سورة محمد / الآية رقم 13 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مَثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْراطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ

محمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمد




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها}.
هو تهديد ووعيد للمشركين الذين كذبوا رسول اللّه، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان باللّه وحده، والإيمان باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء.
وقد حمل هذا الوعيد إلى المشركين في هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن النظر فيما حولهم، وفيما أصاب المكذبين برسل اللّه قبلهم، من عذاب ونكال.. لقد دمر اللّه على هؤلاء المكذبين، وأنى بنيانهم من القواعد، وأن للكافرين عند اللّه أمثال هذا التدمير.
وفى قوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء {على} إشارة إلى أن هذا التدمير، قد وقع عليهم من جهة عالية، متمكنة، منهم، بحيث يكونون تحت رمياتها التي لا تخطىء الهدف أبدا.
وفى قوله تعالى: {وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} بجمع أمثال، بدلا من قوله- مثلها- إشارة إلى أن ما يرمى به الكافرون من مهلكات، ليس على صورة واحدة، بل إن لكل أمة، ولكل جماعة لونا من ألوان الهلاك.. كما يقول اللّه تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} [40: العنكبوت].
فهى ألوان من الهلاك، مختلفة الأشكال، وإن كانت متفقة في الآثار.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ}.
فى الآية إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يصيبهم شيء من هذا البلاء المسلط على الكافرين.. وذلك بسبب {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم.. أما الذين كفروا فلا ناصر لهم ولا معين يعينهم.
فإنه لا يملك النفع والضر إلا اللّه سبحانه وتعالى، وقد لاذ المؤمنون بحمى اللّه، فلم يصل إليهم ضر، ولم يصبهم مكروه، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون اللّه، فلم تغن عنهم آلهتهم من اللّه من شىء.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
ومن آثار ولاية اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. فهم في الدنيا، في أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي يأتى على كل شىء.. وهم في الآخرة، ينعمون في جنات تجرى من تحتها الأنهار.
وفى قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} إشارة إلى أن الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان، وتصديق بالقلب، فهذا إيمان لا ثمرة له، وإنما تظهر ثمرة الإيمان، فيما يكون عليه سلوك المؤمن، وما تكسب جوارحه.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
كان مقتضى السياق أن يكون نظم الآية هكذا مثلا.. والذين كفروا لهم عذاب جهنم.
ولكن النظم القرآنى، المعجز، يضع الأمر موضعه، فيصل حياة الكافرين في الدنيا، بحياتهم في الآخرة.. إنهم على طريق واحد في دنياهم وأخراهم جميعا.
فهم في الدنيا، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم في الآخرة يلقون في عذاب جهنم.
والناظر المدقق في الحالين يرى أنهما على سواء، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا في عينى من لا بصيرة له.
فالإنسان ليس جسدا حيوانيا، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم، وإنما الإنسان إنسان، لأن له روحا يهفو إلى الملأ الأعلى، ويتشوف إلى مطالع النور منه، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها الإنسان له، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى، آخذة طريقها إليه.. وإلا انقطعت تلك الأسباب، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا، لا شيء من معالم الإنسانية فيه.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان.. إذ أنه يعيش في الناس حيوانا ممسوخا في جسد إنسان، أو إنسانا مردودا في طبائع الحيوان.
وفى قوله تعالى: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ} إشارة إلى أن ما يتمتع به الكافرون من متع في اتصال الرجال بالنساء، هو عند الكافرين متعة حيوانية، يستجيبون فيها لغريزة الحيوان لحفظ النوع.. على حين أن المؤمنين يجدون في قضاء هذه المتعة شيئا أكثر من حفظ النوع.. إنهم يرونها نعمة من نعم اللّه، كما يرون فيها بعض قدرة اللّه في خلق الإنسان، وتطوره في هذا الخلق، من ماء دافق، إلى إنسان رشيد عاقل.
فقوله تعالى: {يَتَمَتَّعُونَ} أي يتناكحون، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه.
فمتعتهم الجنسية متعة حيوانية، لإشباع حاجة الجسد، وحفظ النوع.
وأكلهم أكل حيوانى، لإشباع البطون، وحفظ الحياة.
وتبدو لنا من الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة، لأولئك الذين يعيشون في هذه الدنيا على ذلك الزاد الطيب من المعاني الكريمة، والمثل الرفيعة، والمبادئ القويمة، وإن فاتهم كل شيء من ماديات الحياة ومتاعها.
إنهم في نعيم يملأ حياتهم المقفرة من متاع الدنيا، بألوان من البهجة والمسرة، لا يجد أحد مثلها إلا في الجنة التي وعد اللّه المتقين من عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} [26: الرعد] قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ}.
هو تهديد للمشركين من قريش، الذين آذوا النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وآذوا أهله وأصحابه، حتى اضطر- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الهجرة من بلده، وأهله، والبيت الحرام الذي تعلّق به قلبه.
فكثير من القرى، كانت أشد قوة من هذه القرية- مكة- أهلكها اللّه ودمّرها على أهلها، ولم يكن لهم من ناصر ينصرهم من بأس اللّه إذ جاءهم.
وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة التي أهلكها اللّه، فهل إذا أراد اللّه هلاك أهلها- أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم اللّه سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟.
وفى إضافة القرية إلى النبىّ، إشارة إلى أنها قريته، وهو صاحبها، وأولى الناس بها، وإن أخرج منها.. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب جاءها الغيث، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول، الذي يوجه النبىّ والمؤمنون معه، وجوههم إلى البيت الحرام فيه.. وفى الآية إشارة إلى أن هذه القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين، ففى إضافتها إلى النبىّ الكريم، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة، إنها قرية النبىّ، وستظل قريته إلى يوم الدين.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ}.
المراد بالاستفهام هنا، النفي، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه، وعلى هدى منه، ومعرفة به- لا يستوى من كان هذا شأنه، ومن زين له سوء عمله، فرأى القبيح حسنا، والشر خيرا، والهدى ضلالا.. إنه لشتان بين هذا، وذاك.. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [9: الزمر].
{أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟} [35- 36: القلم].
وفى إفراد {فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إشارات:
أولها: أن الذي يكون على بينة من ربه، وعلى هدى منه، إنما هو إنسان استقلّ بنظره، وأحقكم إلى عقله، ولم يكن منقادا لهوى غيره، أو منساقا وراء هوى نفسه.
وثانيها: أن المؤمنين- وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة- كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي المتحرر من التبعية الاعتقادية- هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه.. فكل مؤمن يرى وجوده ووجهه في هذا المؤمن.
وثالثها: أن المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا.
وفى إفراد {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وجمع {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} في هذا أكثر من إشارة كذلك.
فأولا: إفراد الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول، يشير إلى أن هذا التزيين، وإن كان يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر، وتغريه به، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} [25: فصلت].
هذا التزيين وإن كان يرد على الإنسان من خارج- فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية، ولا يعفيه من الحساب والجزاء، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} [21: الطور] ويقول سبحانه:
{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
وثانيا: في جمع {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} إشارة إلى أهل الضلال والفساد، يغرى بعضهم بعضا، ويغوى بعضهم بعضا، وإذا هم جميعا يتبادلون أهواءهم بينهم، فكل منهم يأخذ بهوى الآخرين.. وهذا هو المصدر الذي يجىء منه التزيين، كما يقول سبحانه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}.
(112: الأنعام).
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ}.
هذا تعقيب على الآية السابقة: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟}.
ففى قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..} الآية- في هذا، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية السابقة.. وقد جاء هذا الجواب في صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب، ولكن جواب هذا السؤال قريب واضح، يكاد يمسك باليد.
فما هى إلا نظرة يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم، وإلى أهل النار، وما يساق إليهم من عذاب، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. من كان على بينة من ربه، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. ومن هنا كان من المناسب، ذكر الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}.
هو استفهام يردّ به على الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}.
والتقدير: كلا.. ليس من كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله، وكيف يكونان متماثلين؟ أمثل الجنة التي وعد المتقون، ينعمون فيها بما يشاءون كمثل النار التي يلقى فيها المجرمون، يطعمون من جمرها، ويشربون من لهيبها؟
ويلاحظ في الآية الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، لم يكن متطابقا، فقد جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا: مثل الجنة التي وعد المتقون.. كمن هو خالد في النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق، لجاء النظم هكذا: أمثل الجنّة التي وعد المتقون.. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا: أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها.. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على جمرها؟
فما وجه هذا؟ وما سرّه؟
الجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المهمّ في بلاغة المقابلة بين الأمور- لكى تتضح وجوه الخلاف بينها، ومن ثمّ تتضح سمة كل مقابل في وجه مقابله- ليس المهم في بلاغة المقابلة هنا، هو التطابق بين الصورتين، الموجبة والسالبة، كما في العمل الفتوغرافى.
وإنما الصميم من البلاغة، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي، أو السطح الظاهري للأشياء.. بحيث يبلغ أعماقها، وينفذ إلى جوهرها.
وثانيا: هنا في هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار- نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه.
ففى صورة النعيم، نرى جنّة! وهذه الجنة موصوفة بصفتين:
أولاهما: أنها للمتقين الذين وعدهم اللّه إياها.
وثانيهما: أن فيها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه، وأنهارا من خمر لذّة للشاربين، وأنهارا من عسل مصفّى، كما أن فيها ما يشتهى أهلها من الثمرات.
فاللون الغالب البارز في هذه الصورة، هو لون الجنة.. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من الجنة ذاتها.
وهذا يعنى- في مقام الإحسان- المبالغة في إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من اللّه سبحانه، الموعودين بالنعيم في جناته.. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف، يكون مقدار منزلته عند مضيفه.
وفى صورة الإعداد لاستقبال الضيف- أي ضيف- يعرف- من لم يكن يعرف- قدر هذا الضيف ومنزلته، وإن لم يعرف من يكون، وما الجهة التي يجىء منها.
وفى الصورة المقابلة لصورة النعيم.. ما ذا نرى؟
نرى اللون الغالب فيها، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها، هو أصحاب النار، وما يلقون فيها من عذاب ونكال.
فهناك أناس خالدون في النار، مقيمون إقامة دائمة فيها، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء.. هذا هو كل ما في الصورة! ولكن كلمة النار، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة، تتراقص عليها واردات جهنم كلها، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال.. ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم.
ومن جهة أخرى، فإن إبراز أصحاب النار في النار، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها- إشارة إلى أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار، بل إنهم الشاهد المبين عنها وعن أفعالها وآثارها.. إنهم حطب جهنم.
فهم إذن هذا اللهب المتسعّر منها، وأنه لو لا هذا الخطب لما كانت هذه النار.. وهل نار بغير وقود؟
فإذا نظرنا إلى الصورتين: صورة النعيم، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه، وجدنا الجنة وأهلها، والنار وأصحابها، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين، وذلك بما يجريه العقل من عمليات منطقية، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما.
فإذا كانت هنا جنة، فليكن هناك نار.
وإذا كان في النار أهلها وما يكابدون من عذابها، فليكن في الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها.
وهكذا تتبادل الصورتان، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى.
من الصفات أو الذوات.
قوله تعالى: {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} هو من صفات هذه الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
فإذا كان في جنات الدنيا، جداول تجرى، أو أنهار تتدفق.. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات في الدنيا.
ففى الجنة التي وعد المتقون: {أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، أي غير متغير الريح أو الطعم، فهو ماء جار، صاف، طهور.. عذب فرات.
وفى هذه الجنة {أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي لبن كأنما حلب لساعته، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن من حال إلى حال، أو أحوال، أخرى.
وفى تلك الجنة {أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، أي بلذّ طعمها للشاربين.
فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول اللّه تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ} [47: الصافات].
وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به.
إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال