سورة البقرة / الآية رقم 221 / تفسير تفسير الثعلبي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وجملة القول أن تحريم الخمر على أقوال المفسرون والحُفّاظ مختلفة وبعضها متفقة. هي أن الله أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وهو المسكر، وكان المسلمون يشربونها وهي لهم يومئذ حلال، ونزلت في مسألة عمر ومعاذ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربكم تقدم في تحريم الخمر» فتركها قوم لقوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقالوا: لا حاجة لنا في شيء فيه إثم كبير لقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وكانوا يتمتعون بمنافعها ويجتنبون آثامها إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامهم الخمر فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلّي بهم فقرأ {قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون} إلى آخر السورة فحذف {لاَ} فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فحرّم المسكر في أوقات الصلاة فقال عمر: إنّ الله يقارب في النهي عن شرب الخمرة، فلا أراه إلاّ وسيحرّمها فلمّا نزلت حرّم الله تركها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة.
وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة، ويشربونها في غير حين الصلاة إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول:
تحيّي بالسلامةِ أُم بكر *** وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني اصطبخ بكراً فإني *** ليت الموت يبعد عن خيام
وودّ بنو المغيرة لو فدوه *** بألف من رجال أو سوام
كأنّي بالطويّ طويّ بدر *** من الشيزي يكلل بالسنام
كأني بالطويّ طويّ بدر *** من الفتيان والحلل الكرام
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مسرعاً يجرّ رداءه حتى انتهى إليه ورفع شيئاً كان بيده ليضربه، فلمّا عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، والله لا أطعمها أبداً.
وكان من حمزة بن عبد المطلب ما روى الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم ودفع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نثاره من الخمس، واعدتُ رجلاً صواغاً أن يرتحل معي فنأتي بأذخر أردت أن أبيعه من الصواغين وأستعين بثمنه على الدخول بفاطمة وعرسها.
قال: فحملت شارفي عند حائط رجل من الأنصار ومضيت لأجمع الحبال والغرائر والأقتاب وجئت وقد بقر بطن شارفي واجتبَّ أسنمتهما قال: فلم أملك عيني أن بكيت ثم قلت: من فعل هذا بشارفي؟ قالوا: عمّك حمزة فعله وهذا هو في البيت معه شرب، عندهم قينة وحلفوا فقالت:
ألا يا حمزُ المشرف النواء *** وهنّ معقّلات بالفناء
زج السكين في اللبات منها *** فضرجهن حمزة بالدماء
وأطعم من شراثحها كبابا *** مهلوجة على رهج الصلاء
فأصلح من أطايبها طبيخاً *** لشربك من قدير أو سواء
فأنت أبا عمارة المرجّى *** لكشف الضرّ عنّا والبلاء
فقام إلى شارفيك فقتلهما، [قال علي:] فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة معه مولاه زيد قال: ما جاء بك فداك أبي وأمي يا عليّ، قلت ما فعل عمّك بشارفيَّ وخبّرته الخبر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس نعليه ورداءه ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد فسلّم وأستأذن ودخل البيت وقال: يا حمزة ما حملك على ما فعلت بشارفيّ ابن أخيك؟ فرفع رأسه وجعل ينظر إلى يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ساقيه، فصوّب النظر إليه، ثم قال: ألستم وآباؤكم عبيد لأبي، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم القهقرى وقال: إن غنمك وجمالك عليَّ فغرمهما لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبح غدا حمزة على رسول الله يعتذر فقال: مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك.
قالوا: واتخذ عتبان بن مالك طعاماً فدعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند عتبان وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجو الأنصار وفخر لقومه، فقام رجل من الأنصار وأخذ لحيي البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّةً، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بياناً وافياً، فأنزل الله تحريم الخمر في سورة المائدة {إِنَّمَا الخمر والميسر} [90] إلى {يَنتَهُونَ} [التوبة: 12] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر: انتهينا يا ربّ.
قال أنس: حرّمت ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها إليهم يوم حرّمت عليهم، ولم يكن شيء أثقل عليهم من تحريمها قال: فأخرجنا الحباب إلى الطريق فصببنا ما فيه، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد غدت أزقة المدينة بعد ذاك الحين كلّما مطرت استبان بها لون الخمر وفاحت ريحها.
فأمّا ماهية الخمر فاختلف الفقهاء فيها فقال بعضهم: هو خاص فيما اعتصر من العنبة والنخلة فغُلي بطبعه دون عمل النار فيه فإن ما سوى ذلك ليس بخمر، وهذا مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وأكثر أهل الرأي، ثم اختلفوا في المطبوخ فقالوا: كل عصير طبخ حتى يذهب ثلثاه فهو حلال إلاّ أنه يكره، فإن طبخ حتى يذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلاّ أن المسكر منه حرام، واحتجوا في ذلك بما روى أبو كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» واختلفوا في المطبوخ بالمشمش (.......) روى نباتة عن سويد بن غفلة قال: كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله أن رزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.
وعن ابن سيرين أن عبد الله بن سويد الخطمي قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكم واحد.
وعن أنس بن سيرين قال: سمعت أنس بن مالك يقول إن نوحاً عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم فقال هذا: هذا لي، وقال: هذا لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثاها.
ابن أُبيّ وأُبيّ عن داود قال: سألت سعيد بن المسيّب ما الرُّب الذي أحلّه عمر رضي الله عنه، قال: الذي يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه.
وعن قيس بن أُبيّ حدّث عن موسى الأموي أنه كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.
وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: إذا طبخ الطلاء على الثلث فلا بأس، وبه قال المسوّر.
وقال الثعلبي: والذي عندي أن هذه الأخبار وردت في ثلث غير مسكر. يدلّ عليه ما روى سويد بن نصير عن عبد الله بن عبد الملك بن الطفيل الجزري قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: لا تشربوا من الطلاء حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، كل مسكر حرام، وقال قوم: إذا طبخ العصير أدنى طبخ فصار طلاء وهو قول إسماعيل بن علية وجماعة من أهل العراق.
وروي عن عيسى بن إبراهيم أنه لا يحرّم شيئاً من الأنبذة لا النيّ منها ولا المطبوخ إلاّ شراب واحد وهو عصير العنب النيّ الشديد الذي لم يدخله (ماء وتغيّرات من) الخمر فقط.
واستدلّ بما روى ابن الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشربوا في الظروف ولا تسكروا» قال أبو عبد الرحمن السدّي الحديث منكر، غلط فيه أبو الاحوص سلام بن سليم، لا نعلم أحداً كان يعوّل عليه من أصحاب سماك، وسماك أيضاً ليس بقوي، وكان يقبل التلقين.
قال أحمد: قيل: كان أبو الأحوص غلى في هذا الحديث. خالفه شريك في إسناده ولفظه، رواه شريك عن سماك بن حرب عن أبي بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدّيّا والحنتم والنقير والمزفت، وأجمعوا أيضاً بما أسندوا إلى سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة قال: اشربوا ولا تسكروا.
قال الإمام أبو عبد الرحمن هذا غير ثابت، وقرصافة لا ندري من هي، والمشهور عن عائشة ما روى سويد بن نصر عن عبد الله عن قدامة العامري أن جسرة بنت دجاجة العامرية حدّثتنا قالت: سمعت عائشة سألها أياس عن النبيذ قالوا: ننبذ الخمر غدوة ونشربه عشيّاً، وننبذه عشيّاً ونشربه غدوة، قالت: لا أُحلّ مسكراً وإن كان خبزاً، قالوا: قالته ثلاث مرات.
واعتلّوا بما روى هشيم عن ابن شبرمة قال: حدّثني الثقة عن عبد الله بن شدّاد عن ابن عباس قال: حرّمت الخمر منها، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب.
وهذا أولى بالصواب لما روى سفيان عن أبي الجويرية الجرمي قال: سألت ابن عباس عن الباذق قال: ما أسكر فهو حرام، وعن شعبة عن سلمة بن كميل قال: سمعت أبا الحكم يحدّث قال: قال ابن عباس: من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرِّم النبيذ.
واعتلّوا أيضاً بما أسندوه إلى عبد الملك بن نافع قال: «رأيت ابن عمر رأيت رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيها نبيذ وهو عند الركن، فدفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديداً فردّه إلى صاحبه، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله أحرام هو؟ قال، عليَّ بالرجل فأُتي به فأخذ منه القدح، ثم دعاهما فصبّه فيه ثم رفعه إلى فيه فصبّه، ثم دعاهما أيضاً فصبّه فيه ثم قال: أما إذا عملت فيكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء».
قال أبو عبد الرحمن: عبد الملك بن رافع هو مشهور ولكن حدّثنيه وأخبرنا عن الزبير خلاف حكاية ما روى وهب بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر».
وروى ابن سيرين عن ابن عمر قال: المسكر قليله وكثيره حرام، وروى أبو عوانة عن زيد ابن عمر قال: سألت ابن عمر عن الأشربة فقال: اجتنب كلَّ شيء فيه شيء مسكر، واحتجوا أيضاً بما أسندوه إلى يحيى بن يمان عن سفيان عن منصور عن مخلد بن سعيد عن ابن مسعود قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة فاستسقى فأُتي بنبيذ من السقاية فشمّه وقطب وقال: «عليّ بذنوب من زمزم» فصبّه عليه ثم شرب فقال رجل: أحرام هو يا رسول الله قال: «لا».
قال أبو عبد الرحمن: هذا خبر ضعيف لأن يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب سفيان، ويحيى بن يمان لا يحتج بحديثه، لكثرة خطئهِ وسوء حفظه، وعن زيد بن واقد عن خالد بن الحسين قال: سمعت أبا هريرة يقول: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها، فتحيّنت فطره بنبيذ صنعته في دباء، فلمّا كان المساء جئته أحملها إليه فقلت: يا رسول الله إني علمت أنك تصوم في هذا اليوم فتحيّنت فطرك بهذا النبيذ فقال: «ادنُ مني يا أبا هريرة» فرفعته إليه فإذا هو ينش فقال: «خذ هذه واضرب بها الحائط، فإنّ هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر».
واحتجّوا أيضاً بما أسندوه إلى سفيان عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: تلقّت ثقيف عمر بشراب فدعا به، فلمّا قرّبه إلى فيه كرهه فخلطه بالماء فقال: هكذا فافعلوا. واحتجّوا بما أسندوه إلى أبي رافع أن عمر بن الخطاب قال: إذا خشيتم من نبيذ لشدّته فاكسره.
واحتجوا بما قاله بعض أصحابنا وهو عبد الله بن المبارك معنى أكسره بالماء من قبل أن يشتدّ، ودليل هذا التأويل ما روى ابن شهاب هو سفيان بن يزيد أن عمر خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح الشراب فزعم أنه شرب الطلا فإني سائل عما يشرب فإن كان مسكراً جلدته فجلد عمر الحدّ تامّاً.
وروى إبراهيم عن ابن سيرين قال: يعد عصيراً ممن متّخذه طلا ولا يتخذه خمراً قال أبو سعيد الطلا الذي قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، سمّي بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل في ثخنه وسواده.
قال عبيد بن الابرص:
هي الخمرتكنى الطلاء *** كما الذئب يكنى أبا جعدة
قال الثعلبي: الطلاء الذي ورد فيه الرخصة إنما هو الرُّبّ فإنه إذا طبخ حتى يرجع إلى الثلث فقد ذهب سكره وشرّه وخلا شيطانه.
واحتجوا أيضاً بما روى هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أنه أُهدي له بطيخ خاثر فكان تبيّنه ويلغي فيه المسكر.
وعن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال: لا بأس بنبيذ البطيخ.
عن أبي أسامة قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم.
حماد بن سلمة عن عمر عن أنس قال: كان لأُم سلمة قدح فقالت: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الشراب: الماء والعسل واللبن والنبيذ.
وعن ابن شبرمة قال: قال طلحة بن مصرف لأهل الكوفة في النبيذ فقال: يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، قال: وكان المقداد والزبير يسقيان اللبن في العسل فقيل لطلحة: ألا نسقيهم النبيذ؟ قال: إني أكره أن يسكر مسلم في سنتي.
وعن سفيان قال: ذُكر قول طلحة عند أبي إسحاق في النبيذ فقال ابن إسحاق: قد سقيته أصحاب عليّ وأصحاب عبد الله في الخوافي قبل أن يولد طلحة، وعن ابن شبرمة قال: رحم الله إبراهيم شدّد الناس في النبيذ ورخّص فيه.
واحتجّوا أيضاً بما أسندوه إلى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يسير إذ حلّ بقوم فسمع لهم لغطاً فقال: ما هذا الصوت؟ قالوا: يا نبيّ الله لهم شراب يشربونه، فبعث النبي إليهم فدعاهم فقال: «في أي شيء تنبذون؟» قالوا: ننبذ في النقير وفي الدباء وليس لنا ظروف، فقال: «لا تشربوا إلاّ ما أوكيتم عليه»، قال: فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث، فرجع إليهم فإذا هم قد أصابهم وباء وصفروا فقال: «ما لي أراكم قد هلكتم؟» قالوا: يا نبيّ الله أرضنا وبيئة وحرّمتَ علينا إلاّ ما أوكينا عليه قال: «اشربوا، وكل مسكر حرام».
قالوا: أراد بهذا الخمر الذي يحصل منه السكر، لأن التنبّذ ذلك الطرب والنشاط ولا يحصلان إلاّ عن شراب مسكر.
أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في (قدر من عفاره).
قال الثعلبي: ويحتمل أنّ لهذه الأخبار وأمثالها معنيين: أحدهما أنها كانت قبل تحريم الخمر، والمعنى الآخر وهو أقربهما إلى الصواب أنهم أرادوا بالنبيذ الماء الذي ألقي فيه التمر أو الزبيب حتى أخذ من قوته وحلاوته قبل أن يشتدّ ويُسكر، يدلّ عليه ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصنع له النبيذ فيشربه يومه والغد وبعد الغد.
وروى الأعمش عن يحيى بن أبي عمرو عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنبذ له نبيذ الزبيب من الليل ويُجعل في سقاء فيشربه يومه ذلك والغد وبعد الغد، فإذا كان من آخر الآنية سقاه أو شربه فإن أصبح منه شيء أراقه».
وعن عبد الله بن الديلمي عن أبيه فيروز قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «يا رسول الله إنّا أصحاب كرم وقد أنزل الله تحريم الخمر، فماذا نصنع؟ قال: تتخذونه زبيباً، قلت: فنصنع بالزبيب ماذا؟ قال: تنقعونه على غدائكم، وتشربونه على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم، وتشربونه على غدائكم، قلت: أفلا نؤخّره حتى يشتدّ؟ قال: فلا تجعلوه في السلال واجعلوه في الشنان، فإنه إن تأخّر صار خمراً».
وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يُنبذ له في سقاء للزبيب غدوة فيشربه من الليل، ويُنبذ له عشوة فيشربه غدوة، وكان يغسل الأسقية ولا يجعل فيها نرديّاً ولا شيئاً، قال نافع: وكنّا نشربه مثل العسل.
وعن بسام قال: سألت أبا جعفر عن النبيذ قال: كان عليّ بن الحسين يُنبذ له من الليل فيشربه غدوة، ويُنبذ له غدوة فيشربه من الليل.
وعن عبد الله قال: سمعت سفيان وسئل عن النبيذ قال: أنبذ عشاءً وأشربه غدوة.
فهذه الأخبار تدلّ على أنه نقيع الزبيب والتمر قبل أن يشتد، وبالله التوفيق.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأكثر أهل الآثار: إن الخمر كل شراب مسكر سواء كان عصير العنب ما أُريد منها، مطبوخاً كان أو نيّاً وكل شراب مسكر فهو حرام قليله وكثيره، وعلى شاربه الحدّ إلاّ أن يتناول المطبوخ بعد ذهاب ثلثه فإنه لا يحدّ وشهادته لا تُرد، والذي يدلّ على حجّة هذا المذهب من اللغة أن الخمر أصله الستر، ويقال لكل شيء ستر شيئاً من شجر أو حجر أو غيرهما خمر، وقال: وخمر فلان في خمار الناس، ومنه خمار المرأة وخمرة السجادة، والخمر سُميّ بذلك لأنه يستر العقل، يدلّ عليه ما روى الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر فقال: إن الخمر نزل تحريمها، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. وقال أنس بن مالك: سُمّيت خمراً لأنهم كانوا يَدَعونها في الدّنان حتى تختمر وتتغيّر.
وقال سعيد بن المسيّب: إنّما سُمّيت الخمر لأنها تُركتْ حتى صفا صفورها ورسب كدرها.
وقال أنس: لقد حُرّمت الخمر وإنّما عامة خمورهم يومئذ الفضيخ قال: وما كان بالمدينة يصنعون الخمر وما عندهم من العنب ما يتخذون وإنما نسمع الخمور في بلاد الأعاجم وكنا نشرب الفضيخ من التمر والبسر، والفضيخ ما افتضخ من التمر والبسر من غير أن تمسّه النار.
وفيه روي عن ابن عمر أنه قال: ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ، ودليلهم من السنّة ما روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر مسكر حرام».
سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وما أسكر كثيره فقليله حرام».
عن أبي عثمان عمرو بن سالم الأنصاري عن القاسم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أسكر الغرق منه فملء كفك منه حرام والغرق إناء يحمل ستة عشر رطلاً.
وعن أبي الغصن الملقب بحجى قال: قال لي: هشام بن عروة: هل تشرب النبيذ؟ قلت نعم والله إني لأشربه قال: إن أبي حدّثني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر حرام أوّله وآخره».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من التمر لخمراً، وإنّ من العنب لخمراً، وإنّ من الزبيب لخمراً، وإنّ من العسل لخمراً، وإنّ من الحنطة لخمراً، وإنّ من الشعير لخمراً، وإنّ من الذرة لخمراً وأنا أنهاكم عن كل مسكر».
وعن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إنّ أهلنا ينبذون لنا شراباً عشاءً فاذا أصبحنا شربناه. فقال: أنهاك عن المسكر قليله وكثيره واعبد الله عزّ وجلّ، أنا أنهاك عن المسكر قليله وكثيره وأعبد الله عزّوجل، عليك أن أهل خيبر ينبذون شراباً لهم كذا وكذا يسمّونه كذا وكذا، وأن أبيك ينبذ شراباً من كذا وكذا يسمّونه كذا وكذا وهي الخمر، حتى عدّ له أربعة أشربة آخرها العسل.
وعن عكرمة قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أزواجه وقد نبذوا العصير لهم في كوز فأراقه وكسر الكوز».
روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليستحلّنّ ناس من أُمتي الخمر باسم يسمّونها إيّاه».
ويُروى عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «أما الخمر لم تحرّم لإسمها إنّما حرّمت لما فيها، وكل شراب عاقبته الخمر فهو حرام».
وحكي أنّ رجلاً من حكماء العرب قيل له: لم لا تشرب النبيذ؟ فقال: الله منحني عقلي صحيحاً، فكيف أدخل عليه ما يفسده.
{والميسر} يعني القمار قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يقامره الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والميسر مفعل من قول القائل: يسر هذا الشيء إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً، والياسرالرامي بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غيرهما، ثم قيل للقمار: ميسر، وللمقامر: ياسر ويسر قال النابغة:
أو ياسر ذهب القداح بوفره *** أسف نأكله الصديق مخلع
وقال الآخر:
فبتّ كأنني يسر غبين *** يقلب بعدما اختلع القداحا
وقال مقاتل: سمّي ميسراً لأنهم كانوا يقولون: يسر هو لنا ثمن الجزور، وكان أصل اليسر في الجزور، وذلك أنّ أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فيحزّونها ويجزونها اجتزاءً.
واختلفوا في عدد الأجزاء فقال أبو عمرو: عشرة وقال الأصمعي: إنما هي عشرون ثم يضمّون عليها عشرة قداح ويقال: منه الأزلام والأقلام سبعة منها لها أنصباء هي: الفذ وله نصيب واحدة، والتّوأم وله نصيبان، والرفت وله ثلاثة، والجلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسيل وله ستة، والمغلّي وله سبعة، وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي النسيج والسفنج والوغد.
ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة، قال أبو ذؤيب:
وكأنّهنّ ربابة وكأنّه *** يسر يفيض على القداح ويصدع
ويضعون الربابة على يد رجل عدل عندهم ويسمى المجيل والمفيض، ثم يجيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم، فأيّهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فانْ خرج له واحد من هذه الثلاثة التي لا أنصباء لها فاختلفوا فيه فكل منهم كان لا يعهد شيئاً ويغرّم ثمن الجزور كلّه.
وقال بعضهم: لا يأخذ ولا يغرّم، ويكون ذلك القداح لغواً فيعاد سهمه ثانياً فهؤلاء الياسرون والايسار ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمّون من لم يفعل ذلك منهم ويسمّونه البرم، قال متمم بن نويرة:
ولا برماً تهدى النساء لعرسه *** إذا القشع في برد الشتاء تقعقعا
فأصل هذا القمار الذي كانت العرب تفعله وإنما نهى الله تعالى في هذه الآية عن أنواع القمار كلّها.
ليث عن طاوس ومجاهد وعطاء قالوا: كل شيء فيه قمار فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالعود والكعاب.
عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين فإنّهما من ميسر العجم». وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًّا كرّم الله وجهه قال في النرد والشطرنج: هي من الميسر.
وعن القاسم بن محمد أنه قال: كل شيء ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو الميسر.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ووزر كبير من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل والمنع من الصلاة واستحلال مال الغير بغير حق.
قرأ أهل الكوفة إلاّ عاصم: كثير بالثاء، وقرأ الباقون بالباء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: وإثمهما أكبر من نفعهما، وقوله: حوباً كبيراً {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وهي ما كانوا يصيبونها في الخمر من التجارة واللّذة عند شربهما يقول الأعشى:
لنا من صحاها خبث نفس وكابة *** وذكرى هموم ما تفك أذاتها
وعند العشاء طيب نفس ولذّة *** ومال كثير عدّة نشواتها
ومنفعة الميسر ما يصاب من القمار ويرتفق به الفقراء.
{وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قال المفسّرون: إثم الخمر هو أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس، وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم.
وقال الضحّاك والربيع: المنافع قبل التحريم، والإثم بعد التحريم.
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّهم على الصدقة ورغّبهم فيها من غير عزم قالوا: يا رسول الله ماذا ننفق؟ وعلى من نتصدق؟ فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي شيء ينفقون وللاستفهام {قُلِ العفو} قرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو {قُلِ العفو} بالرفع، واختاره محمد بن السدّي على معنى: الذي ينفقون هو العفو، دليله قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24] وقرأ الآخرون بالنصب واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: قل ينفقون العفو.
واختلفوا في معنى العفو، فقال عبد الله بن عمرو ومحمد بن كعب وقتادة وعطاء والسدّي وابن أبي ليلى: هو ما فضل من المال عن العيال، وهي رواية مقسم عن ابن عباس.
الحسن: هو أن لا تجهد مالك في النفقة ثم تقعد تسأل الناس.
الوالبي عن ابن عباس: ما لا يتبيّن في أموالكم.
مجاهد: صدقة عن تطهير غني.
عمرو بن دينار وعطاء: الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافاً ولا إقتاراً. الضحّاك: الطّاقة. العوفي عن ابن عباس: ما اتوك به من شيء قليلٌ أو كثير فاقبله منهم.
طاووس وعطاء الخراساني: سمعنا بشراً قال: العفو اليسر من كل شيء.
الربيع: العفو الطيب، يقول: أفضل مالك هو النفقة.
وكلها متقاربة في المعنى، ومعنى العفو في اللغة الزيادة والكثرة قال الله: {حتى عَفَوْاْ} [الأعراف: 95] أي كثروا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعفوا اللّحى» قال الشاعر:
ولكنا يعضّ السيف منا *** بأسوق عافيات الشحم كوم
أي كثيرات الشحوم، والعفو ما يغمض الانسان فيه فيأخذه أو يعطيه سهلاً بلا كلف من قول العرب: عفا أي نال سهلاً من غير إكراه، ونظير هذه الآية من الأخبار ما روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله عندي خير، قال: «أنفقه على نفسك» قال: عندي آخر، قال: «انفقه على أهلك» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على ولدك» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على والديك» قال عندي آخر، قال: «أنفقه على قرابتك» قال: عندي آخر قال: «أنت أبصر».
وروى محمود بن سهل عن عامر بن عبد الله قال: أتى رسول الله رجل ببيضة من ذهب استلّها من بعض المعادن فقال: يا رسول الله خذها مني صدقة، فوالله ما أمسيت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه. فأتاه من ركنه الأيسر فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم قال له مثل ذلك فقال مغضباً: هاتها فأخذها منه وحذفه بها حذفة لو أصابه لفجّه أو عقره، ثم قال: هل يأتي أحدكم بما يملكه ليتصدق به ويجلس يكفّف الناس، أفضل الناس ما كان عن طهر غنيّ، وليبدأ أحدكم بمن يعول.
قال الكلبي: فكان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله نفقة سنة أمسكه وتصدّق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدّق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة.
{كذلك يُبيِّنُ الله} قال الزجاج: إنما قال: كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها القبيل كأنّه قال: أيّها القبيل يبيّن الله لكم، وجائز أن يكون خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن خطابه مشتمل على خطاب أُمّته كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] وقال المفضل بن سلمة: معنى الآية {كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} في النفقة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة} فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى.
وقال أكثر المفسّرين: معناها: يبيّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلّكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها، وفي إقبال الآخرة وذهابها فترغبوا فيها.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} قال الضحّاك والسدّي وابن عباس في رواية عطية: كان العرب في الجاهلية يعظّمون شأن اليتيم ويشدّدون في أمره حتى كانوا لا يؤاكلونه، ولا يركبون له دابّة، ولا يستخدمون له خادماً، وكانوا يتشاءمون بملامسة أموالهم، فلمّا جاء الاسلام سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال قتادة والربيع وابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعلي بن أبي طلحة: لمّا نزل في أمر اليتامى {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] اعتزلوا أموال اليتامى وعزلوا طعامهم من طعامهم، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء حتى كان يُصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد واشتدّ ذلك عليهم، وسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى}.
{قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وقرأ طاووس: قلْ إصلاح إليهم خير بمعنى الاصلاح لأموالهم من غير أُجرة. ومن غير عوض عنهم خير وأعظم أجراً.
{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} فتشاركوهم في أموالهم وتخالطوها بأموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمكم ودوابّكم، فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأُمورهم وتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم {فَإِخْوَانُكُمْ} أي فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم نصيباً أي فخالطوا إخوانكم أو فأخوانكم تخالطون والإخوان يعين بعضهم بعضاً ونصب أعينهم.
يقال: بعض على وجه الاصلاح والرضا قالت عائشة: إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغرة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
ثم قال: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} لها فاتقوا الله في مال اليتامى، ولا تجعلوا مخالفتكم إيّاهم ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} لضيّق عليكم وآثمكم في ظلمكم إيّاهم قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً.
وأصل العنت الشدّة والمشقّة يقال: عقبه عنوت أي شاقه كؤود، وقال الزجاج: أصل العنت أن يحدث في رِجل البعير كسر بعد جبر حتى لا يمكنه أن يمشي. قال القطامي:
فماهمُ صالحوا من ينتقى عنتي *** ولا همُ كدّروا الخير الذي فعلوا
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} الآية نزلت في عمّار بن أبي مرثد الغنوي.
وقال مقاتل: هو أبو مرثد الغنوي واسمه أيمن، وقال عطاء: هو أبو مرثد عمّار بن الحصين، وكان شجاعاً قوياً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سرًّا، فلمّا قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق، وكانت خليلته في الجاهلية فأتته قالت: يا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عناق إنّ الاسلام قد حال بيننا وبين ذلك، فقالت: فهل لك أن تتزوّج بي فقال: نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ثم أتزوّجك، فقالت: أبيّ تتبرم، ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً ثم خلّوا سبيله، فلمّا قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال: يا رسول الله أتحلّ لي أن أتزوجها؟ فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} أي لا تتزوجوا منهن حتى يؤمنّ.
قال المفضل: أصل النكاح الجماع، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد نكاح، كما قيل: عذرة وأصلها فناء الدار لالقائهم إيّاه بها، ولذبيحة الصبي عقيقة، وأصلها الشعر الذي يولد للصبي، وهو علّة لذبحهم إيّاها عند جلّهم، ونحوها كثير، فحرّم الله نكاح المشركات عقداً ووطئاً، ثم استثنى الحرائر الكتابيات فقال: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
ثم قال: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} بجمالها ومالها، نزلت في خنساء وكانت سوداء كانت لحذيفه بن اليمان فقال: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله عزّوجل ذكرك في كتابه فأعتقها حذيفة وتزوجها.
وقال السدّيّ: نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء فغضب عليها وآذاها، ثم فزع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وما هو يا أبا عبد الله قال: هي تشهد أن لا إله إلاّ الله وإنك رسوله وتصوم شهر رمضان وتحسن الوضوء وتصلّي فقال: هذه مؤمنة، قال عبد الله: فوالّذي بعثك بالحق لأُعتقنّها ولأتزوجنها، ففعل وطعن عليه ناس من المسلمين، قالوا: أتنكح أمه؟ وعرضوا عليه حرّة مشركة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رجاء إسلامهنّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال: {وَلاَ تُنْكِحُواْ} ولا تُزوّجوا {المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} بماله وحسن حاله.
وعن مروان بن محمد قال: سألت مالك بن أنس عن تزويج العبد فقال: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ}.
{أولئك يَدْعُونَ} يعني المشركين إلى النار أي إلى الحال الموجبة للنار {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أوامره ونواهيه {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتّعظون.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال