سورة سبأ / الآية رقم 10 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلالِ البَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ

سبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأسبأ




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
أوبى معه: أي سبحى معه ورددى ما يقول من آيات الشكر والحمد للّه.
السابغات: الدروع الضافية، الكاسية.. ونعمة سابغة: أي كثيرة عامة شاملة، تغنى صاحبها، وتستر حاجته، وتسد خلّته.
وقدر في السرد: أي اعمل بحساب وتقدير في نسج الدروع من الحديد، ووصل حلقات بعضها ببعض. ومنه قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}.
أي أوجدها في دقة وإحكام.
ومناسبة الآية لما قبلها، أن الآية السابقة عليها ختمت بقوله تعالى. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فجاءت هذه الآية لتكشف عن صورة كريمة للإنسان الذي يحقق معنى الإنابة، على التمام والكمال، وهو داود عليه السلام.
وإذا كان داود وسليمان قد خلع اللّه سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة من نعمه، فإن هذه النعم لا يقام بحقها، ولا يؤدّى بعض ما للّه على عباده منها، إلا إذا كانت النعم ابتلاء من اللّه.. كالنقم سواء بسواء، فمن لم يصبر على مراقبة اللّه فيما حوله من نعم، ضل وانحرف، وفى قارون مثل بيّن في هذا.. ولهذا جاء قول سليمان، فيما حكاه اللّه عنه، بعد أن طلب عرش ملكة سبأ فوجده بين يديه، جاء قوله. {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} كاشفا عن تلك الحقيقة من أمر النعم، وأنها قد تدعو من لا يحرص على مراقبة اللّه فيها.
إلى الكفر والضلال.. وقد كان داود عليه السلام في حراسة دائمة لنفسه.
وفى مراجعة لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وأنه كلما وجد من نفسه ما لا يرضاه في صلته بربه، بادر بإصلاح ما كان منه، وصالح ربّه بالتوبة والاستغفار.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى عنه: {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} بيان لما أنعم اللّه به على عبده داود من فواضل إحسانه وكرمه.. وفى تقديم متعلق الفعل وهو الجار والمجرور {منّا} على المفعول به {فضلا} تعظيم للمنعم. وإشارة إلى علو المقام الذي جاء منه الإحسان، فيقطع العقل بأنه إحسان عظيم قبل أن يكشف عن الإحسان.
وقوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.
هو مقول لقول محذوف.. والتقدير فشكر لنا هذا الفضل، وسبح بحمدنا على هذا الإحسان، فقبلنا منه شكره وحمده، وقلنا {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي سبحى، وأعينيه على حمدنا وشكرنا، إذ كانت نعمنا عليه كثيرة، لا يستطيع أحد شكرها، مهما اجتهد في الشكر، وبالغ في الحمد.. فمن فضل اللّه على عباده أن يحسن إليهم، ومن تمام هذا الإحسان أن يعينهم على شكره، ومن مضاعفة العون أن يسخر غيرهم ليكونوا ألسنة من ألسنة الشكر للّه معهم على ما أنعم اللّه عليهم.
فالجبال هنا مأمورة من اللّه سبحانه أن تسبّح مع داود، وأن تقوم إلى جانبه شاكرة للّه، وكأنها من صنعة داود، وغرس يديه.. وهذا إحسان من اللّه على عبده داود، فوق إحسان، وفضل فوق فضل.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} أي زيادة في الإحسان، ومزيدا من النعم، يفضل بهما كثيرا ممن أنعمنا عليهم من عبادنا.
والتأويب: الترديد والترجيع، فهو من الأوب، والرجوع.. وتأويب الجبال مع داود، هو ترديد تسبيحه، فيكون ذلك أشبه بالصدى للصوت، حيث، يرجع الصوت في هذا الصدى إلى مصدره الذي جاء منه.
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ}.
الواو هنا واو المعية، والطير مفعول معه.
والتقدير: وقلنا يا جبال أوّبى معه، مع الطير التي تسبح معه.
وعلى هذا يكون الأمر من اللّه سبحانه وتعالى، متجها إلى الجبال، وإلى الطير، لتشارك داود التسبيح للّه، ولتعينه على حمد اللّه وشكره.
واختيار الجبال، والطير، من بين الكائنات كلها، إنما هو- واللّه أعلم- لأن الجبال أبرز وجوه الأرض، فهى أشبه بالسلطان القائم عليها، والطيور هى ملوك السماء، وأبرز ما يحلّق في أجوائها من ذوات الأجنحة، كالذباب، والبعوض، وغيره.
وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي أخضعناه لسلطانه، وجعلنا له القدرة على التصرف فيه، وتشكيله على الوجه الذي يريد.
والذي يجمع عليه المفسرون، أن اللّه قد ألان الحديد ليد داود، وغيّر طبيعته، فجعله في يده مثل العجين، يشكّله كيف يشاء، كما يشكل المرء صورة من الطين أو العجين.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن إلانة الحديد لداود، إنما كانت جارية على سنن الحياة، وأن اللّه سبحانه قد علّمه الأسلوب الذي يلين به الحديد، وهو عرضه على النار، والنفخ في النار حتى يحمّر، ويقبل الطرق.
وذلك ما لم يكن معروفا للناس في ذلك الزمن.. ولهذا كان داود أول من صنع من الحديد دروعا، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [80: الأنبياء].. وبهذا يكون داود عليه السلام، أول من طرق الحديد، متوسلا إلى ذلك بما علمه اللّه، من عرض الحديد على النار، حتى يلين، ويقبل الطرق.
وقوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} أي وأوحينا إليه أن عمل دروعا سابغات.
وقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي أحكم السرد، واضبطه.. وهذا توجيه من اللّه سبحانه وتعالى بإتقان العمل، وإحسانه، وضبطه على أحسن وجه له.
وقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صالِحاً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي أحسن الصنعة وأحكمها.. وأحسنوا أيها الناس جميعا كلّ عمل تعملونه، وأخرجوه على الوجه المرضىّ.. فإن إحسان العمل مما يحسب في الصالحات للإنسان.. فليس الإحسان في العمل مطلوبا من الأنبياء وحدهم، وإنما هو مطلوب من كل إنسان.. {وَأَحْسِنُوا.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى مطلع على عمل كل عامل، وأنه سبحانه بصير بما يعمل العاملون، يكشف ما في العمل من عيب أو عوج.
ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء بإساءته.. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ}.
الآية معطوفة على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} أي:
{ولقد آتينا داود منا فضلا، وسخرنا لسليمان الريح..}!
وقوله تعالى: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ}.
الغدوّ: أول النهار، وفيه تغدو الكائنات إلى حيث تطلب رزقها وغذاءها.
والرواح: آخر النهار، حيث ترجع الكائنات الغادية، وتروح إلى مراحها الذي ترتاح فيه، بعد عمل يومها.
ومعنى غدوها شهر ورواحها شهر، أي أن مسيرة الريح المسخّرة لسليمان، في غدوة، تقدّر بمسيرة شهر، سيرا على القدم، كما أن مراحها، ورجوعها من غدوتها، يعدل مسيرة شهر.. كذلك.
أما ما يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الريح كانت تنطلق شهرا غادية، وشهرا رائحة، في حدود مملكة سليمان- فهذا بعيد، لأن رقعة مملكة سليمان لم تكن تتجاوز حدود فلسطين، وهذه الرقعة هى التي يمكن أن تقطعها الريح في غدوة أو روحة من نهار.. وأقرب شاهد لهذا ما جاء في القرآن الكريم من أن سليمان لم يكن يعرف مملكة سبأ حتى أخبره الهدهد بخبرها.. فلو كان ملك سليمان مما يتسع لجريان الريح شهرا فيه، لكان ذلك ملكا يسع معظم العالم كله، ولكانت سبأ داخلة في سلطان هذا الملك، من باب أولى.
وقوله تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي النحاس.. والنحاس أشد من الحديد إباء على النار.. فهو يحتاج في صهره إلى قوة حرارية أكثر مما يحتاج إليه الحديد.
وإذا كان داود قد عرف كيف يليّن الحديد، فإن سنة التطور تقضى بأن يتعرف ابنه سليمان على القوة الحرارية التي يتمكن بها من إلانة النحاس وصهره..!
والتعبير عن الحديد بالإلانة في قوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}، وعن النحاس بالسيولة- في قوله تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} إشارة إلى اختلاف طبيعتى كلّ من الحديد والنحاس، وأن الحد يمكن تشكيله بالطرق إذا سخن ولان.. أما النحاس، فلا ينتفع به حتى ينصهر، ويتحول إلى مادة أقرب ما تكون إلى السوائل.. وهذا ما نجده في قوله تعالى على لسان ذى القرنين. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}.
فالحديد هنا قد عرض على النار حتى احمر وصار أشبه بالجمر.. ثم جاء بالقطر- وهو النحاس الذائب- فأفرغه على هذا الحديد، وصبّه فوقه، كما يصب الماء على النار!! وعين القطر، هو الخالص منه.. فهو نحاس خالص، لم يختلط بشىء، مما يسمى الشّبه أي شبه النحاس.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ويستجيب لأمره من غير مراجعة.
والجنّ عالم غير مرئى، يعيش معنا على هذه الأرض، كما تعيش كثير من المخلوقات، غير المرئية، كالديدان في باطن الأرض، وكأنواع كثيرة من الأسماك في أعماق المحيطات.. وكوننا لا نرى هذه الكائنات، لا يدعونا الأمر إلى إنكارها، أو الشك في وجودها.
وقد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الجنّ، وأنزل سورة باسمهم، وقصّ علينا شأنا من شئونهم، وأعلمنا أن منهم المؤمنين، وأن منهم الفاسقين.. فيلزمنا التصديق بهم.. كما تحدث القرآن عنهم.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ} إشارة إلى أن سلطان اللّه سبحانه وتعالى قائم على هذه الكائنات، وأنه سبحانه قد سخّرها لتخدم عبدا من عباده، هو سليمان- عليه السلام- فهى واقعة تحت هذا الحكم، لا تخرج عنه. ومن خرج عنه منها، عذبه اللّه عذابا أليما.
وليس كل الجن سخّر لسليمان، وإنما بعض منهم، كما يفهم من قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ} أي ومن بعض الجن.
قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}.
أي أن هذه الجماعة من الجن، التي سخرها اللّه لسليمان، تعمل له ما يشاء: {من محاريب} أي بيوت عبادة، فالمحراب هو مكان العبادة، كما قال تعالى: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ}.
{وتماثيل} أي صور كائنات وأشياء مجسدة، يزين بها ما يبنى من دور وقصور، وبيوت عبادة، {وجفان كالجواب} الجفان جمع جفنة، وهى القصعة الكبيرة يوضع فيها الطعام للآكلين.
وفى وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة- دليل على سعة ملك سليمان، وما بسط اللّه له من رزق، حتى ليطعم على مائدته هذه الأعداد الكثيرة من الناس، التي أعدت لها تلك الأوانى والأدوات، لتهيئة الطعام لها.
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً}.
أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا للّه، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى عليكم من إحسان.
فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.
وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} هو حثّ لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله اللّه منهم، ورضيه لهم.
وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} هو تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر اللّه بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان في الناس كثير من الشاكرين للّه، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية في مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها.
وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن اللّه سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل- {تماثيل} منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس.. وهذا يعنى أن صناعة التماثيل ليست مما يقع في دائرة التحريم، أو الكراهية، وإلا لكان نبىّ اللّه سليمان أبعد الناس عن ملابسة هذه الصناعة، والانتفاع بها.
بقي بعد هذا أن نسأل:
لما ذا قامت هذه الجفوة بين المسلمين وبين ممارسة فنّ النحت، والتصوير، والرسم، وغيرها من الفنون الجميلة؟
ولا نجد لهذا الجفاء مستندا من كتاب اللّه، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام دعوة تلتقى بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه في مواجهة مدركاته، ومشاعره ووجداناته.
ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذى المشاعر والعواطف.
والذي يمكن أن يكون من الإسلام في أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفنّ النحت، ولم يفتح للناس طريقا إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامى يومئذ، كان خارجا من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها.
فكان من الحكمة أن تخفّ في الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلى إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته.. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشّعر، الذي كان يحمل قدرا كبيرا من الضلال والإفك.
وقد كان من الطبيعي أن يردّ إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها، بعد أن ماتت في النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد.
ولكن الذي حدث، هو الإمعان في الجفوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها لم تكن من مادة الحياة في عصر النبوة أو في عصر الخلفاء الراشدين.. وقد فات الذين ينظرون إلى هذه الفنون من خلال عصر النبوة، أن هذا العصر كان يعالج النفوس، والقلوب والعقول، من آفات كثيرة علقت بها، وأنه لم يعرض للجوانب السليمة المعافاة من الأدواء في كيان الإنسان، بل تركها تجرى على طبيعتها، وبقدر ما تحمل من طاقات وملكات! قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ}.
تكشف هذه الآية عن حقيقة الجن، وتصحح تلك الصّور المشوهة التي وقعت في أوهام الناس لهم، بنسبة الخوارق إليهم، وأنهم يقدرون على كل شيء قدرة مطلقة، وأنهم يعلمون الغيب، ولهذا يلجأ كثير من الناس إلى محاولة الاتصال بالجن، كما يفعل العرافون والسحرة وغيرهم، ففى قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} إشارة إلى أن سليمان حين حان أجله، وقضى اللّه عليه الموت، أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، وكان سليمان حين مات، قائما بين الجنّ وهم بين يديه يعملون له- لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به.
ولم يدلّهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض، التي كانت تأكل منسأته، أي عصاه التي كان يتكىء عليها.. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها، وسقطت على الأرض. وخر سليمان على الأرض كذلك.. وهنا علم الجن أن سليمان قد مات.. فأخلوا مكانهم، ومضوا إلى حيث يشاءون!! ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات، ولو كان بعيدا عنهم، فكيف وهو تحت سمعهم وبصرهم؟
إن الجن كائنات محدودة القدرة، واقعة في قيد العجز عن كثير من الأمور، شأنها في هذا شأن الإنسان.. الذي يقدر على القليل، ويعجز عن الكثير.
وقد كثرت الأقوال في دابة الأرض، وفى المدة التي قضتها حتى أكلت العصا، وأتت عليها.. والرأى الذي عليه المفسرون أنها الأرضة، وهى دودة تتسلط على الخشب، فتنخر فيه وتفسده، وتسمّى السوس.
وأنها ظلت تفعل هذا مدة طويلة، بلغ بها بعضهم سنة! والذي حمل المفسرين على القول بأن الدابة هى الأرض- هو- في ظننا- إضافة الدابة إلى الأرض.. أي أنها صغيرة ضئيلة، ملتصقة بالأرض.
كبعض الحشرات.
والرأى عندنا، أن الدابة، كل ما دبّ على الأرض.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فكل ما دبّ على الأرض، من إنسان وحيوان، فهو دابة، وكونها في الأرض، أو على الأرض، لا يغير من الأمر شيئا، وأنه إذا كان لإضافتها إلى الأرض هنا شأن خاص، فهو- واللّه أعلم- المبالغة في الإشارة إلى جهل الجنّ بعلم ما في الغيب، وأن دابة من دوابّ اللّه في الأرض، أعلم منهم، حيث دلتهم، وكشفت لهم عما عجزوا وهم عن كشفه، وهى مما على الأرض، فكيف بما في السماء من عوالم المخلوقات؟
وليس ببعيد أن تكون الدابة التي كانت تأكل من عصا سليمان، شيئا أكبر من الأرضة، وليس ببعيد ألا تكون الدابة واحدة، بل أعدادا كثيرة من نوع هذه الدابة.. فإن اللفظ يحتمل هذا.
وعلى هذا، فالذى يمكن أن تفهم عليه دابة الأرض، هو أن تكون هذه الدابة حيوانا كبيرا مما يدب على الأرض، ويمكن أن يتناول العصا بفمه، ويحاول الأكل منها، كبعض الحيوانات آكلة العشب، مع احتمال أن تكون عصا سليمان من بعض أغصان الزيتون الخضراء، التي لم تجفّ بعد.. فليس ببعيد- والأمر هكذا- أن تكون هناك شاة أو نحوها قد تمسّحت به، ومدت فمها إلى العصا، تريد الأكل منها، فوقعت العصا وخرّ سليمان إذ كان ميتا.
أما أن يظل سليمان هذا الزمن الطويل الذي يتجاوز الأيام إلى الأسابيع والشهور، وهو نائم، دون أن يفتقده أحد من رعيته، وأعوانه، ووزرائه، وقواده، فذلك ما لا يقبله العقل، وإن قيل أن جثته لم تتغير ولم تتحلّل خلال هذه المدة!! إنه من غير المعقول الذي يرتفع إلى درجة المستحيل، أن يغيب سليمان عن تدبير مملكته أياما، ثم لا يلتفت إليه أحد!! إن أي إنسان ذى شأن، لا يمكن أن تغفل عنه العيون يوما أو بعض يوم، فكيف بصاحب هذا السلطان العظيم؟
ويمكن كذلك أن تكون الأرضة قد كانت متسلطة على عصا سليمان، وهو لا يعلم، وأنه كان يحمل تلك العصا وقد عاث السوس فيها، حتى إذا كان متكئا عليها في مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات وثقل جسمه، كما هو الشأن في كل ميت! والسؤال هنا: هل كان الجن لا يعلمون أنهم لا يعلمون الغيب حتى وقعت هذه الواقعة، وانكشف لهم منها أنهم معزولون عن علم الغيب؟
والجواب- واللّه أعلم- أنهم كانوا بما لهم قدرة على الحركة والانطلاق في آفاق فسيحة، يظنون أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتى به الغد، بالنسبة للإنسان الذي لا يرى مثل هذه الرؤية البعيدة. فمثلا إنسان على طريق سفر يمكن أن تراه الجنّ، وتخبر عنه، وعن حاله على هذا الطريق، والحديث الذي يتحدث به، والأمتعة التي معه، وبعدكم من الزمن سيصل إلى المكان الذي يتحدث فيه أهله عنه.. كل هذه الأمور وكثير غيرها يمكن أن يعلمها الجن، قبل أن يعملها الإنسان الذي في الطرف الآخر من هذه الوقائع.. وهو في الواقع ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأى العين.. فهو حضور بالنسبة للجن، ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث.. حيث يرى الجن- ولا نرى نحن البشر- ما وراء الأبواب المغلقة، أو الجدر القائمة، ونحوها.
وهذا غيب بالنسبة لنا، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن.
أما الغيب بالنسبة للجن، فهو الأحداث التي لم تولد بعد، ولم تخرج إلى عالم الشهود، كمقدّرات اللّه في خلقه، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر.. كالعمر، والرزق والذرية، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان.
ومثل الإنسان في هذا سائر المخلوقات، وما قدّره اللّه لكل مخلوق.. فهذه المقدرات التي هى في حالة كمون، لم تتحرك بعد إلى الظهور، لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإلا من اصطفى من رسله، فأظهره على بعض ما انطوى في صحف الغيب.
وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة، هى سر من أسرار اللّه، وغيب من غيوبه، وأمر من أمره، لا يعلمه إلا هو، فلما زايلت مكانها من سليمان، لم يشعر الجن بها، ولم يعلموا من أمرها شيئا، وحسبوا سليمان- وهو ميت- أنه في غفوة، أو في سنة من النوم.. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها، وخرّ ميتا دون حراك، علم الجن أنه مات، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان، ولعلموا أنه مات، ولما لبثوا في قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم.. إنه عذاب مهين لهم، وإذلال لسلطانهم، وقهر لجبروتهم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال