سورة السجدة / الآية رقم 21 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ

السجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالسجدةالأحزاب




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر، ويركزها في القلوب: عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثرات خاصة؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، ومنحنياتها ودروبها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكن فيها من مشاعر، وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمل والتدبر؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها!
كذلك ترسم السورة صوراً للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها؛ وتعرض صوراً للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع.. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة: يبدأ بالأحرف المقطعة {ألف. لام. ميم} منبهاً بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به: {من رب العالمين}.. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون: افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه {لعلهم يهتدون}..
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة: قضية الوحي وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود: في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر.. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك.
والناس بعد ذلك قليلاً ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية: قضية الألوهية وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير، وصفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب: {وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟} ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة: قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة: {إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئاً ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم قبل فوات الأوان لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذ الأرض: إذا ذكروا بآيات ربهم: {خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}... وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}.. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضاً قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى عليه السلام ووحدة رسالته ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين.. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم: {متى هذا الفتح؟} وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرض عنهم ويدعوهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
{ألم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون: افتراه؟ بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}..
{ألف. لام. ميم}.. هذه الأحر ف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار.
كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصراً مستكناً، يجعل لها سلطاناً وإيقاعاً في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفاً أن هذا قرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور.. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!
ألف. لام. ميم {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}.. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين.. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجهاً لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه، أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب، وصفا الحس، وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحاً كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطاباً مباشراً. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
{أم يقولون: افتراه؟}..
ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلاً: {أم يقولون: افتراه؟}.
هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال؛ فتاريخ محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلاً، ولا تدع مجالاً للريب والتشكك:
{بل هو الحق من ربك}..
الحق.. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.
الحق.. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة؛ وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.
الحق.. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.
الحق.. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.
الحق.. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملاً؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب.
الحق.. الذي لا يظلم أحداً في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.
{بل هو الحق من ربك}.. فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك. وهو رب العالمين كما قال في الآية السابقة؛ إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء. وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين. رداً على الاتهام الأثيم. وتقريراً للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ.
{لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك، لعلهم يهتدون}..
والعرب الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم أحد قبله؛ ولا يعرف التاريخ رسولاً بين إسماعيل عليه السلام جد العرب الأول وبين محمد صلى الله عليه وسلم وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به. {لعلهم يهتدون} فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.
هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله صلى الله عليه وسلم كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى.
فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم: الله ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين:
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. أفلا تتذكرون؟ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. قليلاً ما تشكرون}..
ذلك هو الله، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها. هذه هي في صفحة الكون المنظور. وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود. وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين.
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام}..
والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير.. هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف، الذي يقف الإنسان أمامه مبهوراً مدهوشاً متحيراً في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم.. هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة، الجمال الأخاذ. الجمال الحقيقي الكامل، الذي لا يرى فيه البصر، ولا الحس، ولا القلب، موضعاً للنقص؛ ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته؛ ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته. المتجددة العجيبة. ثم هي هذه الخلائق المنوعة، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف، الخاضعة كلها لناموس واحد، المتناسقة كلها في نشاط واحد، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام.
والله.. هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما.. فهو الحقيق سبحانه بهذا الوصف العظيم..
{خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام}..
وليست هي قطعاً من أيام هذه الأرض التي نعرفها. فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة، تؤلف ليلاً ونهاراً على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة!
أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله؛ ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها. فهي من أيام الله التي يقول عنها: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}.
تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه. أو ستة مراحل في النشأة والتكوين. أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله.. وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء. فلنأخذها كما هي غيباً من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد. إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق، وفق حكمة الله وعلمه. وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم.
{ثم استوى على العرش}..
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله. أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه، ولا بد من الوقوف عند لفظه. وليس كذلك الاستواء. فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء. ولفظ.. ثم، لا يمكن قطعاً أن يكون للترتيب الزمني، لأن الله سبحانه لا تتغير عليه الأحوال. ولا يكون في حال أو وضع سبحانه ثم يكون في حال أو وضع تال. إنما هو الترتيب المعنوي. فالاستعلاء درجة فوق الخلق، يعبر عنها هذا التعبير.
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم:
{ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}..
وأين؟ ومن؟ وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما؟ وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما؟ فأين هو الولي من دونه؟ وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه؟
{أفلا تتذكرون؟}..
وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله، والاتجاه إليه وحده دون سواه.
ومع الخلق والاستعلاء.. التدبير والتقدير.. في الدنيا والآخرة.. فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل:
{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}..
والتعبير يرسم مجال التدبير منظوراً واسعاً شاملاً: {من السماء إلى الأرض} ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها. وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض. ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح، ومتابعة التدبير شاملاً لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها!
ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه. يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال، والأشياء والأحياء {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}.. وليس شيء من هذا كله متروكاً سدى ولا مخلوقاً عبثاً، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم.. يرتفع. فكل شيء وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء.
{ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}..
ذلك.. الذي خلق السماوات والأرض. والذي استوى على العرش. والذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.. {ذلك عالم الغيب والشهادة}.. المطلع على ما يغيب وما يحضر. وهو الخالق المسيطر المدبر. وهو {العزيز الرحيم}.. القوي القادر على ما يريد. الرحيم في إرادته وتدبيره للمخاليق.
{الذي أحسن كل شيء خلقه}..
.. واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها. وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد.
سبحانه! هذه صنعته في كل شيء. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان؛ فلا تجاوز ولا قصور، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص، ولا إفراط ولا تفريط، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص. ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر.. كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام. ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي مجالها وفي مآلها، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.
كل شيء، وكل خلق، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود، معد لأداء هذا الدور إعداداً دقيقاً، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان.. ثم هذا الإنسان.. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام.. كل شيء. كل شيء. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن، يمنح الإنسان رصيداً ضخماً من ذخائر الحسن والجمال، ومن إيقاعات التناسق والكمال، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق؛ وتسكبها في القلب البشري؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة.
ولا يدرك القلب شيئاً من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة، ومن ملالة الألفة. وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله، ويتطلع إلى إيحاءاته. وإلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله.
إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود.
وإن عنصر الجمال المقصود قصداً في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء، يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو، وفي كل خلق.. انظر.. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور!
إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها، ونستمتع بها وهو يقول: {الذي أحسن كل شيء خلقه}.. فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير.
{الذي أحسن كل شيء خلقه}.. {وبدأ خلق الإنسان من طين}..
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين. فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة، وكان في المرحلة الأولى. ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح. وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة المؤمنون.. {خلق الإنسان من سلالة من طين}.. فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلاً إلى مرحلة الطين.
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض؛ وأنها نشأت من الطين. وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله. وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد. لا ما هو. ولا كيف كان. ومن الخلية الحية نشأ الإنسان. ولا يذكر القرآن كيف تم هذا، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار. فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين. وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح.
غير أنه يحسن بهذه المناسبة تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة: بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيواناً فوق القردة العليا ودون الإنسان.. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة التي لم يكن دارون قد عرفها تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضرباً من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطاً على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع حسب نظريات الوراثة هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام!
ثم نعود إلى ظلال القرآن!
{ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين}..
من ماء النطفة الذي هو المرحلة الأولى في تطور الجنين: من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كمال التكوين الجنيني، في هذه السلالة التي تبدأ بالماء المهين. وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التي تمر بها تلك النقطة الضائعة في ذلك الماء المهين. حتى تصل إلى الإنسان المقعد البديع التكوين! وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير.
وذلك ما يعبر عنه القرآن في آية واحدة تصور هذه الرحلة المديدة:
{ثم سواه، ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}..
يا الله. ما أضخم الرحلة! وما أبعد الشقة! وما أعظم المعجزة التي يمر عليها الناس غافلين!
أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية، لولا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة. والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذجة إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب؟
هذا الانقسام في تلك الخلية الواحدة والتكاثر. ثم التنويع في أصناف الخلايا المتعددة ذات الطبيعة المختلفة، والوظيفة المختلفة؛ التي تتكاثر هي بدورها لتقوم كل مجموعة منها بتكوين عضو خاص ذي وظيفة خاصة. وهذا العضو الذي تكونه خلايا معينة من نوع خاص، يحتوي بدوره على أجزاء ذات وظائف خاصة وطبيعة خاصة، تكونها خلايا أكثر تخصصاً في داخل العضو الواحد.. هذا الانقسام والتكاثر مع هذا التنويع كيف يتم في الخلية الأولى وهي خلية واحدة؟ وأين كانت تكمن تلك الخصائص كلها التي تظهر في ما بعد في كل مجموعة من الخلايا المتخصصة الناشئة من تلك الخلية الأولى؟ ثم أين كانت تكمن الخصائص المميزة لجنين الإنسان من سائر الأجنة؟ ثم المميزة لكل جنين إنساني من سائر الأجنة الإنسانية؟ ثم الحافظة لكل ما يظهر بعد ذلك في الجنين من استعدادات خاصة، ووظائف معينة، وسمات وشيات طوال حياته؟!
ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لولا أنها وقعت فعلاً وتكرر وقوعها؟
إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان.
إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة، والناس عنها غافلون.. ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنساناً ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}.. وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير.
ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء، والتطور والتحول، والتجمع والتخصيص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنساناً.. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل: {قليلاً ما تشكرون}..
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان، وأطوار هذه النشأة العجيبة، الخارقة لكل مألوف، وإن كانت تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة:
{وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟ بل هم بلقاء ربهم كافرون}..
إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقاً جديداً، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! {بل هم بلقاء ربهم كافرون}.. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.
لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفياً بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:
{قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثم إلى ربكم ترجعون}.
هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجهاً لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة؛ مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم. ربنا أبصرنا وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحاً، إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا، إنا نسيناكم، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}..
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلاً وخزياً.. {عند ربهم}.. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله؛ وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:
{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها. ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقاً واحداً. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.
وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:
{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا}..
يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر.. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا {إنا نسيناكم}.. والله لا ينسى أحداً. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.
{وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}..
ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.
يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر، في ظل آخر، وفي جو آخر، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال:
{إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم، وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، جزاء بما كانوا يعملون}..
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم {خروا سجداً} تأثراً بما ذكروا به، وتعظيماً لله الذي ذكروا بآياته، وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيراً عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب {وسبحوا بحمد ربهم}. مع حركة الجسد بالسجود. {وهم لا يستكبرون}.. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:
{تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}..
إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}.. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهداً في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة، حتى لكأنها مجسمة ملموسة: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}.. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصلاة الخاشعة، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة.. {ومما رزقناهم ينفقون}..
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيفة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس:
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}..
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله سبحانه بالقوم؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون.
هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستوراً حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله.
يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم كائناً ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لولا أنه فضل الله الكريم المنان؟!
وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل؛ ومشهد المؤمنين الناعم الكريم، يعقب بتلخيص مبدأ الجزاء العادل، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة؛ والذي يعلق الجزاء بالعمل، على أساس العدل الدقيق:
{أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً؟ لا يستوون. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا فمأواهم النار. كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها؟ إنا من المجرمين منتقمون}..
وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.
{أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى} التي تؤويهم وتضمهم {نزلا} ينزلون فيه ويثوون، جزاء {بما كانوا يعملون}..
{وأما الذين فسقوا فمأواهم النار}.. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. {وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون}. فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.
ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة:
{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر}..
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى؛ فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض {لعلهم يرجعون}.. وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذي رأيناه في مشهدهم الأليم.
فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها؟} وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: {إنا من المجرمين منتقمون}.. ويا هوله من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب!
وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين، وعواقب المؤمنين والفاسقين، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون. ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته. جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى عليه السلام الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل؛ كما جعل القرآن كتاب محمد صلى الله عليه وسلم هدى للمؤمنين. وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة. وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين. وبياناً للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:
{ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل. وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}..
وتفسير هذه العبارة المعترضة: {فلا تكن في مرية من لقائه} على معنى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي جاء به؛ وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه؛ والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان.. هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج. فإن اللقاء على الحق الثابت، والعقيدة الواحدة، هو الذي يستحق الذكر، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والإعراض، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء. وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.. للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل، وتوقن كما أيقنوا، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل. ولتقرير طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.
أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:
{إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}..
وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين:
{أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم؟ إن في ذلك لآيات.
أفلا يسمعون}؟.
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي. وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها، وضعفها وقوتها. والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين، واطراد تلك السنن، ويتخذ من مصارع القرون، وآثار الماضين، الدارسة الخربة، أو الباقية بعد سكانها موحشة. يتخذ منها معارض للعبرة، وإيقاظ القلوب، وإثارة الحساسية، والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين. كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس. ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم، فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان؛ وينسى النظام الثابت في حياة البشر، المطرد على توالي القرون. وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير!
وإن للآثار الخاوية لحديثاً رهيباً عميقاً، للقلب الشاعر، والحس المبصر، وإن له لرجفة في الأوصال، ورعشة في الضمائر، وهزة في القلوب. ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط. والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم؛ وأن تكون مساكن القوم أمامهم، يمرون عليها ويمشون فيها؛ ثم لا يستجيش هذا قلوبهم، ولا يهز مشاعرهم، ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله، وتوقي مثل هذا المصير؛ ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير:
{إن في ذلك لآيات. أفلا يسمعون؟}..
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم، أو يسمعون هذا التحذير، قبل أن يصدق بها النذير، ويأخذهم النكير!
وبعد لمسة البلى والدثور، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة. يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات؛ ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات:
{أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز، فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم؛ أفلا يبصرون؟}.
فهذه الأرض الميتة البور، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي؛ فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة. الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم. وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء.. إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها؛ والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها؛ والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة؛ إحساس حب وقربى وانعطاف؛ مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود.
وهكذا يطوّف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء، بعدما طوّف به في مجالي البلى والدثور، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك، وإيقاظه من بلادة الألفة، وهمود العادة؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود، وأسرار الحياة، وعبر الأحداث، وشواهد التاريخ.
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال