سورة آل عمران / الآية رقم 128 / تفسير تفسير الثعلبي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

آل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمرانآل عمران




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً}، وإنما خص الأولاد؛ لأنهم أقرب الأنساب إليه {وأولئك أَصْحَابُ النار}، إنما جعلهم من أصحابها؛ لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. يدل عليه قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا}، قال يمان: يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم؛ كعب وأصحابه.
مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}، قال ابن عباس: يعني السموم الحارة التي تقتل، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان: الصر ريح فيها صوت ونار.
سائر المفسرين: برد شديد.
{أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ}: زرع قوم {ظلموا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل {فَأَهْلَكَتْهُ}. ومعنى الآية: مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية ومنع حق الله.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية عن أبي أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} قال: «هم الخوارج».
قال ابن عباس: كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ}: أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم. والبطانة: مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث، قال الشاعر:
أُولئك خلصاني نعم وبطانتي *** وهم عيبتي من دون كلّ قريب
وإنّما ما قيل لخليل الرجل: بطانة؛ تشبيهاً لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه. ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ماهم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد. يقال: ما ألوته خيراً أو شراً أي ما قصرت في فعل ذلك.
ومنه قول ابن مسعود في عثمان:
ولم تألُ عن خير لأُخرى باديهْ ***
وقال امرؤ القيس:
وما المرء مادامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
أي مقصّر في الطلب.
الخبال: الشر والفساد، قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] ونصب {خَبَالاً} على المفعول الثاني؛ لأن الإلوَ تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت: المصدر، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما يقال أوجعته ضرباً أي بالضرب {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. {قَدْ بَدَتِ البغضآء} قراءة العامة بالتاء؛ لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة {أَفْوَاهِهِمْ} بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل: هو مثل قوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30]. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} من العداوة والخيانة {أَكْبَرُ} أعظم، قد بينا {لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} عن الأزهر بن راشد قال: كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم، فحدثهم ذات يوم وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً».
فأتو الحسن فأخبروه بذلك، فقال: إنّما قوله: «لا تنقشو في خواتيكم عربياً»، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمداً. وأما قوله: «لا تستضيئوا بنور المشركين»، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أُموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية.
وقال عياض الأشعري: وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فقال: إن عندنا كاتباً حافظاً نصرانياً من حاله كذا وكذا. فقال: مالك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية، وقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} [المائدة: 51]؟ هلا اتخذت حنيفيّاً قال: قلت: له دينه ولي ديني، ولي كتابته، لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أُدنيهم إذ قصاهم الله.
{هَآأَنْتُمْ أولاء}، تنبيه، و{أَنْتُمْ} كناية للمخاطبين من الذكور، {أولاء} اسم الجمع المشار إليه {تُحِبُّونَهُمْ} خبر عنهم. ومعنى الآية: أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} هم؛ لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل: معنى {تُحِبُّونَهُمْ} تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} هم؛ لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم. قتادة: في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه.
{وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ} وكان بعضهم مع بعض {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل} يعني أطراف الأصابع واحدتها أنمَلة وأنمُلة، بضم الميم وفتحها {مِنَ الغيظ} والحنق؛ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ، قال الشاعر:
إذا رأوني أطال الله غيظهم *** عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال أبو طالب:
وقد صالحوا قوماً علينا أشحّة *** يعضّون غيضاً خلفنا بالأنامل
قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}، إن قيل: كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون؟
فالجواب: أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة.
وقال محمد بن جرير: خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمداً ممّا بهم من الغيظ، قل يا محمد: اهلكوا بغيظكم: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم. يعني صاحب هوىً، ولقد دخلوا في هذه الآية: {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} الآية.
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني: إن تصبكم أيها المؤمنون {حَسَنَةٌ} بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم {تَسُؤْهُمْ}: تحزنهم {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} مساءة بإخفاق سريّة لكم، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم، أو حدث ونكبة {يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} وتخافوا ربّكم {لاَ يَضُرُّكُمْ} لا ينقصكم {كَيْدُهُمْ} شيئاً.
واختلفت القراءة فيه؛ فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: {لاَ يَضِرُّكُمْ} بكسر الضاد وراء خفيفة واختاره أبو حاتم، يقال: ضار يضير ضيراً مثل باع يبيع بيعاً، ودليله في القرآن: {لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 5]. وهو جزم على جواب الجزاء.
وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من (ضار يضور)، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني. وقرأ الباقون: بضم (الضاد، والراء) مشددة، واختاره. وهو من (ضرّ يضرّ ضراً)، مثل (ردّ يرد ردّاً). وفي رائه وجهان:
أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله لا يضررْكم فأُدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأُولى إلى الضاد وضُمت الراء الأخيره إتباعاً لأقرب الحركات إليها وهي الضاد؛ طلباً للمشاكلة كقولهم: مرّ يا هذا.
والوجه الثاني: أن يكون {لا} بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه، تقديره: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطري لا إخالك راضيا
{إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قرأ الأعمش والحسن: بالتاء. الباقون بالياء {مُحِيطٌ} عالم.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية نظم الآية: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم ببدر وأنتم أذلة، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا، فاذكروا ذلك اليومَ أو غداً بينكم {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}؛ فقال الحسن: هو يوم بدر. وقال مقاتل: هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين: هو أُحد، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وهذا إنما كان يوم أُحد.
قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال: «تأخر».
وذلك أن المشركين نزلوا بأُحد على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي.
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال: «بما؟». فقال: بأني أشهد أن لا اله إلاّ الله، وأني لا أفر من الزحف، قال: «صدقت». فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتل في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت.
فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لنبي أن يلبس لامته أن يضعها حتى يقاتل».
وكان قد أقام المشركون بأُحد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم الجمعة بعدما صلّى بأصحابه الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أُحد ما كان، فذلك قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المؤمنين}، قرأ يحيى بن رئاب: {تبوي} المؤمنين خفيفة غير مهموزة من أبوى يبوي مثل أروى يروي. وقرأ الباقون: مهموزة مشددة يقال: بوأت تبوئة، وأبويتهم إبواء، إذا أوطنتهم، وتبوّأوا إذا تواطنوا، قال الله تعالى {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس: 87]، وقال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9].
والتشديد أفصح وأشهر، وتصديقه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، وقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58].
وقرأ ابن مسعود: تبْوِئ للمؤمنين.
{مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}، أي مواطن وأماكن، قال الله تعالى {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55]، وقال: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9]. وقرأ أشهب: {مقاعد للقتال}. {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}: تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو أُسامة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل: تسعمائة وتسعين رجلا، وقال الزجاج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا} ناصرهما وحافظهما. وقرأ ابن مسعود: {والله وليهم} لأنّ الطائفتين جمع، كقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وقال جابر بن عبد الله: ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} قال الشعبي: كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي: ذكرت قول الشعبي لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه قط أحد غيرنا، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفارة.
التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون بها، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة.
وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وجيزاً مجملاً؛ فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق.
ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستّ وعشرون غزوة، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأُولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماءً لبني سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد، ثم غزوة نجران: موضع بالحجاز فوق الفرع، ثم غزوة أُحد ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قردة، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح: فتح مكة، ثم غزوة حنين لقي فيها، ثم غزوة الطائف حاصر فيها، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وأُحد في شوال سنة ثلاث، والخندق، وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.
ذكر سراياه صلى الله عليه وسلم:
روي عن مقسم قال: كانت السرايا ستّاً وثلاثين، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفايض وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيعَ لقوا فيها، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلبِ ليث الكديدَ لقوا فيها الملوح، وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أُصيب بها هو وأصحابه جميعاً، وغزوة عكاشة بن محصن العمرة، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك، وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى حيان بلد من أرض خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم، وغزوة زيد أيضاً جذام من أرض حسمي لقوا فيها، وغزوة زيد أيضاً إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوة زيد أيضاً وادي القرى لقي بني فزارة، وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها بشراً اليهودي، وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أُحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغزوه فقتله، وغزوة الأُمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأُصيبوا بها، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأُصيب بها هو وأصحابه جميعاً، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفاً لهم من جهينة، قتله أُسامة بن زيد، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة فيه: «من لك؟ من لك لا اله إلاّ الله؟».
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بُلَي وعذرة وغزوة، أبي قتادة وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}: جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة. وأراد هاهنا قلّة العدد، {فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} واختلفوا في هذه الآية: فقال قتادة: [...] يوم بدر أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. يدل عليه قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} [الأنفال: 9]، الآية، وقوله: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} إلى قوله: {مُسَوِّمِينَ}، فصبر المؤمنون يوم بدر، واتّقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. وقال عمر بن أبي إسحاق: لما كان يوم أُحد انجلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي سعد بن مالك يرمي، وفتىً شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال: ارمِ أبا إسحاق، ارمِ أبا اسحاق كرتين فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف.
وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} إلى قوله: {مُسَوِّمِينَ}، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضاً بخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف.
وقال آخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلاّ في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة. قال عبد الله بن أوفى: كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام فقال: «يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟». فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئاً حتى أتينا بني قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح الله لنا فتحاً يسيراً وانقلبنا بنعمة الله وفضل.
وقال قوم: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا، فلم يصبروا؛ فلم يُمدوا ولا بملك واحد ولو أُمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أُحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه؛ وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة، فبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأُناجزنهم».
قال علي رضي الله عنه: «فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في ذلك {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ}» يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة. وفي قراءة أُبي {ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم}، أي يعطيكم ويعينكم.
قال المفضل: كل ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمده يمده إمداداً، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل: مدّه يمدّه مدّا، ومنه قوله: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} [لقمان: 27].
وقال بعضهم: المد في الشر، والإمداد في الخير. يدل عليه قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79].
وقال في الخير {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال: 9] وقال: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف}. وقال: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6].
وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]. وقال: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22]، وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}، [نوح: 12] {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} [الأنفال: 9] {مُنزَلِينَ}. قرأ أبو حيوة: بكسر الزاي، مخفّفاً، يعني منزلين النصر. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير. وتصديقه قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111].
وقوله: {مُسَوِّمِينَ}. وقرأ الآخرون: بفتح الزاي خفيفة. ودليله قوله: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وقوله: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]. وتفسير الإنزال: جعل الشيء من علو إلى سفل، ثم قال: {بَلَى} وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِن تَصْبِرُواْ} لعدوّكم {وَتَتَّقُواْ} معصية ربكم.
{وَيَأْتُوكُمْ} من المشركين، {مِّن فَوْرِهِمْ هذا} [آل عمران: 125] قال عكرمة والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد: من وجههم هذا، وهو رواية عطية عن ابن عباس. مجاهد والضّحاك وزاذان: من غضبهم هذا، وكانوا قد غضبوا يوم أُحد ليوم بدر ممّا لقوا، وأصل الفور: القصد إلى الشيء والأخذ فيه بحدّه، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فوراً وفوراناً إذا غلت {وَفَارَ التنور} [هود: 40]، قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فيديمها *** ويفثأُها عنا إذا حَمْيَها غلا
{بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: بكسر الواو، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو عبيد، فمن كسر الواو أراد أنّهم سوّموا خيلهم، ومن فتح أراد به أنفسهم، والسّومة: العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه في الحرب، واختلفوا في هذه السّمة الموصوفة بها الملائكة في هذه الآية ما هي، فقال عمير بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر: «تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم» الضحاك وقتادة: بالعهْن في نواصيها وأذنها. مجاهد: كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها معلّمة، الربيع: كانوا على خيل بلق، عليّ وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، هشام بن عروة الكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم.
وقال عبد الله بن الزبير: إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر.
وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّاً قال: لو كان بصري فرّج عنه، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وقال عكرمة: كانت عليهم سيماء القتال، السديّ: سيماء المؤمنين.
{وَمَا جَعَلَهُ الله} يعني: هذا الوعد والمدد {إِلاَّ بشرى} لتستبشروا به. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} ولتسكن قلوبكم إليه، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم.
{وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لأن العزّ والحكم له وهو: {العزيز الحكيم} نظيرها في الأنفال، ثم قال: واستعينوا بالله وتوكلوا عليه {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}. نظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً، أي: ليهلك طائفة {مِّنَ الذين كفروا} نظيره قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} [الأنعام: 45] أي: أهلك، وفي الأنفال: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} [الآية: 7]، وفي الحجر: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الآية: 66]، السديّ: معناه ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين، وأُسر منهم سبعين.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} بالخيبة {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} لم ينالوا شيئاً ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم. وقال الكلبي: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}: أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم. المؤرّخ: يخزيهم. النضر بن شميل: يغيظهم، المبرّد: يظفر عليهم، السديّ: يلعنهم، أبو عبيدة: يهلكهم، قالوا: وأهل النظر يرون التاء منقلبة عن الدال، لأن الأصل فيه يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، ويقول العرب للعدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم *** هم الأعداء والأكبادسود
كأنّ الأكباد لمّا أحترقت بشدّة العداوة أسودّت، والتاء والدال يتعاقبان، كما يقال: هرت الثوب وهرده، إذا خرقه، يدل على صحة هذا التأويل قراءة لاحق بن حميد: أو يكبدهم، بالدّال.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود:




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال