرض.
فذو القرنين، يرى- كما نرى- الشمس تغرب وتشرق كلّ يوم.. وقد ذكر القرآن الكريم وصفا للمكان الذي بلغه ذو القرنين غربا، والذي كانت تغرب فيه الشمس، على مستوى نظره: {وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي أنها كانت في نظره تسقط وتختفى عند عين حمئة: أي عين ماء فيها طين قد اسودّ كثيرا، وكأنه الحمم.. أو هى {عين حامية} كما قرىء بها.. أي شديدة الحرارة.. وكما وصف القرآن الكريم هنا طبيعة الأرض التي تغرب فيها الشمس، وصف المجتمع البشرى الذي كان يعيش هناك، فقال تعالى: {وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}.
فهم قوم غير مؤمنين باللّه.
أما مطلع الشمس، فلم يصف القرآن طبيعة الأرض التي تطلع منها، وإنما وصف طبيعة الجماعة الإنسانية كانت التي تقيم هناك.. فقال تعالى: {وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً..} أي أنهم على حال من البدائية، بحيث لا يرتفعون كثيرا عن مستوى الحيوان. فهم عراة أو شبه عراة.. لا تكنّهم بيوت مصنوعة، ولا تسترهم ثياب منسوجة.. يأوون إلى الكهوف والمغارات.
ولهذا اختلف موقف ذى القرنين من الجماعة البشرية، هنا وهناك.. فالجماعة التي وجدها عند مغرب الشمس، كانت على مستوى من الفهم والإدراك، ولديها ما يؤهلها لأن تتحمل التكاليف، وتدعى إلى الإيمان باللّه.
ولهذا، وقف عندها ذو القرنين، وامتثل ما أمره اللّه فيها بقوله سبحانه: {يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} فكان موقف ذى القرنين هنا جامعا الأمرين معا.. {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً}.
أما الجماعة التي وجدها عند مطلع الشمس، وهى الجماعة التي كانت في مرحلة الطفولة الإنسانية، فقد تجاوزها، ولم يقف طويلا عندها، ولم يعرض عليها الإيمان باللّه، إذ كانت بحيث لا تعقل تلك الدعوة، ولا تجد لها مفهوما، فهى- والحال كذلك- لم تبلغ مبلغ التكليف بعد، وقد تركها تعالج أمورها على ما يقع في تصورها الطفولىّ، حتى ينضجها الزمن، ويبلغ بها مبلغ الرجال! ولا نقع فيما وقع فيه الذين سبقونا من المفسّرين من الرجم بالغيب حول تحديد المكان الذي غربت عنده، أو طلعت منه، شمس ذى القرنين.. ويكفى أن نشير إلى أنّهما لم يكونا أقصى الأرض غربا، أو أقصاها شرقا.. فقد صرّح القرآن الكريم، بأن ذا القرنين، بعد أن بلغ مطلع الشمس، جاوز هذا المكان، حتى بلغ بين السّدّين.. أي الجبلين، أو الحاجزين، إذ كان كل منهما يحجز ما وراءه عما هو أمامه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}.
وقرىء {يَفْقَهُونَ} بضمّ الياء، وكلا القراءتين على معنى سواء، في أن القوم ما زالوا في درجة متأخرة من الإنسانية، وأنهم وإن ارتفعوا قليلا عن هؤلاء القوم الذين صادفهم عند مطلع الشمس إلا أنهم ما زالوا في مرحلة الصّبا، لا يحتملون تبعات التكاليف، ولهذا كان موقفه منهم موقفا وسطا، فلم يدعهم إلى الإيمان باللّه، لأنهم دون مستوى هذه الدعوة، ولم يتركهم وشأنهم، بل أخذهم بشىء من الوقاية والرعاية، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال، وهم على وشك أن يبلغوه فأقام لهم هذا السدّ الذي يحميهم من عواصف الشر التي تهبّ عليهم من جيرانهم: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}.
يأجوج.. ومأجوج:
لم يشر القرآن إلى يأجوج ومأجوج بأكثر من هذا الوصف الذي يصفهم به جيرانهم، وأنهم مفسدون في الأرض، وهم لهذا يطلبون من ذى القرنين أن يجعل بينهم وبين هؤلاء المفسدين سدّا، يدفع عنهم عدوانهم.
{قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}.
{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}.
هذا هو كل ما كشف عنه القرآن من {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ولكن يظهر أن غرابة الاسم يأجوج ومزاوجته مع مأجوج الذي يشبهه في غرابته، قد أغرى المفسّرين، وغيرهم من أصحاب السّير بأن يخلعوا على المسمّى من الصفات الغريبة، والأوصاف العجيبة، مالا يكاد يقع لخيال الذين ألفوا ليالى ألف ليلة وليلة: فهم- أي يأجوج ومأجوج- بين طويل يبلغ طوله عشرات الأمتار، أو قصير لا يجاوز ذراعا! وقل مثل هذا في أفواههم، وأسنانهم، ورءوسهم، وشعورهم، مما لا يكاد يكون إلا في عالم الشياطين والمردة، في تصورات الذين يتحدثون عنهما.
إن يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هذين الاسمين في غرابتهما، وازدواجهما كانا مادة خصبة لتوليد الصور الغريبة، وتأليف الروايات المختلفة، حتى يستقيم المسمّى على دلالة الاسم، وحتى لقد سمح الخيال بأن يقال: إن هذين الاسمين عربيان، وإن يأجوج، مشتق من أجيج النار، وهو هذا الصوت الرهيب الذي تشهق به النار حين يتأجج وقودها ويندلع لهيبها.. كما أن مأجوج، مشتق من الموج والاضطراب.. يقال ماج البحر: أي اضطرب وهاج..!
ولعلّ أغرب ما قيل في هذا المقام من مقولات، أن آدم كان قد احتلم، فوقعت نطفته على الأرض، وكان أن تخلّق من هذه النطفة كائن هو الأب الأكبر لهؤلاء القوم!!
وهذا وكثير كثير غيره مما قيل في يأجوج ومأجوج، هو- كما قلنا- بعيد غاية البعد عن منطوق القرآن، كما أنه بعيد غاية البعد عن الحقيقة الممكن تصورها.. فما عرف في التاريخ البعيد، أو القريب، جماعة بشرية لها شيء من هذه الأوصاف.. وما عرف في أبناء آدم هذا التفاوت البعيد في الصفات الجسدية، وإن وجد بينهم تغاير في الألوان، وفى الأخلاق والعادات، وتفاوت في العقول والملكات.. ولكن مع هذا التغاير وذلك التفاوت- لا يبدو منهم جميعا ما يقطع نسب بعضهم عن بعض، ولا يدفع نسبة بعضهم إلى بعض.
وعلى هذا، فإنا نقول بأن يأجوج ومأجوج هما جماعة أو جماعات من تلك القبائل المتخلفة، التي تسكن الآجام والغابات، وتأوى إلى الكهوف والمغارات، والتي لم تبعد كثيرا عن حياة الحيوانات المتوحشة المفترسة، وتسبب كثيرا من القلق والإزعاج للجماعات القريبة منها والتي أخذت حظا من المدنية والعمران.
وحسبنا أن نذكر هنا المغول وما أحدثوا من إفساد للحضارة الإسلامية، مما لم تحدثه أعظم الزلازل، وأعتى الأوبئة وأشدها هولا وفتكا..!
السد، وما أقيم منه:
كان السدّ الذي أقامه ذو القرنين، استجابة للقوم الذين لقاهم بين السدين- كان أقل أحداث هذه القصة إثارة للبحث، وتوليدا للصور والخيالات.
وذلك أن القرآن الكريم قد تحدث عن هذا السدّ بشىء من التفصيل، لم يدع لأصحاب الخيال أن ينطلقوا بخيالاتهم فيه إلى مدى بعيد.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟}.
{قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}.
هذه هى قصة إقامة الردم كما سماه ذو القرنين، أو السد كما طلبه القوم.
إن مادته من قطع الحديد، التي جمعها القوم من كل مكان. وجعلوا منها جسرا كبيرا يسدّ الفراغ الذي كان بين الجبلين، والذي كان ينفذ منه يأجوج ومأجوج إلى القوم.
وقد أمر ذو القرنين القوم أن يوقدوا على هذا الحديد، النار، وأن يستعملوا المنافيخ كى يشتدّ اشتعال النار. وينصهر الحديد.
فلما تم له ذلك، دعا القوم إلى أن يأتوا بالقطر وهو النحاس المذاب، فيفرغوه فوق هذا الحديد المنصهر، فيمسك بعضه ببعض، كما يفعل الملاط بأحجار البناء.
ولا شك أن الحديد لم يكن هو كل مادة البناء التي بنى بها الردم.
وإنما كان هو العنصر القوى فيها، بل هو كذلك العنصر الغريب غير المألوف في البناء.
ولهذا اختص بالذكر.. وهناك الأحجار، والرمال، وغيرها مما اتخذ في مادة البناء مع الحديد، والتي بها أمكن تسوية السدّ، وإلا لو كان السدّ حديدا حالصا لا حتاج إلى مالا تحتمله الطاقة البشرية، وخاصة في هذا الزمن البعيد، مع تلك الوسائل البدائية المحدودة للحصول عليه.
ومن تمام هذا التدبير الحكيم في إقامة الردم أن يختبر، وأن يرى منه القوم ثمرة هذا الجهد العظيم الشاق الذي بذلوه فيه.
وقد رأى القوم رأى العين الأثر العظيم الذي كان لهذا الردم.
فقد مضت الأيام، والشهور، دون أن يطرقهم طارق من هذا الشرّ الذي كان يبغتهم مصبحين وممسين، وكذلك رغم المحاولات التي بذلها يأجوج ومأجوج، لتسلقه، أو إحداث نقب أو ثقب فيه، ينفذون منه، كما يقول تعالى: {فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً} هذا هو الذي نطق به لسان الحال، وتحدث به القوم وحين رأى ذو القرنين هذا قال: {هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}.
أي أن هذا الرّدم، هو رحمة من رحمة اللّه ساقها اللّه سبحانه وتعالى، إلى هؤلاء القوم على يديه.
ووعد اللّه هنا، قد يكون مرادا به يوم القيامة، وقد يكون مرادا به الأجل المقدور في علم اللّه لبقاء هذا الرّدم.. والرأى الأول هو الأولى، إذ كانت الآية التالية لهذه تومىء إليه، وهوقوله تعالى: {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً}.
وهذا يعنى أن هذا الرّدم قد صار أشبه بجبل من تلك الجبال المتصلة به من طرفيه، وأنه باق ما بقيت فإذا جاءت أشراط الساعة، دك هذا الردم ودكت الجبال كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة أخرى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} [14: الحاقة].
وهكذا تنتهى مسيرة ذى القرنين، يصحبه فيها عقل حكيم، وقلب سليم، متخذا إلى غاياته الأسباب المستقيمة مع العدل والإحسان.
إنه يضع في مسيرته تلك آثار أقدام الإنسان الرشيد، المهتدى بعقله، الموقظ لضميره.. فكاد الإنسان بتحريك ملكاته، وإطلاق قوى الخير فيه- كاد- يتعادل ميزانه مع ميزان الإنسان الذي يتلقى فيوض العلم العلوي ويقيم خطواته على هديها.
وهكذا يستطيع الإنسان أن يثبت أنه كائن له إلى العالم العلوي سبيل، وأن بينه وبين الملأ الأعلى طريقا يصل ما بين الأرض والسماء..!!
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما بين قصة ذى القرنين، وقصة العبد الصالح من تلاق وتوافق في أكثر من وجه.. كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
والذي نود أن نشير إليه هنا من وجوه هذا التلاقي والتوافق، هو ما جاء في قصة العبد الصالح من قوله لموسى، حين أراد فراقه: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} فلما نبأه بتأويل هذا قال له: {ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.
وهنا في قصة ذى القرنين يجىء قوله تعالى: {فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً}.
فيجىء فعل الاستطاعة في القصتين، بتاء المطاوعة مرة، ويجىء بغير التاء مرة أخرى.
وقد قلنا إن هذه التاء تدل على زيادة في الشدة والقسوة، حيث يفترق بها فعل عن فعل.
وهنا- في قصة ذى القرنين- نجد نفس الشيء.. حيث أن القوم أرادوا أن يصعدوا السدّ صعودا فما {اسْتَطاعُوا}.
وأما حين أرادوا أن يحدثوا فيه نقبا فما {اسْتَطاعُوا}.
ومعالجة النقب أشدّ صعوبة من محاولة التسلق..!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال