سورة سبأ / الآية رقم 9 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلالِ البَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ

سبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأ




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية: توحيد الله، والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث. وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية. وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد هما قوام الحكم والجزاء عند الله. وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله؛ وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث يقول: {وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة. قل بلى وربي لتأتينكم}..
وعن قضية الجزاء يقول: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم}..
وفي موضع آخر قريب في سياق السورة: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذباً أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}.
ويورد عدة مشاهد للقيامة، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول. يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً. وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟} وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب. وقالوا: آمنا به. وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل. إنهم كانوا في شك مريب} وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}..
ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة: {قل: بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
ويرد قرب ختام السورة: {قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب} وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله {الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير}.
ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله: {قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير} وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا: سبحانك! أنت ولينا من دونهم. بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير} وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له، وعجزهم عن معرفة موته: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته. فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله: {وقال الذين كفروا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} وقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين} ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}.. {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً. ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين. قل: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون. والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون} ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض: قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله. وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون. وما وقع لهؤلاء وهؤلاء. وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد.
هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى، تعرض في كل سورة في مجال كوني، مصحوبة بمؤثرات منوعة، جديدة على القلب في كل مرة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة.
وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}.. {وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة. قل: بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء. إن في ذلك لآية لكل عبد منيب}..
والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. وهو العلي الكبير} أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون.. الخ} والمكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة: {قل: إنما أعظكم بواحدة. أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة. إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة. حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسفلنا..
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط؛ لتيسير عرضها وشرحها. وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً.. وهذا هو طابع السورة الذي يميزها..
تبدأ السورة بالحمد لله، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة، وهو الحكيم الخبير. وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين، عن علم دقيق. وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق. وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم.
وبذلك ينتهي الشوط الأول.
فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله. غير متبطرين ولا مستكبرين، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين، ويستفتونهم في أمر الغيب. وهم لا يعلمون الغيب. وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون.. وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر. قصة سبأ. وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} وذلك أنهم اتبعوا الشيطان، وما كان له عليهم من سلطان، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين!
ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله. وهم {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله ولو كانوا من الملائكة فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق.. ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض. والله مالك السماوات والأرض، وهو الذي يرزقهم بلا شريك.. ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون. ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء. {كلا بل هو الله العزيز الحكيم} والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة، وموقفهم منها، وموقف المترفين من كل دعوة، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين. كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين.. ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل. وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى، وليس بكاذب ولا مجنون.. ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة. وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية: {قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب. قل: جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد. قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب} وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف.
والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل..
{الحمد لله، الذي له ما في السماوات، وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير. يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور}..
ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله، وتكذيبهم لرسوله، وشكهم في الآخرة، واستبعادهم للبعث والنشور.
ابتداء بالحمد لله. والله محمود لذاته ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده، ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله.
ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض؛ فليس لأحد معه شيء، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك، فله سبحانه كل شيء فيهما.. وهذه هي القضية الأولى في العقيدة. قضية التوحيد. والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض.
{وله الحمد في الآخرة}.. الحمد الذاتي. والحمد المرتفع من عباده. حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا، أو يشركون معه غيره عن ضلالة، تتكشف في الآخرة، فيتمحض له الحمد والثناء.
{وهو الحكيم الخبير}.. الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة؛ ويصرف الدينا والآخرة بحكمة؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة.. الخبير الذي يعلم بكل شيء، وبكل أمر، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور.
ثم يكشف صفحة من صحائف علم الله، مجالها الأرض والسماء:
{يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها}..
ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال!
ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين!
فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟
كم من شيء يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟
وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟ وكم من بركان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور ينكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟
وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق. وكم من شعاع منير؟ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد.
وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر.. وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله.
وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه.
وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة. وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله. وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله.
ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟!
كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان.. وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر.. {وهو الرحيم الغفور}..
وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر؛ ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر، ومثل هذه الإحاطة باللمسة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود! التي لا تشبهها صنعة العبيد!
وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم بعد الغد؛ والله هو العليم بالغيب؛ الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض:
{وقال الذين كفروا: لا تأتينا الساعة: قل: بلى وربي لتأتينكم، عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم}..
وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشئ من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره. فحكمة الله لا تترك الناس سدى، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته. وقد أخبر الله على لسان رسله: أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة. فكل ما يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره.. ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة.
من ثم يقولون قولتهم هذه: {لا تأتينا الساعة}.. فيرد عليهم مؤكداً جازماً: {قل: بلى وربي لتأتينكم}.. وصدق الله تعالى وصدق رسول الله عليه صلوات الله وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله، ويجزمون بما لا علم لهم به. والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو: {عالم الغيب}.. فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين.
ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور:
{لا يعزب عنه مقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
ومرة أخرى نقول: إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية. وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء. فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر...}.. ولست أعرف في كلام البشر اتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل. فهو الله، سبحانه، الذي يصف نفسه، ويصف علمه، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال.
وأقرب تفسير لقوله تعالى: {إلا في كتاب مبين} أنه علم الله الذي يقيد كل شيء، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: {مثقال ذرة.. ولا أصغر من ذلك}. والذرة كان معروفاً إلى عهد قريب أنها أصغر الأجسام. فالآن يعرف البشر بعد تحطيم الذرة أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء.
مجيء الساعة حتماً وجزماً، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:
{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات. أولئك لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين، أولئك لهم عذاب من رجز أليم}..
فهناك حكمة وقصد وتدبير. وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وللذين سعوا في آيات الله معاجزين..
فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم {مغفرة} لما يقع منهم من خطايا ولهم {رزق كريم} والرزق يجيء ذكره كثيراً في هذه السورة، فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف، وهو رزق من رزق الله على كل حال.
وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله، فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه. والرجز هو العذاب السيّئ. جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء!
وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره، وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم؛ وهي لا بد أن تجيء..
وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم وهي غيب من غيب الله وتأكيد الله لمجيئها وهو عالم الغيب وتبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن {الذين أوتوا العلم} يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد:
{ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}..
وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد.
ومجال الآية أكبر وأشمل. فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان، من أي جيل ومن أي قبيل، يرون هذا متى صح علمهم واستقام؛ واستحق أن يوصف بأنه {العلم}! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال. وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح. وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله. وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل.
{ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}..
وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود؛ واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه.
يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه؛ ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله وهو معها في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية. ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق أفراداً وجماعات مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه.
كل ذلك في بساطة ويسر ولين.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء، وسائر الخلائق؛ فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير.
إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق؟!
وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث، ودهشتهم البالغة لهذا الأمر، الذي يرونه عجيباً غريباً، لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن، فهو يتفوه بكل غريب عجيب، أو يفتري الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون.
{وقال الذين كفروا: هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد! أفترى على الله كذباً أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}..
إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث. فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟} هل ندلكم على رجل عجيب غريب، ينطق بقول مستنكر بعيد، حتى ليقول: إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد، وتعودون للوجود؟!
ويمضون في العجب والتعجيب، والاستنكار والتشهير: {أفترى على الله كذباً أم به جنة؟}.. فما يقول مثل هذا الكلام بزعمهم إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب!
ولم هذا كله؟ لأنه يقول لهم: إنكم ستخلقون خلقاً جديداً! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء؟ إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة. عجيبة خلقهم الأول. ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد. ولكنهم ضالون لا يهتدون. ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً:
{بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}..
وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه، وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء.. وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر. معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال. وهي حقيقة عميقة. فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي. لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة. وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال