سورة البقرة / الآية رقم 258 / تفسير تفسير الألوسي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون، وقيل: استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عز وجل، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته، ولأن فيما بعد تعدادًا وتفصيلًا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضًا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنّ ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجب أي ألم تنظر، أو ألم ينته علمك إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناءًا على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل، وأين مقام الخليل من الحبيب، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، كما قاله مجاهد وغيره وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها، واختلف في وقتها فقيل: عند كسر الأصنام وقبل إلقائه في النار وهو المروي عن مقاتل وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردًا وسلامًا وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية.
{ءانٍ آتاه الله الملك} أي لأن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في أن، وإن وليس هناك مفعولًا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل، والتعليل فيه على وجهين: إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما، وإما أنه من باب العكس في الكلام عنى أنه وضع المحاجة موضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول: العلة تحقيقية، وعلى الثاني: تهكمية كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه وجوز أن يكون {آتاه} إلخ واقعًا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه كجئت خفوق النجم، وصياح الديك ولا يجوز إن خفق وإن صاح.
وأجيب باعتبار الوقت ممتدًا، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن ما المصدرية تنوب عن الزمان وليست صدر صريح، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في «شرح الكتاب»، والحق أن التعليل لما أمكن وهو متفق عليه خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور في غاية من التعسف، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والاتباع، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانًا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير {آتاه} لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وقال سبحانه: {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة على الخلق، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرًا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان، والقول بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى.
{إِذْ قَالَ} ظرف لحاج، وجوّز أن يكون بدلًا من {آتاه} بناءًا على القول الذي علمت، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام {رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ} فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له وقد كان أوتي قبل الملك: مَن ربك الذي تدتو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في {آتاه} وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالًا، واعترض أبو البقاء أيضًا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلًا لكان غلطًا إلا أن يجعل {إذ} عنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك، وقال الحلبي: وهذا بناءًا منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل غلط بل بدل كل من كل، وفيه ما تقدم من الكلام، وقيل: يجوز أن يكون بدلًا من {آتاه} بدل اشتمال، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى: {قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ} إلا أن يجعل استئنافًا جواب سؤال، وجعله نزلة المرئي يأبى ذلك، ومن هنا قيل: إن الظرف متعلق بقوله سبحانه: {قَالَ أَنَا} الخ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل: كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه: {حَاجَّ}، و{رَبّى} بفتح الياء، وقرئ بحذفها، وأراد عليه السلام بيحيي ويميت يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتي برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال، ولما كان هذا عزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس.
{قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها، وهي مسألة متنازع فيها، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية، وثانيهما أن الإنتقال إنما هو في المثال كأنه قال: ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالًا فلما اعترض جاء ثال أجلى دفعًا للمشاغبة، قال الإمام: والإشكال عليهما من وجوه: الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأوّل بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبًا مضيقًا فكيف يليق المعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر؟ والثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز.
والثالث: انه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المتنقل إليه أوضح وأقرب وههنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركًا للسموات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي؟ والرابع: أن المارد لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقال له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام في الاطلاع، وأيضًا فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول، وحينئذ يصير ذلك ضائعًا كما صار الأول كذلك، وأيضًا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علمًا فضلًا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء. فالحق أن هذا ليس دليلًا آخر ولا مثال بل هو من تتمة الدليل الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والاحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الإحياء والاماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلًا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى.
ولا يخفي ما فيه. أما أولًا: فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدًا من الناس الها لم يمتنع الإعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعًا للشغب وتحصيلًا لما هو المقصود من غير كثير تعب، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبًا مضيقًا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقًا لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاءًا بظهور الفساد جدًا، وأما ثانيًا: فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه، وأما ثالثًا: فلأن ما ذكره رابعًا يرد أيضًا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب فما هو الجواب هنا هو الجواب وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الاتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام وهو ضعيف بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لابد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فأت بها من المغرب وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلابد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق، والمدعي أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعًا: فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضًا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الاحياء والاماتة منه تعالى شأنه ولا أظنك في مرية من هذا ولعل الأظهر ما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزًا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيًا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصائبة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضًا من يفوض إليه إما قولًا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولود أحدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود ألبتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداءًا ودوامًا وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على أنه لوّح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الإحياء والإماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجًا عن الممكنات واحدًا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء كما عند بعض القاصرين من المتكلمين مفوضًا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلًا عن الأغبياء، وقال: أنا أحيي وأميت وأبدي فعليه مشيرًا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الإحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضًا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيًا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياءًا إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب منبهًا على المناقضة المذكورة مصرحًا بأنه غالط في إسناد الفعل دوامًا إلى غير ما أسند إليه ابتداءًا مظهرًا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعًا أو كرهًا بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض، وعليه يكون المجموع دليلًا واحدًا وليس من الانتفال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل: ربي الذي يوجد الممكنات وأتى بالإحياء والإماتة مثالًا، فلما اعترض جاء بآخر أجلى دفعًا للمشاغبة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق كما لا يخفى هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر.
وإنما أتى في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتى بها في الجملة الأولى بأن يقال: إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والأشكال {إن الله يأتي بالشمس} الخ.
والباء للتعدية ومن في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل، وقيل: متعلقة حذوف وقع حالا أي مسخرة أو منقادة {فَبُهِتَ الذى كَفَرَ} أي غلب وصار مبهوتًا منقطعًا عن الكلام متحيرًا لاستيلاء الحجة عليه، وقرئ {بهت} بفتح الباء وضم الهاء وبهت بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم وبهت بفتحهما فيجوز أن يكون لازمًا أيضًا، و{الذي} فاعله وأن يكون متعديًا وفاعله ضمير إبراهيم، و{الذي} مفعوله أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم، قال إلكيا: وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرًا {والله يَهْدِى القوم الظالمين} أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه، وقيل: لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال