سورة آل عمران / الآية رقم 25 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

آل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمران




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


إذا أخذنا بالروايات التي تقول: إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن، ومناظرته للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه السلام، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة. لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم عام الوفود حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها- وفيما وراءها كذلك- جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي صلى الله عليه وسلم تخطب وده، أو تعرض التعاهد معه، أو تستجلي حقيقة أمره.
ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات، وطريقة علاجها له، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة.. ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت.. نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة؛ وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة.
ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ.
على أن هذه النصوص- كما قلنا في التمهيد للسورة- تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم.. هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام- وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها- والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً.
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور. ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع- وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام.
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات. وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب! وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله.
وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه: فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك!
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد. والله عزيز ذو انتقام}..
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، ما يذكر إلا أولو الألباب}.
{شهد الله أنه لا إله إلا هو- والملائكة وأولو العلم- قائماً بالقسط. لا إله إلا هو العزيز الحكيم}..
{إن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم. بغياً بينهم. ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب}..
كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود. وذلك في قوله تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}.. فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود!
وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين..} إلخ. فالغالب أن المقصود به هم اليهود. وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً. فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود، فنهوا عن ذلك كله وحذروا هذا التحذير العنيف. سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين. فكلهم سماهم {الكافرين}!
وظاهر أن قوله تعالى: {قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين...} إلخ. تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود. وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد: لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى في ذلك: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم..} إلى قوله: {فئة تقاتل في سبيل الله- أي ببدر- وأخرى كافرة}».
أخرجه أبو داود.
كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم في آية: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله- ومن اتبعن- وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد}.. أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة، إلا أنه تلقين عام شامل، ليواجه به النبي صلى الله عليه وسلم كل المخالفين له في العقيدة.
وظاهر من قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} أن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذلك الحين لم يكن مأموراً بقتال أهل الكتاب، ولا بأخذ الجزية منهم، مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر.
وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة، هي مناسبة وفد نجران. وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها، وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة.. وبخاصة اليهود في المدينة..
ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة، وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية. هذه الآثار الملازمة للإيمان بها. فهي عقيدة التوحيد لله. ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله. ولا دين سواه.. الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع. الاستسلام لأمره، والطاعة لشرعه، والاتباع لرسوله ومنهجه. فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم، ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله. فالله لا يرضى إلا الإسلام. والإسلام- كما قلنا- الاستسلام والطاعة والاتباع.. ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم {ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}.. ويعتبر الإعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان. الإيمان بالله على الإطلاق!
والمقطع الثاني في هذا الدرس يدور كله حول هذه الحقيقة الكبيرة..
فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة:
{ألم}..
هذه الأحرف المقطعة: ألفْ. لام. ميم. نختار في تفسيرها- على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة: إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله... إلخ..
وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور- على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه الإشارة في شتى السور. ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين.
.. إلخ}..
فأما هنا في سورة (آل عمران) فتبدو مناسبة أخرى لهذه الإشارة.. هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو. وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب- المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة.
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام. إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله- وما يعلم تأويله إلا الله- والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا- وما يذكر إلا أولو الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد}..
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين. لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل!
هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمداً. والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها. والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف! والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه، وتضرعهم له، ومعرفتهم بصفاته تعالى:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}..
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين: يهوداً أو نصارى. على اختلاف مللهم ونحلهم جميعاً. كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض. فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديداً كاملاً دقيقاً.
{الله لا إله إلا هو}..
فلا شريك له في الألوهية.. {الحي}.
الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته.. {القيوم}.. الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود. فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه.
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. ومفرق الطريق في الحياة والسلوك.
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. بين تفرد الله- سبحانه- بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية: سواء في ذلك تصورات المشركين- وقتها في الجزيرة- وتصورات اليهود والنصارى- وبخاصة تصورات النصارى.
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون: عزير ابن الله. كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم الكتاب المقدس يتضمن شيئاً كهذا. كما جاء في سفر التكوين: الإصحاح السادس.
فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم: إن الله ثالث ثلاثة. وقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم. واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله. واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله..
وقد جاء في كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد، شيء عن هذه التصورات..
ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.. وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها؛ وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة.. وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقانيم.. له كل الصفات الإلهية والبشرية ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة.
ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.. لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء.
كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو كانون تايلور عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية: وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة.
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها: عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام. وكان أقل عقائدهم انحرافاً عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة- ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد.. كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو. الحي الواحد الذي لا حي غيره. القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة. فلا يجد في ضميره أثراً لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته!
إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله. ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله. لا في شريعة أو نظام، ولا في أدب أو خلق. ولا في اقتصاد أو اجتماع. ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة، وما بعد الحياة.. أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار، ولا حدود لحرام أو حلال، ولا لخطإ أو صواب: في شرع أو نظام، في أدب أو خلق، وفي معاملة أو سلوك.. فكلها.. كلها.
إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي، وإليها التوجه، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام.
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}..
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية- لا لطبيعة الاعتقاد وحده- فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقاً من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم. التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة. من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة. والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه.
وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات. أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال:
{نزل عليك الكتاب بالحق- مصدقاً لما بين يديه- وأنزل التوراة والإنجيل من قبل- هدى للناس- وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد. والله عزيز ذو انتقام}.
وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به من عند الله.
فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل. فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي نزل هذا القرآن- عليك- كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل. وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية. إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده. وهناك عبيد يتلقون. وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين.
وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله. فهذا الكتاب نزله- عليك- {بالحق}.. {مصدقاً لما بين يديه}.. من التوراة والإنجيل.. وكلها تستهدف غاية واحدة: {هدى للناس}.. وهذا الكتاب الجديد فرقانبين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية (التي رأينا نموذجاً منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت. و. آرنولد في كتاب الدعوة إلى الإسلام).
وهي تقرر- ضمناً- أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة. فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها. وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة. ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر. وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله، يضم جناحيه على الحق الذي تضم جوانحها عليه. وقد نزله من يملك تنزيل الكتب.
فهو منزل من الجهة التي لها الحق في وضع منهاج الحياة للبشر، وبناء تصوراتهم الاعتقادية، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله.
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه.. والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه.. وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد- وهو فرقان واضح مبين- هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد..
وفي صدد التهديد بالعذاب والانتقام يؤكد لهم علم الله الذي لا يند عنه شيء، فلا خفاء عليه ولا إفلات منه:
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}..
وتوكيد العلم المطلق الذي لا يخفى عليه شيء، وإثبات هذه الصفة لله- سبحانه- في هذا المقام.. هذا التوكيد يتفق أولاً مع وحدانية الألوهية والقوامة التي افتتح بها السياق. كما يتفق مع التهديد الرعيب في الآية السابقة.. فلن يفلت {شيء} من علم الله {في الأرض ولا في السماء} بهذا الشمول والإطلاق. ولن يمكن إذن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه. ولن يمكن كذلك التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف العميق.
وفي ظلال العلم اللطيف الشامل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يلمس المشاعر الإنسانية لمسة رفيقة عميقة، تتعلق بالنشأة الإنسانية. النشأة المجهولة في ظلام الغيب وظلام الأرحام، حيث لا علم للإنسان ولا قدرة ولا إدراك:
{هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء. لا إله إلا هو العزيز الحكيم}....
هكذا {يصوركم}.. يمنحكم الصورة التي يشاء؛ ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة. وهو وحده الذي يتولى التصوير، بمحض إرادته، ومطلق مشيئته: {كيف يشاء}.. {لا إله إلا هو}.. {العزيز}.. ذو القدرة والقوة على الصنع والتصوير {الحكيم}.. الذي يدبر الأمر بحكمته فيما يصور ويخلق بلا معقب ولا شريك.
وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده. فالله هو الذي صور عيسى.. {كيف يشاء} لا أن عيسى هو الرب. أو هو الله. أو هو الابن. أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي. إلى آخر ما انتهت إليه التصوارت المنحرفة الغامضة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة الواضحة اليسيرة التصور القريبة الإدراك!
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل، ليصوغوا حولها الشبهات؛ ويصور سمات المؤمنين حقاً وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال:
{هو الذي أنزل عليك الكتاب.
منه آيات محكمات هن أم الكتاب. وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به. كل من عند ربنا- وما يذكر إلا أولو الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله لا يخلف الميعاد}..
وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ألست تقول عن المسيح: إنه كلمة الله وروحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى- عليه السلام- وأنه ليس من البشر، إنما هو روح الله- على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور.. فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، وترك النصوص التجريدية القاطعة.
على أن نص الآية أعم من هذه المناسبة؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم متضمناً حقائق التصور الإيماني، ومنهاج الحياة الإسلامية؛ ومتضمناً كذلك أموراً غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها.
فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة، مدركة المقاصد- وهي أصل هذا الكتاب- وأما السمعيات والغيبيات- ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده- فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر الحق ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود.
وهنا يختلف الناس- حسب استقامة فطرتهم أو زيغها- في استقبال هذه الآيات وتلك. فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة، ويجرون وراء المتشابه الذي يعوّل في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره، والتسليم بأنه هو الذي يعلم الحق كله، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال. كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالاً لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله.. {وما يعلم تأويله إلا الله}..
وأما الراسخون في العلم، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له.
أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة:
{آمنا به، كل من عند ربنا}..
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة، أنه من عند ربهم. فهو إذن حق وصدق. وما يقرره الله صادق بذاته. وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه.
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله. يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة.. ثم لا يجدون من عقولهم شكاً فيه كذلك؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه..
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم.. فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء، وأن ما لم يدركوه لا وجود له؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها. ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم! صاغتها عقولهم المحدودة! أما العلماء حقاً فهم أكثر تواضعاً، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها. كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه.
{وما يذكر إلا أولو الألباب}..
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا.. فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب.
عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب: أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله.. ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له:
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه. إن الله لا يخلف الميعاد}..
هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم؛ وهو الحال اللائق بالإيمان؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده؛ والثقة بكلمته وعهده؛ والمعرفة برحمته وفضله؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار..
والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال. قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش. قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة. قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة. قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده. قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة.. ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد.. ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة.
وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة. وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال!
ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع:
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}..
وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء:
{وهب لنا من لدنك رحمة. إنك أنت الوهّاب}..
وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته.. وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله.. فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة.
عن عائشة- رضي الله- عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء. فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن. إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».
ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة. وأن يتشبث بحماه في إصرار، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله، لاستبقاء الكنز الذي وهبه، والعطاء الذي أولاه!
بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين:
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا: فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب. قل للذين كفروا. ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك.. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون.. وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل. ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم!
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر- وهم كفار- ليقول لهم: إن سنة الله لا تتخلف.
وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش. فالعلة هي الكفر. وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح!
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً، وأولئك هم وقود النار}..
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه: {وقود النار}.. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص الإنسان ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر وقود النار.
لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شياً في الدنيا:
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم، والله شديد العقاب}..
وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلاً: وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته، يجريها حيث يشاء. فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله.
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء.. ومن ثم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد:
{قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
وقوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأي العين} يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير يرون راجعاً إلى الكفار، وضمير هم راجعاً إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين {مثليهم}.. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم.
وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين {مثليهم} هم- في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم- ومع هذا ثبتوا وانتصروا.
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف- كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة.
ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.
{إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}..
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!
وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى.
إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع- مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ- جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دوراً أساسياً في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى.
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة.
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار. وأزواج مطهرة. وفوقها رضوان من الله.. وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان:
{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث.
ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب. قل: أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار- خالدين فيها- وأزواج مطهرة، ورضوان من الله. والله بصير بالعباد. الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}..
{زين للناس}. وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه {الشهوات}، وهو جزء من تكوين




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال