سورة آل عمران / الآية رقم 96 / تفسير تفسير الرازي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ

آل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمران




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى للعالمين فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف، فكان جعلها قبلة أولى والثاني: أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل، ثم إن الله تعالى حرم بعضها، والقوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 95] وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت، ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع: أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة، فإن الله تعالى بيّن كذبهم، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون، فيدل هذا على كذبهم في ذلك، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال المحققون الأول: هو الفرد السابق، فإذا قال: أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق، لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق.
إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس، وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس، وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق، فدل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات، وموضعاً للحج، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه.
فإن قيل: كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب: من وجهين:
الأول: أن لفظ الأول: في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصبته ولو قال: أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر، فكذا هنا، والثاني: أن المراد من قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج، فهذا غير لازم والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدىً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول: أنه أول في البناء والوضع، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها: ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين، وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خلق آدم». وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر، ومجاهد والسدي: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته، قال القفال في تفسيره: روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال: وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء.
وثانيها: أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام، فلما أرسل الله تعالى الطوفان، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة، يتعبد عنده الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة، وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت، وأمره بعمارته، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام.
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه:
الأول: أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام، بدليل قوله تعالى في سورة مريم {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم وإسراءيل وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لابد لها من قبلة، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة الثاني: أن الله تعالى سمى مكة أم القرى، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع: أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت موجودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه:
الأول: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة» وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام.
الثاني: تمسكوا بقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل} [البقرة: 127] ولقائل أن يقول: لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار.
الثالث: قال القاضي: إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة، ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول: لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها، فهذا جملة ما في هذا القول:
القول الثاني: أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدىً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» فقيل كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة».
وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له: أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبناه العمالقة، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش.
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لابد منه، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر هاهنا وجوه فضيلة البيت:
الفضيلة الأولى: اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس.
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت، فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} [الحج: 26] والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام، فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام.
الفضيلة الثانية: {مَّقَامِ إبراهيم} وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر.
الفضيلة الثالثة: قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء.
الفضيلة الرابعة: إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها.
الفضيلة الخامسة: أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وقال تعالى في صفة أمنه {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وقال: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} [قريش: 3، 4] ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية.
الفضيلة السادسة: أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور.
قلنا: لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة، ومثل هذا يكون من المعجزات، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء.
الفضيلة السابعة: إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع، والحكمة من وجوه:
أحدها: إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله.
وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.
وثالثها: أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط.
ورابعها: أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا، فكأنه قال: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن.
وخامسها: كأنه قال: لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود: إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم.
ثم قال تعالى: {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شك أن المراد من {بكة} هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال: بكة ومكة اسمان لمسمى واحد، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال: هذه ضربة لازم، وضربة لازب، ويقال: هذا دائم ودائب، ويقال: راتب وراتم، ويقال: سمد رأسه، وسبده، وفي اشتقاق بكة وجهان الأول: أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً، يقال: بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير: سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان.
الوجه الثاني: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب: تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته.
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه:
الأول: أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها، من قولك: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا امتص ما فيه الثاني: سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض، يقال أمتك الفصيل، إذا استقصى ما في الضرع، ويقال تمككت العظم، إذا استقصيت ما فيه الثالث: سميت مكة، لقلة مائها، كأن أرضها امتكت ماءها الرابع: قيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، ومن الناس من فرق بين مكة وبكة، فقال بعضهم: إن بكة اسم للمسجد خاصة، وأما مكة، فهو اسم لكل البلد، قالوا: والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف، لا في سائر المواضع، وقال الأكثرون: مكة اسم للمسجد والمطاف. وبكة اسم البلد، والدليل عليه أن قوله تعالى: {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت، أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد، استقام هذا الكلام.
المسألة الثانية: لمكة أسماء كثيرة، قال القفال رحمه الله في تفسيره: مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها، وأم القرى قال تعالى: {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92] وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض.
المسألة الثالثة: للكعبة أسماء أحدها: الكعبة قال تعالى: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} [المائدة: 97] والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً، لارتفاع ثديها، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم.
وثانيها: البيت العتيق: قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33] وقال: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] وفي اشتقاقه وجوه:
الأول: العتيق هو القديم، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني: أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث: من عتق الطائر إذا قوي في وكره، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تخريبه أهلكه الله سمي عتيقاً الرابع: أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين الخامس: أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار.
وسادسها: المسجد الحرام قال سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية.
فإن قال قائل: كيف الجمع بين قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وبين قوله: {وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس.
والجواب: كأنه قيل: البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم.
ثم قال تعالى: {مُبَارَكاً وَهُدًى للعالمين}.
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها: أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد هاهنا وجوهاً أُخر الأول: قال علي رضي الله عنه، هو أول بيت خص بالبركة، وبأن من دخله كان آمناً، وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف. أول بيت جعل قبلة.
وثانيها: أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: انتصب {مُبَارَكاً} على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً.
المسألة الثانية: البركة لها معنيان أحدهما: النمو والتزايد والثاني: البقاء والدوام، يقال تبارك الله، لثبوته لم يزل، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه:
أحدها: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها.
قال صلى الله عليه وسلم: «فضل المسجد الحرام على مسجدي، كفضل مسجدي على سائر المساجد». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» فهذا في الصلاة، وأما الحج، فقال عليه الصلاة والسلام: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». وفي حديث آخر: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.
وثانيها: قال القفال رحمه الله تعالى: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيء} [القصص: 57] فيكون كقوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً.
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضاً الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين.
الصفة الثالثة: من صفات هذا البيت كونه {هُدًى للعالمين} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل: هدىً للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: هدىً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة.
المسألة الثانية: قال الزجاج: المعنى وذا هدىً للعالمين، قال: ويجوز أن يكون {وهدى} في موضع رفع على معنى وهو هدى.
أما قوله تعالى: {فِيهِ ءايات بينات} ففيه قولان الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله: {مَّقَامِ إبراهيم} لا تعلق له بقوله: {فِيهِ ءايات بينات} فكأنه تعالى قال: {فِيهِ ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
القول الثاني: أن تفسير الآيات مذكور، وهو قوله: {مَّقَامِ إبراهيم} أي: هي مقام إبراهيم.
فإن قيل: الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد، أجابوا عنه من وجوه:
الأول: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على وجود الصانع، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا} [النحل: 120] الثاني: أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث: قال الزجاج إن قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} من بقية تفسير الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حجه، ثم حذف (أن) اختصاراً، كما في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} [الأعراف: 29] أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع: يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما الخامس: قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة {آيَة بَيّنَةً} على التوحيد السادس: قال المبرّد {مَّقَامِ} مصدر فلم يجمع كما قال: {وعلى سَمْعِهِمْ} والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} [الحج: 32].
ثم قال تعالى: {مَّقَامِ إبراهيم} وفيه أقوال أحدها: أنه لما ارتفع بنيان الكعبة، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني: أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل: إنزل حتى نغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانب الآخر، فبقي أثر قدميه عليه والثالث: أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج، قال القفال رحمه الله: ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها.
ثم قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً} ولهذه الآية نظائر: منها قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً} [العنكبوت: 67] وقال إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [إبراهيم: 35] وقال تعالى: {أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مّنْ خوف} [قريش: 4] قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} موجودة في الحرم ثم قال: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً} وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم؟ قال الشافعي: يستوفي، وقال أبو حنيفة: لا يستوفي، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج، ثم يستوفي منه القصاص، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً} واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية، فقال: ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
والجواب: أن قوله: {كَانَ ءَامِناً} إثبات لمسمى الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به وبيانه من وجوه:
الأول: أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة، قال النبي عليه السلام: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً».
وقال أيضاً: «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام».
وقال: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
والثاني: يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين:
الأول: أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر والثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث: في تأويل الآية: أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان آمناً لأنه تعالى قال: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءَامِنِينَ} [الفتح: 27] الرابع: قال الضحاك: من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد، وهو أن قوله: {كَانَ ءَامِناً} حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم.
قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {حَجَّ البيت} بكسر الحاء والباقون بفتحها، قيل الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى، وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة، مثل رطل ورطل، وبزر وبزر، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر، وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً، كالذكر والعلم.
المسألة الثانية: في قوله: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وجوه:
الأول: قال الزجاج: موضع {مِنْ} خفض على البدل من {الناس} والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني: قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت الثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون {مِنْ} في موضع رفع على معنى الترجمة للناس، كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً.
المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت، عن عكرمة أيضاً أنه قال: الاستطاعة هي صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلابد فيه من دليل منفصل، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار، وطعن فيها من وجه آخر، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً، فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185].
المسألة الرابعة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل، فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط، فكذا هاهنا والله أعلم.
المسألة الخامسة: احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقالوا: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج، ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق.
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدة، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد.
المسألة السادسة: روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام، ذكروا ذلك ثلاثاً، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال في الرابعة: لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين:
الأول: أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني: أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة.
المسألة السابعة: استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول، قال تعالى: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} [غافر: 11] وقال: {هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44] وقال: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:
القول الأول: أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله.
القول الثاني: أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج، أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله: {وَمَن كَفَرَ} فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً».
وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً».
وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه، فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج؟
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه: يجوز أن يكون المراد منه التغليظ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج، ونظيره قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك صلاة متعمداً فقد كفر».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر».
وأما الأكثرون: فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج، قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة المسلمين، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وهذا القول هو الأقوى.
المسألة الثانية: اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.
إذا عرفت هذا فنقول: قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها: قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} والمعنى أنه سبحانه لكونه إلها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا.
وثانيها: أنه ذكر {الناس} ثم أبدل منه {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفيه ضربان من التأكيد، أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدل على شدة العناية، وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام.
وثالثها: أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما: لام الملك في قوله: {وَللَّهِ} وثانيتهما: كلمة {على} وهي للوجوب في قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس}.
ورابعها: أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام.
وخامسها: أنه قال: {وَمَن كَفَرَ} مكان، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج.
وسادسها: ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان.
وسابعها: قوله: {عَنِ العالمين} ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته، فكان ذلك أدل على السخط.
وثامنها: أن في أول الآية قال: {وَللَّهِ عَلَى الناس} فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية، لا لجر نفع ولا لدفع ضر، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله: {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج، قوله عليه الصلاة والسلام: «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث».
وروي حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه قيل: معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره، وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال