سورة الأنبياء / الآية رقم 76 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القَرْيَةِ الَتِي كَانَت تَّعْمَلُ الخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ

الأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياءالأنبياء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
لما كان لوط- عليه السلام- هو الذي استجاب لإبراهيم من قومه، واتّبعه وآمن به، فقد كان من فضل اللّه سبحانه وتعالى عليه، أن اصطفاه للنبوة، وآتاه حكما وعلما، إذ كان هو النبتة الصالحة من بين هذا النبت الخبيث كله.
ثم نجاه اللّه سبحانه وتعالى من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته، التي كانت تعمل الخبائث، وتأتى المنكر جهارا.. وهكذا ينصر اللّه المتقين من عباده، ويفيض عليهم من كرمه وإحسانه، ويأخذ الظالمين المفسدين بالعذاب البئيس، جزاء بما كانوا يعملون.
قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}.
{وَنُوحاً} معطوف على {لُوطاً} وهو عطف حدث على حدث، وقصة على قصة.. والتقدير ونذكر نوحا إذ نادى ربه من قبل هذا الزمن الذي كان فيه هؤلاء الأنبياء.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وهرون.. {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي أننا استجبنا دعاءه الذي دعانا به، على قومه.
ودعاء نوح على قومه، هو ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [10: القمر] وفى قوله سبحانه: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [26: نوح].
وقد استجاب اللّه سبحانه وتعالى لنوح، فأهلك قومه جميعا بالغرق، ونجاه هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
و{الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: هو الطوفان.
وفى قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} جاء حرف الجرّ {من} بدلا من على الذي يقتضيه الفعل، فإن نصر يتعدّى بعلى لا بمن تقول نصرت فلانا على فلان.. وذلك لأن الفعل هنا تضمّن، معنى الانتقام والانتصاف لنوح من قومه، إذ كانوا هم الذين اعتدوا عليه، وبادءوه بالسفاهة، وتوعدوه بالسوء، وتهددوه بالرجم- فكان نصر اللّه له انتصافا لنوح منهم، وانتقاما له من عدوانهم عليه.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي أخذنا له بحقه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، واعتدوا على رسولنا، وانتصفنا له منهم.
ولو جاء النظم القرآنى على ما يقضى به مطلوب الفعل نصر فكان النظم هكذا {نَصَرْناهُ} على القوم الذين كذبوا بآياتنا، لما أعطى الفعل هذا المعنى الذي أفاد النصر، والانتقام معا، والذي دلّ على أن القوم كانوا معتدين، ظالمين.. ولوقف بمعنى النصر عند حدود هذا المعنى المجرد، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بين متخاصمين، لا يعرف منهما المحقّ من المبطل منهما.. وكثيرا ما ينتصر المبطل، ويهزم المحق، في مرحلة من مراحل الصراع الدائر بين الحقّ والباطل! فسبحان من هذا كلامه، الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
قوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً}.
نفشت فيه غنم القوم: أي عاثت فيه فسادا، وانطلقت ترعى بغير ممسك يمسك بها على مكان معين من الحرث.. وأصل النفش: الانتشار، ومنه قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.
والحرث: هو الزرع، الذي هيئت له الأرض وحرثت، وبذر فيها الحب.. وليس هو الزرع الذي ينبت من غير جهد إنسانى.
وداود وسليمان، هما النبيان الكريمان، من ذرية إبراهيم، ومن أبناء يعقوب.. وداود هو الأب، وسليمان هو الابن.
وهذه الآية الكريمة تمسك بحدث من الأحداث التي وقعت لداود وسليمان.. وكان داود في مجلس الحكم والفصل بين الناس، فيما يقع بينهم من خصومات.
وقد ذكر القرآن الكريم لداود قصة أخرى من قصص الفصل في الخصومات وهى قصة الأخوين اللذين كان لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون نعجة.
وقد جاء في أعقاب هذه القصة قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [26: ص].
وفى هذه القصة، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل في هذه القضية، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها.. وهذا لا يعيب داود عليه السلام، ولا ينقص من قدره، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده.. فإذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.. هذا هو حكم المجتهد، الذي تجرد من هواه.. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى.
ففى قوله تعالى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق في هذه القضية، ووقع على الرأى الصحيح فيها.. وذلك بفهم آتاه اللّه سبحانه وتعالى إياه.. كما يقول سبحانه: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} وقوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} هو تعقيب على قوله تعالى {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من اللّه وأن داود قد حرم هذا الفهم، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم.. إذ أن كلّا من داود وسليمان، قد لبس من فضل اللّه ومن إحسانه حللا، وأن كلّا منهما قد أوتى من اللّه حكما وعلما.. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر، فالعلم درجات لا حدود لها واللّه سبحانه وتعالى يقول: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [76: يوسف].
والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه.
ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا في تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة، وهو أن الفصل في الخصومات بين الناس أمر خطير، يحتاج إلى علم واسع، وبصيرة نافذة، ونفس تجردت من كل هوى، وإلا كان الخطأ والزلل، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس، وأغرى بعضهم ببعض.. ومن جهة أخرى فإنه مهما بلغ الإنسان من علم، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة، ومن قدرة على التجرد من الهوى، ومهما تحرّى العدل واجتهد في تحقيقه، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق، ويغيب عنه وجه الصواب.
ومن هنا كان على من يقوم للفصل في الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: {إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..}.
هذا- واللّه أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى في هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- في أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه.
أما القصة، فهى- كما جاءت في روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت في أرجائه.
وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث!.. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!
وهكذا رأى داود وجه الحقّ، فأخذ به، ولم يمسك حكمه الذي استبان له أولا.
قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ}.
{صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}: اللبوس هنا ما يلبس للحرب، من دروع وغيرها.
{لِتُحْصِنَكُمْ} أي تكون لكم حصنا ووقاية في القتال.
{مِنْ بَأْسِكُمْ}: أي من عدوان بعضكم على بعض.. والبأس: الشدّة، والقوّة.
وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً}، وهى- من جهة أخرى- دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} والذي قد يقع منه في الفهم. انتقاص لقدر داود عليه السلام.
فداود عليه السلام. نبىّ كريم عند اللّه، محفوف بفضله وإحسانه.
ومن فضل اللّه عليه أنه سخّر معه الجبال والطير، تسبّح جميعها بحمد اللّه، وتشكر له.. فإذا سبّح بحمد اللّه، وجد الوجود كله من حوله، من جماد وحيوان، يسبّح معه، ويأتمّ به في هذا التسبيح، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم، يملأ أسماع الكون، فتفيض به مشاعر داود، ويرتوى منه قلبه، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد اللّه، مترنّما بتقديسه وحمده.
وفى قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} إشارة إلى أن هذه الكائنات، من جبال وطير، مسخرات من اللّه، لتسبيحه وتمجيده، كما سخّر داود من اللّه لتسبيحه وتمجيده، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه، وائتلفت به.. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها، حين أزيل الحجاب بينه وبينها، الأمر الذي لا يشاركه فيه كثير من العابدين المسبّحين.. وإلّا فإن الوجود كله في أرضه وسمائه، وفيما تحتوى أرضه سماؤه، يسبّح بحمد اللّه، ويصلّى له، ويمجّده، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء].. وهذا هو السرّ في قوله تعالى: {مَعَ داوُدَ} بدلا من {لداود}.
فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد، وليست مسخرة له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [10: سبأ].
وفى قوله تعالى: {وَكُنَّا فاعِلِينَ} إشارة إلى أن هذا الفضل من اللّه سبحانه على داود، كان بتقديره، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده.. وقد كان داود أحسن خلق اللّه صوتا.. وقد جعل {الزّبور} ترانيم، ذات نغم شجى، يسبح فيه بحمد اللّه.. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان.
قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ}.
أي أن من فضل اللّه تعالى على داود، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد، كما يقول سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [10، 11: سبأ].
وفى قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} إشارة إلى أن هذه الدروع، هى مما يدفع به اللّه بأس الناس، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض.. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر للّه رب العالمين.
وهنا سؤال:
كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم اللّه، تستوجب الحمد والشكر، وهى أداة من أدوات الحرب، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة، والسلامة؟
والجواب على هذا، من وجوه:
أولا: أن هذه الدروع فيها حصانة، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق في القتال الذي يلتحم بين الناس.. فهى- كما ترى- عامل مخفف من ويلات الحرب، ودافع لكثير من شرورها.. فلو قدّر أن يلتقى في ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع، لكان حصيد الحرب، وحصيلتها من الدماء والأرواح في الميدان الأول، أقلّ بكثير جدا مما يقع في الميدان الآخر.
إذ كان الأولون يقاتلون وهم في هذه الحصون من الدّروع، على حين يقاتل الآخرون وهم في معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة!: فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا، أقويائهم وضعفائهم على السواء.
ولا يدفع هذا، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض، وتدفع بهم إلى القتال، إذ يجدون في أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب، ويبعد من احتمال الموت فيها.
فهذا القول، وإن بدا في ظاهره شيئا مقبولا، إلا أنه في حقيقته قائم على غير هذا الوجه.
ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم، وأن الضعيف، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل فضل صاحب القوة الجسدية عليه، وبهذا يتعادل الأقوياء والضعفاء، ويكون من ذلك أن يكبح جماح أصحاب القوى الجسدية، التي كانت أظهر قوة عاملة، في مجال البغي والعدوان وفى تسلط الأقوياء على الضعفاء.
وننظر في المجتمع الإنسانى اليوم، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك.. قد كانت في أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم، كانت مصدر خطر عظيم في يد هذه الأمة، تكاد تهدد به العالم، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا.. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تشير إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} فالقصاص إزهاق نفس، ولكن فيه حياة لنفوس، إذ أن القصاص يقتل في نفوس، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل- يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله.. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه.
وليس هذا شأن الدروع وحدها، بل هو شأن كل وسائل القتال، والدفاع.
فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك، هى في الوقت نفسه عامل ردع وزجر.
بل إنها دعوة إلى السلام، وإخماد نار الحروب، إذا توازنت القوى بين الأمم.
وقد كان من تدبير اللّه تعالى، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها في يد نبىّ كريم، لا يكون منه بغى أو تسلط.. ثم أصبحت ملكا مشاعا في الناس جميعا.
وثانيا: أن القرآن الكريم في حديثه عن الدروع، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى، الذي من طبيعته البغي والعدوان، والذي من شأن القوىّ فيه أن يبغى على الضعيف، والذي إن كفّ فيه بعض الناس أيديهم عن الناس، لم تكفّ الناس أيديهم عنهم.. وعلى هذا فإن حديث القرآن عن الدروع، هو حديث عن واقع الحياة، وعما يدور في حياة الناس.. فامتلاك الناس لأدوات الحرب لا يغريهم بالحرب، ولا يفتح لهم بابا لم يدخلوه، فهم في حرب دائمة.. وهذه الدروع وغيرها من أدوات الدفاع حماية للناس من الطعنات والضربات.
وثالثا: هذه الدروع أو لبوس الحرب، لها دور سلبىّ لا إيجابى، بمعنى أنها- في ذاتها- تدفع الشر، وتردّه، ولا ينطلق منها شر إلى أحد.
كما هو الحال في السيوف، والحراب، والمدافع، وغيرها.. إنها أداة دفاع، وليست أداة هجوم.. إنها تتلقى الضربات، ولا تضرب، ولا يضرب بها.
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}.
أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة.. وقد بيّنا في الآية السابقة السرّ في تعدية الفعل {سَخَّرْنا} بأداة المعية {مع} وعدم تعديته بلام الملك اللام وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد اللّه معه.. فهى مصاحبة له، في التسبيح.. وليست مسخّرة لخدمته.
أما هنا، فإن الريح مسخرة لسليمان، خاضعة لأمره، قد جعلها اللّه سبحانه وتعالى، مطية ذلولا له، تجرى بأمره رخاء حيث شاء.
وفى قوله تعالى: {عاصِفَةً} إشارة إلى قوة انطلاق هذه الريح، وأنها في قوة العاصفة في اندفاعها، ولكنها في رقّة النسيم ولينه في سيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} [36: ص] فهى عاصفة ورخاء معا!! هذا كلام اللّه!!- وفى قوله تعالى: {إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} إشارة إلى مسبح هذه الريح ومسراها، وأنها لا تتجاوز حدود الأرض المقدسة، ولا تعمل خارج سمائها.
وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} [12: سبأ] فقد تضاربت أقوال المفسّرين في هذه الريح، وفى امتداد ملك سليمان بها، وأنها كانت تقطع به ملكه في شهر ذاهبة، وشهر راجعة.. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا.
والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} وهو أنها في {غُدُوُّها} أي مسراها في غدوة النهار، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه، أو على دابته في شهر.. كذلك {رَواحُها} وهو رجوعها آخر النهار.. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب.. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين، أو ثلاثا، أو أكثر، وكذلك الرّوحة.
قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ}.
أي وسخرنا لسليمان {مِنَ الشَّياطِينِ} أي من بعض الشياطين لا كلّهم، من يغوصون له في البحار ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرها.. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ} أي أقل من هذا العمل، كأن يسخّروا في البناء، وحمل الأحجار، وغير هذا.. كما يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [37: ص].
وفى قوله تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة اللّه، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم، والممسكة بهم، على خدمة سليمان، وطاعة أمره.. ولو لا هذا لتفلّتوا منه، وخرجوا عن طاعته، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين، وإنما اللّه سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال