سورة ص / الآية رقم 12 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص‌ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَ تَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ

صصصصصصصصصصصصصصص




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ}.
فى هذا العرض للأقوام الذين كذّبوا رسل اللّه أمران.
الأول: مواساة للنبىّ الكريم؟ بهذا الذي لقيه رسل اللّه من قبله من تكذيب أقوامهم لهم.. فليس النبىّ- صلى اللّه عليه وسلم- بدعا فيما ناله من قومه، من أدى وضرّ.
والثاني: هو تهديد لهؤلاء المشركين أن يلقوا هذا المصير المشئوم الذي لقيه المكذّبون برسل اللّه.
فرعون ذو الأوتاد، هو فرعون مصر الذي وقف من موسى هذا الموقف الذي انتهى به وبجنده إلى الهلاك غرقا.
وأوتاد فرعون، هى تلك الأهرام التي أقامها فراعين مصر، فكانت أوتادا على الأرض كالجبال.. فالجبال هى أوتاد الأرض، كما يقول تعالى: {وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [7: النبأ].
وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.. والأيكة الشجر الكثير المجتمع بعضه إلى بعض أشبه بالغاية.
وفى عطف {عاد} على فاعل الفعل {كذبت} وهو {قوم} إشارة إلى أن المكذّبين هم {عاد} لا قوم عاد، إذ كانت نسبة الأقوام هنا إلى أنبيائهم.. وعاد ليس نبيا.. وكذلك الشأن في {ثمود} وأصحاب الأيكة.
أما عطف {فرعون} على عاد، فلأنه:
أولا: ليس نبيا، حتى يضاف القوم إليه في هذا المقام، ثم إن قوم فرعون، ليسوا من قوم النبىّ موسى، حتى يضافوا إليه.
وثانيا: لو أضيف القوم إلى فرعون، لأشعر هذا بأنه غير داخل معهم في التكذيب.. وهذا غير مراد.
وثالثا: تسليط فعل التكذيب على فرعون، يشعر بأنه كان هو الكيان المكذّب، الذي احتوى قومه جميعا في كيانه هذا.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الْأَحْزابُ}.
الإشارة إلى هؤلاء المكذبين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان.. وأنهم الأحزاب الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} أي فهؤلاء المشركون من قريش، هم جماعة من تلك الجماعات، وهم من أحزابهم التي اجتمعت على الكفر والضلال، وعلى التكذيب برسل اللّه.. وهؤلاء جميعا- ومنهم هؤلاء المشركون- محكوم عليهم بالهزيمة والخذلان.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ}.
{إن} هنا نافية، بمعنى (ما). أي ما كلّ هؤلاء إلا كذّب الرسل، {فحق عقاب} فوجب عليه عقاب اللّه الراصد له.
وفى إسناد التكذيب بالرسل جميعا، إليهم في مقام واحد- إشارة إلى أمرين:
أولا: أن الرّسل جميعا على أمر واحد، وعلى دعوة واحدة، هى الإيمان باللّه.. فمن كذب برسول من رسل اللّه، فهو مكذب برسل اللّه كلهم.. لأن الحق الذي معهم واحد، والدين الذي يدعون إليه دين واحد.
وثانيا: أن أهل الضلال، كيان واحد أيضا، لا اختلاف بين أولهم وآخرهم.
فالطريق الذي سار عليه أولهم، من الكفر باللّه والتكذيب بالرسل، هو نفس الطريق الذي سلكه وسار عليه كل مشرك ضال.
قوله تعالى: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ}.
الفواق: البرهة القصيرة من الزمن، بين الجرعة والجرعة من الماء.. يأخذ فيها الشارب نفسه.
والإشارة هنا (بهؤلاء) إلى المشركين، وأنهم هم المقصودون في هذا المقام بهذا الحكم المشار إليهم به.
والآية تهديد لهم بأنهم- وقد أهلك اللّه أمثالهم من المكذبين الضالين، وأنزل بهم العذاب الذي يستحقونه- لن يمهلوا طويلا حتى يأتيهم العذاب، وهو حين يأتى لا يدع لهم لحظة من الزمن يستردون فيها أنفاسهم.. إنها صيحة واحدة تخمد أنفاسهم بعدها.
والصيحة هنا، هى صيحة الموت.. فإن مشركى العرب لم يهلكوا بعذاب من عند اللّه في الدنيا، إكراما لرسول للّه صلوات اللّه وسلامه عليه، كما يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [33: الأنفال] وصيحة الموت هذه، هى بالنسبة للكافر، الذي يموت على كفره، بلاء عظيم، إذ تقطعه عن الإيمان الذي كان يمكن أن يكون منه قبل أن يموت، فإذا مات على الكفر استحال أن يكون في المؤمنين أبدا.. وكانت الصيحة عليه بالموت، هى المركب الذي يحمله إلى جهنم في غير مهل!!.
قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ}.
أي أن هؤلاء المشركين- وقد وعد اللّه نبيه فيهم، ألا يأخذهم بما أخذ به المكذبين قبلهم من عذاب الدنيا- لم يقبلوا هذا الإحسان من اللّه، بل ردوه في قحة وتحدّ {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} يقولون هكذا {ربّنا} ولا يستحيون أن يتحدوه هذا التحدي، ولا يخشوا عذابه!.
والقط: هو النصيب المقسوم من الشيء.. ولعلها كلمة جاءت إلى اللسان العربي من ألسنة الأمم المجاورة للعرب.. ولعل أصلها القط وهو جزء من أصل الشيء، ومنه القسطاس، وهو الميزان الذي توزن به الأشياء، ويحدّد به قدرها.
وفى قولهم: {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} مع أنهم يكذبون به، استهزاء وسخرية، ومبالغة منهم في التكذيب بهذا اليوم.. يوم الحساب الذي يوعدهم الرسول به، وهو غير واقع في تصورهم.
قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
الأمر بالصبر: هو دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، بالمصابرة، واحتمال المكروه من هؤلاء المكذبين، وما يقولون من منكر القول، كقولهم هذا: {عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ!} فإن لهؤلاء الظالمين يوما يجعل الولدان شيبا.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي واذكر في هذا المقام الذي تدعى فيه إلى الصبر- {اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ} ففى ذكره في هذا المقام ما تجد فيه الروح الأنس، لما يتمثل لك من سيرته، التي يقصها اللّه عليك.
والأيد: القوة.. وهى مأخوذة من اليد، التي تتمثل فيها قوة الإنسان الجسدية.. ثم إنها ليست يدا واحدة، بل أيديا كثيرة.. وإذن فهى قوة خارقة.
والقوة هنا ليست قوة جسدية- وحسب- بل هى قوة روحية ونفسية أيضا، تشتمل على طاقات عظيمة، من الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد.
والأوّاب: كثير الأوب، والأوب هو الرجوع إلى المكان الذي كان منه الذهاب.. فهو رجوع بعد ذهاب.. وقد غلب الأوب على المعنويات، كما غلب الإياب على الماديات.
والمراد بالرجوع هنا، الرجوع إلى اللّه، والاستقامة على طريقه، بعد ميل عنه.. فالأواب: هو الراجع إلى اللّه مرة بعد مرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [25: الإسراء].
والسؤال هنا هو:
لما ذا كان داود عليه السلام هو المثل الذي يقيمه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بين عينيه، وهو بشدّ عزمه بالصبر على ما يقول قومه من زور وبهتان فيه؟ وهل في داود- عليه السلام- فصل خاص في هذا المقام، لم يبلغه الأنبياء؟ إن القرآن يحدثنا عن إسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، على أنهم المثل البارز في الصبر الكامل.. فيصفهم سبحانه بالصبر، مجتمعين، فيقول سبحانه: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [85: الأنبياء] ويقول سبحانه عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ويقول سبحانه على لسان إسماعيل لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فما تأويل هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- هو من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالأمر الموجه من اللّه سبحانه، للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- بذكر داود عليه السلام، في مقام إلفات النبي إلى الصبر، وإلى إقامة أمره عليه- ليس المراد به التأسى بهذا النبي الكريم، وإنما المراد به الحذر من أن تطرقه حال من أحوال الضعف البشرى، فيقع منه ما وقع من داود، فيما كان موضع ندم منه، واستغفار لربه، وتوبة إليه.
إن داود- عليه السلام- كان مع ما وصفه اللّه سبحانه به من قوة وأيد- غير قادر على مواجهة الفتنة التي ابتلى بها مواجهة كاملة، فكان منه هذا الذي وقع منه، والذي استغفر له ربه، فغفر له.. فالنبى عليه الصلاة والسلام، مطالب بأن يكون على عزم وقوة، أشد وأقوى مما كان عليه داود، من عزم وقوة، لأنه في وجه فتنة أعظم وأشد من فتنة داود.
فالأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- هم بشر قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا.. والنبوة والرسالة، لم تنزع عنهم ثوب البشرية، وإن ألبستهم النبوة والرسالة حلل الصفاء، والنقاء، والطهر، ولكنها مع هذا، لم تسلبهم نوازع البشرية، وضروراتها.. وإلا لكانوا خلقا آخر غير خلق الناس، ولكانوا أبعد من أن يعيشوا في دنيا الناس، وأن يألفهم الناس ويألفوا الناس.
والأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- على هذا الحساب، ليسوا على درجة واحدة. وإن كانوا جميعا على قمة البشرية كلها، فهم درجات ومنازل عند اللّه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [253: البقرة].. ولو أنهم كانوا على الكمال المطلق، لكانوا درجة واحدة.. ولكنهم- على حدود الكمال البشرى- في أعلى منازله.. وهم في هذه الحدود، درجات ومنازل.
وثانيا: ليس هذا التأويل الذي ذهبنا إليه في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} من أنه ليس مرادا به التأسى به، وإنما المراد هو تخطّى هذا الحد الذي وقف عنده داود عليه السلام وتجاوزه، في مقام الصبر، والعزم- نقول ليس هذا التأويل بالذي ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإنما هو وضع له في المقام الكريم الذي وضعه اللّه فيه، وإن كان فوق هذا المقام مقامات ومقامات!!.
وهذا كلام قد لا يهضمه كثير من أهل العلم، أو أدعياء العلم.. ويعدّونه تطاولا على مقام الأنبياء، وعدوانا على عصمتهم.. ومن يدرى فقد يذهب ببعضهم الشطط إلى أن يقولوا إن هذا كفر!! ونقول لهؤلاء مهلا.. فإننا على الإيمان باللّه وبرسل اللّه، وعلى التوقير لهم، والصلاة والسلام عليهم.
ومع هذا، فإننا سنقول هذا القول، لأنه مما تنطق به آيات اللّه، وتجرى عليه سنة الحياة البشرية، وترضاه العقول السليمة، وتطمئن إليه القلوب المؤمنة.
ثم نسأل: إذا كان ما قلناه في تأويل الآية الكريمة، مما يعدّ تطاولا على مقام هذا النبي الكريم.. فماذا عند من ينكر هذا التأويل- من تأويل لقوله تعالى للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [48- 50: القلم].
ماذا في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ}؟ أليس في هذا إلفات للنبى الكريم، ألا يكون على حال من الصبر كحال هذا النبي الكريم، {يونس} عليه السلام؟ أليس هذا صريح منطوق الآية الكريمة؟ وهل هذا مما يضير يونس عليه السلام؟ وهل ينقص ذلك من قدره في موازين الناس؟
وكلا، فإنه وهو على تلك الحال كان بمنزلته العالية، وبمقامه الكريم عند ربه، الذي يقول سبحانه عنه: {فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وثالثا: لم يكن من محامل الآية الكريمة، وهى تحمل إلى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا التحذير الخفي من أن يكون على مستوى النبي الكريم داود في مقام الصبر- لم يكن من محاملها شيء يمس مقام هذا النبي الكريم، بل لقد حملت الآية الكريمة مع هذا ألطافا كثيرة من عند اللّه إلى عبده داود.
كلها تنويه به، ورفع لقدره، وإحسان بعد إحسان إليه، وكفى داود شرفا وفضلا أن يكون عبدا للّه، مضافا إلى ذاته جل وعلا.. ثم إن في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ} عدولا عن اللفظ الذي يدل على الاحتراس والحذر والتجنب، إلى اللفظ {اذكر} الذي لا يكون إلا في مقام الإحسان وتذكر النعم.. ثم جاء بعد هذا إضافة داود إلى اللّه سبحانه وتعالى، إضافة عبودية، الأمر الذي لا يناله إلا المخلصون الأصفياء من عباد اللّه.
ثم جاء بعد هذا وصفه بأنه {ذو الأيد} أي القوة والصبر على ما يبتلى به من ربه من منح أو منع.. ثم أنبع هذا الوصف بوصف آخر، وهو أنه {أواب} أي كثير الأوب والرجوع إلى اللّه، إذا هو شعر بأنه لم يؤد للّه ما يجب في مواقع الابتلاء، من شكر، أو صبر.
ثم يذكر بعد هذا ما ساق اللّه إليه من سوابغ رحمته المادية ولروحية معا، فيقول سبحانه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}.
فهذه وهى الجبال أبرز وجوه ما على الأرض من عوالم، تستجيب له، وتأنم به، وتسبّح للّه معه.. وهذه الطيور التي تبسط سلطانها في الجو، تحشر إليه- بقدرة اللّه- من كل صوب،. وكأنها بعض جنوده من البشر تسبّح اللّه معه، وتردد ما يسبح به.
ثم يقول سبحانه: {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ} أي أعطيناه ملكا، وثبتنا له قواعده، {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ} أي إلى جانب هذا الملك المتمكن، آتيناه نبوة، وعلما، تتكشف له بهما موارد الأمور ومصادرها، فيقيمها على ميزان العدل والإحسان.. ثم يقع لداود النبي- وهو قائم على سياسة هذا الملك الذي بين يديه- يقع له ابتلاء، فيهتز ميزان العدل في يده، ويجد لهذا نحسة في ضميره، فيرجع إلى اللّه تائبا مستغفرا، فيلقى من ربه قبولا ومغفرة، ويكسى حلل الرضا والإحسان، فيقول سبحانه: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} وهكذا يفعل اللّه لعباده المؤمنين.. يبتليهم، ثم يعافيهم، ليريهم مواقع رحمته بهم، وإحسانه إليهم، فيزدادون حمدا له، وقربا منه.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال