سورة الأنبياء / الآية رقم 70 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلايَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ

الأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد ذكّررت المشركين وما جاءهم به النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- من هدى ورحمة، فعموا وصموا، وأعرضوا.. وفى ذكر موسى وهرون، وما آتاهما اللّه من كتاب، يكشف عن أمرين:
أولهما: أن النبىّ ليس بدعا فيما جاء به قومه من هدى السماء، بل إن أنبياء كثيرين، ومنهم موسى وهرون، قد جاءوا إلى أقوامهم بآيات اللّه وكلماته.
وثانيهما: أن اليهود، على رغم ما جاءهم من آيات اللّه الحسية إلى جانب آيات الكتاب، لم يستقيموا على دعوة الحق، بل كان لهم مكر بآيات اللّه، وكفر بها.. وفى هذا تعريض باليهود، وبأنهم على ضلال، وأنهم مدعوون إلى أن يصححوا عقيدتهم على ضوء هذا الكتاب الذي بين يدى الناس، والذي سيلقاهم به النبىّ بعد قليل.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} ما يحتاج إلى بيان:
فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟
أهى شيء واحد؟ وأن الفرقان هو الضياء، وهو الهدى، وهو الذكر؟
أم هى الفرقان، والضياء، والذكر؟
اختلف المفسرون في هذا:
وذهب أكثرهم إلى أن {الْفُرْقانَ} هو الآيات الحسّية كالعصا واليد.
اللتين كانتا من آيات موسى.. وأن الضياء هو التوراة وكذلك الذكر.
وذهب بعضهم إلى أن ثلاثتها شيء واحد، هى التوراة.
فهى فرقان يفرق بين الحق والباطل، وهى ضياء يكشف معالم الطريق إلى الحق، والخير، والإحسان، وهى ذكر وموعظة، لمن يطلب الذكر والموعظة، ولمن كان في قلبه إيمان وتقوى.. حيث يذكر فتنفعه الذكرى.
ونحن نميل إلى هذا الرأى، حيث أن الآيات المادية قد ذهبت آثارها، ولم يكن لها أثر إلا فيمن شهدوها، ورأوا آثارها بأعينهم.
ونسبة إتيان الفرقان لموسى وهرون، مع أن موسى هو الذي أوتى هذا الكتاب، لأن هرون كان مشاركا لموسى في الدعوة إلى اللّه بهذا الكتاب كما قال اللّه تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى}.
وفى قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} تعريض باليهود، وبأنهم لا يتقون اللّه، ولهذا فهم لا ينتفعون بهذا الفرقان، والضياء والذكر، الذي في أيديهم، ولا يوقرونه، بل لقد عبثوا به، وغيروا به وبدّلوا فيه.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} صفة للمتقين.. وفى هذا الوصف تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على هذه الصفة، وأنهم ماديّون، لا يتعاملون إلا بالحسيات، ولهذا فهم لا يؤمنون باللّه إلا إيمانا طفيفا، قلقا، ولهذا أيضا فهم لا يعملون للآخرة، ولا يشفقون مما يلقاهم فيها من عذاب اللّه.. إذ كان عذابها غير حاضر بين أيديهم.. إنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا يقيمون حياتهم على التعامل به.
قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم.. والإشارة إليه بهذا، الذي يدل على قرب المشار إليه، إشارة إلى قربه من الأفهام، ويسر تناوله، ولانتفاع به، والاهتداء بهديه.
والضمير في قوله تعالى: {أَفَأَنْتُمْ} قد يكون خطابا للمشركين، وفيه تهديد لهم، وتعريض باليهود.
أي أفأنتم منكرون لهذا الذكر، غير آخذين بهديه، كما هو الشأن عند اليهود مع كتابهم؟
وقد يكون الخطاب لليهود، والمعنى أفأنتم منكرون لهذا الكتاب، كما ينكره هؤلاء المشركون، وقد عرفتم وجهه بما عندكم من كتاب اللّه الذي في أيديكم؟.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ}.
ومناسبة ذكر إبراهيم هنا، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى، وهرون، ومحمد، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى، فإن موقف إبراهيم من قومه، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه، وما يعبدون من أصنام.
وإتيان اللّه سبحانه وتعالى إبراهيم رشده، أي منحه الإدراك السليم، والقلب النقىّ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث.
وقوله تعالى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}.
متعلق بقوله تعالى: {عالِمِينَ} أي وكنا به عالمين، حين قال لأبيه وقومه هذا القول: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}؟ فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وضلال، إذ عكفوا على عبادة هذه التماثيل التي صوروها بأيديهم من خشب وأحجار.
والعكوف على الشيء: مداومة الاتصال به حالا بعد حال.
ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه... وكلما جاءهم بحجة دامغة، التووا عليه، وردوا المنطق بالسفاهة.. يقول لهم: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ}؟.
وكان جديرا بهم- لو عقلوا- أن ينظروا إلى هذه التماثيل، وأن يتعرفوا على حقيقتها، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها.. إنها لا تسمع، ولا تعقل، ولا تملك ضرا ولا نفعا،. فكيف يعطيها إنسان ولاءه، وينفق عمره في سبيلها؟
ولكنهم لا ينظرون في شيء من هذا، بل يريدون عليه، بداهة:
{قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ}!.
هذا هو كل ما عندهم.. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم.. أو قرود تقلد ما ترى، في غير إدراك. أو وعى لما تقلده!.
{قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال.. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به في الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه، ولا يستغنى عنهما في التعرف على الأشياء حوله؟ إن هذا المنطق يقضى بأن يغمض الإنسان عينيه، ثم يضع يده على كتف أي ذى عينين، ليقوده ويتبع خطاه! هكذا في تهكم وسخرية، يلقون هذا المنطق المشرق.. وهكذا يستقبلون الجدّ بهذا الهزل الأحمق.
{قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه: {رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد، وإن كان لا يرى، فإن آثاره تدل عليه، وتشهد على عظمته، وجلاله، وقدرته وعلمه، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله، وشهد شهادة الحق له.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}.
لقد أسرّ إبراهيم ذلك في نفسه، وأراد أن يريهم هذا القول في صورة عملية، بعد أن لم يجد القول آذانا تسمع، أو قلوبا تعى.. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال، وصغار العقول من الرجال.
وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها في شأن الأصنام، بالقسم، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه في هذا الموقف، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا، وبردت حرارة الموقف!.
والكيد للأصنام، هو إعمال الحيلة، وإحكام التدبير فيما يريده بها.
{فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}.
وهكذا كان إبراهيم وتدبيره.. لقد دخل على مرابض الأصنام في غفلة من عابديها، ثم أعمل فيها يده تحطيما، وتكسيرا، حتى جعلها {جُذاذاً}.
أي قطعا صغيرة متناثرة.. إلا كبير هذه الأصنام، فإنه أبقى عليه. لأمر أراده، سيكشف عنه فيما بعد.. وفى هذا يقول اللّه تعالى في سورة الصافات:
{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ.} (الآيات: 91- 93) {قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا.. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وحين رأى القوم آلهتهم حطاما، وقد جاءوا إليها عابدين، أخذتهم الحيرة والدهشة، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم.. فلما زايلتهم تلك الحال، جعلوا يتساءلون: {مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟} يقولونها ولا يسألون أنفسهم:
كيف يفعل بآلهتهم هذا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها؟ لم يلتفتوا إلى شيء من هذا، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة.. {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}! {قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ}.
والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة، ويبغض مقامها فيهم، فلم يجدوا غير إبراهيم، الذي أنكر عليهم عبادتها، وسخر من قبل بهم وبها! {قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}.
وجاءوا بإبراهيم، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام، على أعين الناس، وبمشهد من الجموع الحاشدة، التي هزّها هذا الحدث العظيم! {قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ}؟.
{قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا.. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ؟}.
بهذا الأسلوب الساخر القاتل، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له.
أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام، بل الذي فعله، هو كبيرهم هذا، الذي ترونه قائما على هذه الأشلاء! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة، وليس هذا ببعيد، فما أكثر ما يقع الخلاف بين المتبوع والتابعين، وما أكثر ما يملك المتبوع من القوة والسلطان ما يضرب به أتباعه الضربة القاضية.. وليس من المستبعد إذن أن يكون قد وقع خلاف بين هذا الصنم الكبير، وبين أتباعه، فأخذهم ببأسه، ونكّل بهم هذا التنكيل الذي ترون! فإن كنتم لا تصدقون.. {فَسْئَلُوهُمْ.. إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ} أي إن كان في قدرتهم أن ينطقوا، وأن يكشفوا عن الجاني الذي جنى عليهم، وحطم رءوسهم، ومزق أشلاءهم! ولم ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبير.. بل دعاهم إلى أن يسألوا المجنى عليهم، فهم أعرف بمن جنى عليهم، إن كان بهم قدرة على الكلام.
أما الجاني فقد ينكر جنايته، ولا يكشف عن فعلته.. وهذا هو السرّ في أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني.
هذا، وقد أكثر المفسرون في الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام، ودفع التهمة عنه.. ودخلوا في جدل طويل حول هذا الكذب، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه.. لأنه من قبيل التقيّة، التي يجوز المؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان.
والأمر لا يحتاج إلى شيء من هذا، فما قال إبراهيم هذا القول، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه، أو يأخذون به.. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه.. وإنما قال إبراهيم ما قال، استهزاء بالقوم، وسخرية منهم، وكشفا لهم عن حقيقة هذه الأحجار.. ولهذا ردّوا عليه قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}! أي إنك تقول هذا القول ساخرا مستهزئا، لأنك تعلم أنهم لا ينطقون.. وإذن فلا كذب من إبراهيم، وإنما هو الحق الصراح، في أسلوب مجازى!! {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}.
أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع في أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة في كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت في مهدها، وخبت في مكانها! {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
لقد صحّ وضع القوم في الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء في وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال: {لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟} {قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟
هكذا كان ردّ إبراهيم على القوم، إنه ينكر عليهم هذا الضلال الذي هم فيه، حتى إنهم ليعترفون بألسنتهم على هؤلاء الآلهة بأنهم في عجز ظاهر، وأنهم لا ينطقون.. {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
هكذا يقولونها في بلاهة وغباء.. فيجبههم إبراهيم بهذا الردّ المفحم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟}.
أفيصحّ بعاقل لعلم هذا العلم من أمر تلك الأصنام، ويعرّيها من كل قوة، ثم يعود إليها خاضعا ذليلا، يتخاضع بين يديها، ويعفّر وجهه بالسجود تحت أقدامها؟ إن ذلك لا يكون من إنسان فيه مشكة من عقل.. ولهذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟} رجع إلى نفسه، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها..!
وكلمة {أُفٍّ} هنا، معناها: بعدا لكم ولما تعبدون من دون اللّه. فالتأفف من الشيء، يشير إلى التأذى منه، والضيق به.. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه، حين يشمّ ريحا خبيثة.. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس، حتى تستسيغوا هذا المنكر، وتسكنوا إليه؟.
{قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}.
هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه! لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: {حَرِّقُوهُ}! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه.
اهجموا عليه.. حرقوه.
وفى قولهم: {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم في هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده في وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحلّ به من بلاء!! وفى قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم.
أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر!! {قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ}.
وهكذا أمضى القوم حكمهم في إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها.. ولكنّ رحمة اللّه تداركته، وعنايته أحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه.
وفى قوله تعالى: {عَلى إِبْراهِيمَ}.
بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير- في هذا تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه! وانظر إلى قدرة اللّه.. النّار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم في لهيبها المتضرّم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه! فكان قوله تعالى: {وَسَلاماً} هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشىّ بعد نهار قائظ.
{وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء.
فنجاه اللّه منهم، وألبسهم ثوب الخسران في الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعدّ اللّه لهم في الآخرة عذابا عظيما.
{وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلّصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
وقد نجّى اللّه معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما يقول سبحانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [26: العنكبوت].
{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى بعد أن نجّى إبراهيم من قومه، أكرمه اللّه تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثّره، فكان أمة.. وفى قوله تعالى: {نافِلَةً} إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.
وفى قوله تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ} إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد اللّه الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين.
{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ}.
أي ولم يكونوا صالحين في أنفسهم وحسب، بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح.
وفى قوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} إشارة إلى أنهم كانوا رسلا، يوحى إليهم من عند اللّه. وبهذا الوحى يبشرون الناس وينذرونهم، ويدعونهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر، وعمل الصالحات.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ} أي أن ما أوحاه اللّه إليهم هو فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا لَنا عابِدِينَ} إشارة إلى أن هؤلاء الرسل لم تلههم دعوة الناس إلى الهدى، عن ذكر، اللّه ولم يصرفهم ذلك عن أن يأخذوا حظهم كاملا من عبادة اللّه، وذكره في كل لمحة وخاطرة.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال