سورة محمد / الآية رقم 21 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ

محمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمدمحمد




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}.
هذه لفتة من القرآن الكريم إلى مواقع المسلمين، ونظرة ينظر بها إلى مجتمعهم الذي أصبح يضم كثيرا من الجماعات.
لقد كان القرآن الكريم منذ يوم نزل على النبي، وهو في مواجهة دائمة للمشركين، يدعوهم إليه، ويقيم لهم معالم الطريق إلى اللّه، ويفنّد أباطيلهم، ويفضح سفههم.
وقد قطعت الرسالة الإسلامية إلى يوم نزول هذه السورة- سورة محمد- (و هى مدنية)- شوطا بعيدا على الطريق إلى غايتها، ودخل كثير من الناس في دين اللّه، فكان من تدبير الحكيم العليم أن يلفت المسلمين إلى أنفسهم، وإلى أن يكتشفوا مواقع القوة والضعف منهم.. فهم ليسوا على حال واحدة من السلامة والعافية في دينهم، وإن من الخير لهم- وهم على الطريق- أن ينظروا إلى أنفسهم، وألا يشغلهم النظر الدائم إلى عدوهم، عن النظر إلى أنفسهم، فإنه من الغبن والظلم معا، أن يرعى الإنسان غيره ويهمل نفسه، ففى ذلك تضييع للراعى ولمن يرعاه جميعا.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} إشارة إلى تطلع أنظار المؤمنين، إلى آيات اللّه، وتعلق قلوبهم بما ينزل من وحي السماء.
فهم على شوق دائم بهذا النور الذي ينزل من السماء، فإذا أمسك الوحى عنهم قليلا، هفت قلوبهم إليه، وشاقهم الحنين له، وباتوا يتمنون على اللّه أن ينزّل عليهم سورة! {لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ}!! فلو لا هنا استفهام يراد به الرجاء والتمني.
هذا هو موقف المؤمنين من آيات اللّه.. يرصدون منازلها، ويشدّون قلوبهم وعقولهم إلى مطالعها، وينتظرون في لهف وشوق هطول غيوثها.
أما من في قلوبهم مرض من المؤمنين- فإن لهم مع آيات اللّه موقفا غير هذا الموقف، وشأنا غير هذا الشأن.
وقوله تعالى: {فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}.
إن مقام القول سهل ميسور، ومجال الكلام واسع فسيح.. وإن وضع القول على محكّ العمل، هو الذي يكشف عن معدنه، وما فيه من صدق أو كذب، وحق أو باطل، وصحيح أو زلف.
فهذه السورة التي كان يتمناها المؤمنون، قد نزلت إليهم، وهى سورة محكمة، أي محددة المعنى، محكمة المفهوم، لا مجال فيها لتأويل، أو تخريج.
إنها على مفهوم واحد لا اختلاف فيه.. ولكن هذه السورة المحكمة تحمل إلى المسلمين ابتلاء واختبارا.. إنها تدعوهم إلى الجهاد في سبيل اللّه، وإلى القتال والقتل في سبيل اللّه.
وهنا تختلف بالمؤمنين مواقفهم من هذه السورة المحكمة، التي تحمل دعوة إلى الجهاد في سبيل اللّه.
فأما المؤمنون الصادقون، الذين أخلصوا دينهم للّه، فهم يستبشرون بما تلقوا من آيات اللّه، إذ يتلقون الأمر الصادر إليهم منها بالرضا والقبول.
وأما الذين في قلوبهم مرض، فيأحذهم لهذا الأمر همّ ثقيل، إنهم يتمثلون في تلك الحالة النبي صلى اللّه عليه وسلّم، وهو على رأس المؤمنين، يقودهم إلى الجهاد في سبيل اللّه، فيتمثل لهم أنهم في هذا الجيش الذاهب إلى ميدان القتال، وتتمثل لهم مصارعهم هناك، فيغشاهم لذلك ما يغشى الميت ساعة احتضاره.
إن آيات التي اللّه تنزل من السماء ليست أناشيد تردد، ولا مزامير ترتّل، ولكنها رسول هداية، ودليل خير، وقائد يقود إلى العمل في مواقع الحق والخير، وداع يدعو إلى البدل، والتضحية والفداء.
وفى الآية الكريمة، إشارة كاشفة إلى أول عرض من أعراض النفاق، وأول سحابة تطلع في سماء المؤمن من سحبه.
فقد يكون المؤمن على درجة من الإيمان.. فهو يؤمن باللّه، وبكتاب اللّه وبرسول اللّه، وباليوم الآخر.. ولكن في مجال الامتحان، تضمر هذه المعاني في نفسه، وتخفّ موازينها في كيانه.. وهذا من شأنه- إن تمكن في قلب المؤمن- أن يذهب بإيمانه كلّه.. إن الإيمان ولاء مطلق.. في السّرّاء والضرّاء، في الرخاء والشدة.. أما الإيمان في حال الميسرة والرخاء، والجزع والتشكك، أو التردد فى، حال الشدة والبلاء- فذلك هو الطريق إلى النفاق والكفر.
وهذا أول مرض تكشف عنه الآية الكريمة في نظرتها الأولى إلى الجماعة الإسلامية.. إنها أرت المسلمين بعضا من أنفسهم، وإن بهم خللا ينبغى أن يعالجوه فيما بينهم، وأن يتلافوه قبل أن يستفحل ويعظم، وتتولد منه مواليد كثيرة من المنافقين، الذين يكونون حربا خفية على المسلمين.
وقوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} هو دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين عرفوا أن في قلوبهم مرضا، وذلك لما وجدوا في أنفسهم من ضيق وهمّ، حين استمعوا إلى آيات اللّه التي تنزلت على النبي، داعية إلى القتال- هو دعوة من اللّه سبحانه إلى هؤلاء المؤمنين، أن يغيروا ما بأنفسهم، وأن يصححوا إيمانهم باللّه، وأن يكونوا على ولاء مطلق للّه، فيسمعوا، ويطيعوا، على المكره والمنشط.. فذلك هو الذي يمسك عليهم إيمانهم باللّه، وفى هذا سلامة لهم، وصلاح لأمرهم في الدنيا والآخرة جميعا.
هذا، وقد جاءت الجملة الخبرية: {فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} جاءت وأحد جزميها (المبتدأ) في آية والجزء الآخر (الخبر) في آية أخرى.
فما سرّ هذا؟ أو ما بعض سره؟
يقول المفسرون، وعلماء البيان: إن ذلك لمراعاة الفاصلة القرآنية.
فقوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ} هو فاصلة الآية، لتتسق مع فواصل الآيات في هذه السورة، وهى تعتمد على اللام، والهاء، الميم: {لَهُمْ} أو الهاء والميم:
{هم} أو الميم الساكنة وحدها.. مثل {أَعْمالَهُمْ}.
{بالَهُمْ}.
{أَمْثالَهُمْ}.
.. ومثل: {تَقْواهُمْ}.
{ذِكْراهُمْ} ومثل {مَثْواكُمْ}.
وهذا قول لا يستقيم مع إعجاز القرآن، ومع أوضح وجه من وجوه إعجازه، وهو النظم.
فهذا النظم، لكى يكون معجزا، ينبغى أن يعلو على حكم الضرورات، التي تتحكم في أعمال البشر.
والقول بأن الوقوف بالآية عند قوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ} كان لرعاية الفاصلة- هو قول بإخضاع القرآن لحكم الضرورة، وعجزه عن أن يخرج من قيدها.
إنه لا بد أن يكون لهذا سر، بل وأسرار، ليس منها هذا الذي يقال، عن الفاصلة ورعايتها.
فما السر؟ وما بعض السر؟
نقول- واللّه أعلم-: إن هذا الفصل بين المبتدأ والخبر، مقصور قصدا من القرآن الكريم، وأنه بغير هذا الفصل لا يتحقق المعنى كاملا كما قصد إليه القرآن.
فاللّه سبحانه وتعالى، يلفت المؤمنين الذين في قلوبهم مرض، إلى هذا المرض الذي اندس في قلوبهم، ولا يكادون يعرفون أنهم مصابون به.
ولكن بعد أن نزلت السورة المحكمة التي تحمل أمرا محكما بالقتال- عرف الذين في قلوبهم مرض، أن في قلوبهم مرضا، لما عراهم من تلك الأوصاف التي وصفت بها الآية، من كان في قلوبهم مرض.. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}.
وفى قوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ} دعوة إلى هؤلاء المؤمنين الذين في قلوبهم مرض- دعوة لهم إلى ما هو أولى وأوفق بهم أن يفعلوه في هذا الموقف.. فإن كلمة {فَأَوْلى لَهُمْ}، تعنى أن هناك انحرافا لا يصحّ للإنسان أن يظل فيه، وأن هناك ما هو أولى به، وأحق من هذا الموقف.
وهذا يعنى:
أولا: أنهم على غير الطريق السوىّ، الذي ينبغى أن يكون عليه المؤمن.
وأنه من الخير لهم أن يعيّروا من وضعهم هذا الذي هم فيه.
وثانيا: أنهم- وهم مؤمنون- مطلوب منهم أن يكشفوا عن الآفات التي تعرض لهم، وتحاول أن تفسد عليهم إيمانهم، لأنهم أولى الناس وأجدرهم بأن يكونوا على الصحة والسلامة.. إنهم مؤمنون باللّه، وإن المؤمن ليبلغ به إيمانه أقصى درجات الكمال البشرىّ، إذا هو كان على نية مخلصة، صادقة، وعلى وعى وإدراك للحقائق الدينية التي آمن بها.
وهنا سؤال:
أين خبر المبتدأ: {فأولى لهم}؟
هذا ما أراد النظم القرآنى أن يكون مثار بحث وتفكير.. حتى إذا أخذ العقل طريقه للبحث عن هذا الخبر، ثم اهتدى إليه، أو هدى إليه- كان له في النفس موقعه الذي يحقق له وجودا ذاتيا متمكنا، في إدراك الإنسان وشعوره.
ومرة أخرى.. أين خبر المبتدأ؟
إن كلمة {فَأَوْلى لَهُمْ} تشير إلى أن المخاطبين بهذا في وضع غير صحيح مع إيمانهم.
وأنه من الأولى لهم أن يتحولوا عما هم عليه، وأن يتبدّلوا بحالهم حالا أحسن، وأجمل.
فما هى تلك الحال؟
قد تكون التوبة إلى اللّه، والاستغفار لما كان منهم من استقبال سيى لآيات اللّه المحكمات.
وقد تكون بالعمل الفورىّ، بطلب الجهاد في سبيل اللّه، والغزو في أي وجه يوجههم إليه الرسول.
وقد تكون، وتكون.. مما يراه المؤمن مصححا لإيمانه، بعد أن كشفت الآية عن ضعف هذا الإيمان.. وذلك على نحو ما في قوله: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} [34، 35: القيامة].
حيث جاء المبتدأ ولا خبر له! فهذه الحال التي يرى المؤمن التحول إليها ليصحح إيمانه- هذه الحال هى خبر المبتدأ.. أي فأولى لهم أن يرجعوا إلى اللّه، أو فأولى لهم أن يتلقّوا آيات اللّه سبحانه بالحفاوة والتكريم والولاء.
أما قوله تعالى: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}.
فهو الدواء الذي تقدّمه السماء لأولئك المؤمنين، الذين يريدون أن يصححوا إيمانهم.. وهو خبر المبتدأ، الذي طلع من أفق جديد، في سماء آية جديدة.. فإذا التقى به المؤمن بعد هذا ترك جميع الخواطر التي طرفته، وجاء إلى هذا الدواء السماوي الذي حملته الآية الكريمة، ليكون الخبر الذي طال البحث عنه.
إن الخبر الصحيح للمبتدأ هو: {طاعة وقول معروف}.
وهو الذي يجمع في كيانه كل ما وقع في خاطر الإنسان، وهو يبحث عن الطريق التي يقيم عليها إيمانه، ويسلك به المسلك الذي هو الذي هو أولى بالمؤمن..!
فالطاعة المطلقة، والولاء الخالص، والتسليم الكامل، هى الإيمان في صميمه.. وإنه لا إيمان في شىء، أو بشىء، إلا إذا سكن هذا الشيء في ضمير الإنسان واستقر في وجدانه، وخالط مشاعره، وملأ عليه وجوده.. ومن هنا يكون الولاء والتسليم، والطاعة.
ومن هنا أيضا، كان من أول مبادئ الإسلام التي قامت عليها دعوته، هو أنه: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}.
إذ لا يتفق الولاء والتسليم والطاعة مع الإكراه.
ونودّ أن تنظر بنفسك في وجه الآية الكريمة على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه.
فلعلك ترى هذا الذي رأيناه، أو يفتح اللّه سبحانه وتعالى لك أبوابا من المعرفة تطّلع منها على ما لا حصر له من الأسرار.
{فَأَوْلى لَهُمْ.. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}.
إننا نرى- واللّه أعلم- أن الوقوف على فاصلة الآية، هو وقوف محمود، إن لم يكن لازما!!. فهات رأيك، أو خذ بما رأينا! قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ}.
هو تعقيب شارح لقوله تعالى: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}.
أي أن الأولى بالمؤمنين، هو الطاعة المطلقة، لما تدعو إليه آيات اللّه، وهو القول المعروف، أي الحسن الذي يلقى المؤمنون به ما يتنزل عليه من تلك الآيات- فهذا عمل باللسان.. يكشف به ليؤمن عن ظاهره.. فإذا جاء وقت الابتلاء والاختبار، استكمل المؤمن إيمانه، بأن يجعل هذا الكلام الذي نطق به اللسان، وكشف به عن ظاهر حسن له- أن يجعل هذا الكلام عملا واقعا، وأن يصدّق فعله قوله.. فإن قولا لا يصدّقه الفعل، هو باب من أبواب النفاق.
فقوله تعالى: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي إذا جاء وقت الابتلاء، وهو الجهاد، الذي أمر اللّه به المؤمنين، أصبح هذا الأمر عزيمة لا يجوز للمؤمن أن يترخّص فيها، أو ينكل عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أي فإذا جاء أوان الجهاد نكشفت على محكّه حقيقة الإيمان، وظهر الصادقون والكاذبون، فلو أن هؤلاء المؤمنين صدقوا اللّه فيما أعطوا من إقرار بالإيمان به، وجاهدوا في سبيله- لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.
فالفاء في قوله تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} هى للتفريع، والتعقيب على كلام محذوف، هو جواب {إذا} في قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ}، أي فإذا عزم الأمر انكشفت أحوال المؤمنين وأقوالهم، وظهر الصادق والكاذب.
فلو صدق هؤلاء المتخلّفون، أو الذين تحدّثهم أنفسهم بالتخلف- لو صدقوا اللّه وجاهدوا، لكان خيرا لهم.
ويلاحظ في نظم الآية الكريمة، أنها لم تأخذ الخط الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقات بين الكلمات، والترابط بين أجزاء العبارات والجمل.. كما رأينا ذلك في الفصل بين المبتدأ والخبر في قوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} وكما رأيناه في هذا التدافع بين أداتي الشرط:
إذا، ولو.
وقد كشفنا عن بعض السر في هذا، وما يحمل هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة من معان لا يمكن أن يستقلّ بها نظم آخر، على أي وجه كان من وجوه النظم، غير هذا النظم القرآنى.
ولكن الذي نريد أن نشير إليه بتلك الملاحظة، هو أن هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة- بصرف النظر عن المعاني التي يحملها في فى كيانه- هذا النظم يمثل في صورته اللفظية، من تقطّع، وتوقّف، وتدافع، ما تكون عليه أحوال المؤمنين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم دخولا متمكمنا- من اضطراب، وخلخلة، وتردد، وتدافع بين مختلف العواطف، حين يدعى هؤلاء المؤمنون إلى الجهاد، وقد عزم الأمر، وجدّ الجد! فجاء النظم على صورة هذه المشاعر، يفرقها، ويجمعها، كما تتفرق وتجمع في هذا المقام!.
فسبحان من هذا كلامه.. سبحانه.. عدد كلماته.
قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}.
هو بيان للحال التي سينتهى إليها أمر هؤلاء المؤمنين، الذين في قلوبهم مرض، وهو أنهم إذا لم يستجيبوا لدعوة اللّه سبحانه وتعالى لهم، ولم يسمعوا ويطيعوا، ويجاهدوا في سبيل اللّه- فإن هذا سينتهى بهم إلى أخذ طريق غير طريق المؤمنين، ثم يمضى بهم هذا الطريق رويدا رويدا إلى الخروج عن الإيمان، إلى ما كانوا عليه من كفر.
وفى إسناد فعل الرجاء {عسى} إلى هذه الجماعة من المؤمنين، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه الرجاء، وهو الإفساد، وتقطيع الأرحام- وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم، بتولّيهم، وإعراضهم عن اللّه.. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وخان إنسانيته، حتى لقد أصبح ما يتمناه لنفسه، ويرجوه لها، هو هذا الشر الصّراح: الإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام!.
وما ذا يكون من شأن من لا يؤمن باللّه، ولا يرجو للّه وقارا؟.. أتراه يرى لإنسان حرمة، أو يؤدى لذى رحم حقّا؟ إنه إنسان ضال، سفيه الرأى، غليظ القلب، متلبد الإحساس.. فهل يكون منه غير الإفساد، في الأرض، وقطع كل سبب طيب يصل بينه وبين الناس، من قريب، أو بعيد.
واختصاص ذوى الأرحام بالذكر هنا- هو إشارة إلى أن هذا الذي تولّى وأعرض عن الإيمان باللّه، لا يرجى منه خير لإنسان، ولو كان فيه خير يرجى، لكان ذلك في أهله، ولما قطع صلة الرحم بينه وبينهم.
والمراد بالتولّى هنا- واللّه أعلم- هو الإعراض عن الاستجابة لدعوة اللّه والرسول إلى الجهاد.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ}.
هو حكم صادر على هؤلاء الذين دعوا إلى الايمان- قولا وعملا-
فأعرضوا، وتولّوا.. ثم مضوا على غير طريق الإيمان، فإذا هم في الكافرين.
فهؤلاء قد لعنهم اللّه، فأصابهم بالصمم والعمى، فلم يسمعوا كلمة خير، ولم يروا طريق هدى.
وانظر:
لقد كان هؤلاء المؤمنون في موقف خطاب من ربّ العزة جلّ وعلا في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ} كانوا هنا في موقف الخطاب، لأنهم كانوا في جماعة المؤمنين، وكانت الدعوة إليهم ليصححوا إيمانهم، وليأخذوا السبيل التي يأخذها المؤمنون الصادقون.
أمّا هنا، في قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} فإنهم الآن بعد حكم صدر عليهم- وهو أنهم يولّون وجوههم إلى طريق آخر غير طريق الإسلام- فقذف بهم بعيدا عن هذا الموطن الكريم الذي كانوا فيه بين المؤمنين، ثم أتبعوا بهذا الحكم الذي يأخذ طريقه معهم إلى حيث انتهى بهم المطاف: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ}.
قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}.
هو سؤال يتردد في صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا عنه، وضلوا سواء السبيل.. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين.
فكل من كان بمشهد منهم من المؤمنين، يسأل هذا السؤال: ما بال هؤلاء الأشقياء، قد ألقوا بأنفسهم في مواقع الهلاك، وقد كانت آيات اللّه بين أيديهم؟ أمع آيات اللّه يكون عمى وضلال؟ وكيف وهى صبح مشرق، ونور مبين؟.
أمران لا ثالث لهما، هما العلة التي جاء منها هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء المناكيد.. إما لأنهم لم يتدبروا القرآن، ولم يحسنوا الإصغاء إليه، والاتصال به، والأخذ عنه.. وإما لأنهم تدبروا وأصغوا، وحاولوا أن يتصلوا بالقرآن، ولكن كانت قلوبهم مغلقة، ومختوما عليها، فلا ينفذ إليها شعاع من هدى أبدا.
وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن الداء منهم، وفيهم.. وليس من آيات اللّه، ولا في آيات اللّه.. فما في آيات اللّه هدى، وحق ونور.
وهذا مثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [68: المؤمنون].
ولا يصحّ أن يكون الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} للتحضيض، يمعنى هلّا، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى منه إتيان ما يحضّ عليه، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن اللّه قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟
وفى قوله تعالى: {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} جاء النظم على خلاف الظاهر، وهو أن يجىء هكذا مثلا: أم على قلوبهم أقفال.. وبذلك يتحقق إضافة هذه القلوب إلى أهلها، ونسبتها إلى أصحابها، هؤلاء الذين لم يتدبروا القرآن.. فما سرّ هذا النظم القرآنى؟
نقول- واللّه أعلم-: إن من بعض أسرار هذا النظم:
أولا: فصل هذه القلوب عن أصحابها، وذلك يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا، فتقوم مقام أصحابها، وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان، فإذا أفسد القلب فسد الإنسان، وإذا صلح القلب، صلح الإنسان.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه، في قوله: «ألا وإن في الجسد مضغة وإذا صالحات صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» وثانيا: تنكير هذه القلوب، وفى هذا التنكير، إشارة إلى أنها قلوب فاسدة، لا يقام لها وزن بين القلوب السليمة، فهى- والحال كذلك- قلوب- مجرد قلوب- في صورتها اللحمية، أما في حقيقتها، فهى هواء، وهباء! وثالثا: في إضافة الأقفال إلى القلوب {أَقْفالُها} إشارة أخرى إلى أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها، مقدرة بقدرها.. فلكل قلب قفله الذي يلائمه.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ} سوّل لهم: أي زين لهم الضلال، وأصله من السّؤل، وهو ما يسأل الإنسان غيره لتحقيقه، {قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى}.
وسوّل لهم الشيطان: أجاب سؤلهم بالخداع والتضليل.. وأملى لهم: أي مدّلهم في حبال الأمل والرجاء فيما يمنّيهم به.
والآية ترجم أولئك الذين كانوا قد دخلوا في الإيمان، ثم لم يحتملوا تبعاته، فعادوا إلى الكفر. ترجمهم الآية بهذه الرجوم والصواعق، التي تصبّ عليهم لعنة اللّه، وتجمع بينهم وبين الشيطان على مودة وإخاء!! وفى ارتدادهم على الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام، وأنهم إذ يولّون وجوههم إلى المسلمين، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا، على أدبارهم، على حين أنهم كانوا يواجهون المسلمين.. ثم ما زالوا كذلك حتى بعدت الشّقّة بينهم وبين المسلمين، وانقطعت بينهم الأسباب.. فهم ينظرون إلى المسلمين، ويحسبون أنفسهم عليهم، ولكنهم- في الوقت نفسه- يأخذون طريقا بعيدا عنهم، يسيرون فيه في وضع مقلوب- على أعقابهم، فلا يدرون إلى أين تتجه بهم خطواتهم العمياء!! قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ} الذين كرهوا ما نزّل اللّه: هم اليهود، يقول اللّه سبحانه: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [105: البقرة].
والذين قالوا، هم هؤلاء الذين نحولوا من الإيمان إلى النفاق، مرتدّين على أدبارهم.. والذي قالوه هو قولهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ}.
أي أنه التقى هؤلاء المنافقون مع اليهود لقاء الأولياء، تقدّموا إلى اليهود يعرضون عليهم أن يكونوا من ورائهم في حربهم مع المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [11: الحشر] هكذا كان موقف المنافقين من النبي والمسلمين بعد غزوة الخندق (الأحزاب) وكان على رأس المنافقين عبد اللّه بن أبى بن سلول، الذي خذّل الناس عن القتال يوم أحد.. فلما أن ردّ اللّه الأحزاب على أعقابهم خاسرين، التفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى اليهود الذين كانوا قد حزبوا الأحزاب على رسول اللّه، وتحالفوا مع المشركين على أن يكونوا لهم ظهرا إذا التحم القتال. إن اليهود إذا ظلوا في المدينة على ما هم عليه من كفر وحسد، أفسدوا على المسلمين أمرهم، وأوقعوا الفتنة بينهم إن هم عجزوا عن جلب الفتن إليهم من الخارج.. فكان أن ندب النبي المسلمين إلى حربهم، وألا يلقوا سلاحهم الذي كانوا يواجهون به الأحزاب.. فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بنى قريظة» وهناك حاصرهم النبي والمسلمون، ثم استسلموا لحكم النبي فيهم.
وفى أثناء الحصار الذي ضربه النبي والمسلمون على بنى قريظة، كان كثير من المنافقين يبعث إلى اليهود أن يثبتوا في حصونهم، وألا يستسلموا، وألّا يخرجوا من ديارهم.. وأن النبي لو أخرجهم لخرج المنافقون معهم، احتجاجا على إخراج اليهود من المدينة، ولن يسمعوا لأحد قولا يفرق به بين اليهود وبينهم، وأن النبي والمسلمين لو قاتلوا اليهود، لكان هؤلاء المنافقون مقاتلين معهم.. وهكذا منّى المشركون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب- منوهم هذه الأمانى الكاذبة، التي فضحها اللّه سبحانه وفضح أهلها، فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [11- 12: الحشر] قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ} أي ما أسرّ به المنافقون واليهود، بعضهم إلى بعض، وسيجزيهم عليه جزاء وفاقا.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ}.
الفاء هنا للتفريع على كلام سابق مقدّر، وتقديره: لقد كان جزاء هؤلاء المنافقين السوء والخزي في الدنيا، وأنهم إذا كانوا قد احتملوا السوء والخزي في حياتهم، فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة، وأخذوهم صفعا على وجوههم، ور كلا على أدبارهم؟ أيحتملون هذا البلاء، الذي يدفع بهم إلى جهنم، ويلقى بهم في سعيرها؟.
فالاستفهام هنا لتهويل العذاب الأخروىّ الواقع بهؤلاء المنافقين، وأنه عذاب لا يحتمل، وإنه لمن العجب أن يرى هؤلاء المنافقون في النار، وفيهم أثر للحياة.
وهذا مثل قوله تعالى: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}.
وقوله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} جملة حالية، من الملائكة، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.. أي يضرنهم من أمام، إذا أقبلوا، ويضربونهم من خلف، إذا أدبروا.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ}.
الإشارة هنا إلى هذا الذي يلقاه المنافقون، من السوء والخزي في الدنيا، والعذاب والنكال في الآخرة، وأن ذلك إنما هو بسبب زيغهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم، واتباعهم ما أسخط اللّه، وأغضبه، وأوجب لعنته، بما أتوا من منكر القول، والعمل.
وقوله تعالى: {فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عملا، حتى ولو كان مما يحسب في الأعمال الصالحة للمؤمنين، لأنهم غير مؤمنين باللّه، والإيمان باللّه شرط أول في قبول العمل! قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ}.
أي أوقع في ظن هؤلاء المنافقين الذين في قلوبهم مرض، أن اللّه تعالى سيستر عليهم نفاقهم، ولا يكشف هذا الخبث الذي دسّوه في قلوبهم، والذي تغلى مراجله في صدورهم، ضغنا على النبي والمؤمنين، وشنآنا لهم، وكيدا ومكرا بهم؟- أحسب هؤلاء المنافقون أن يظل نفاقهم مستورا، دون أن يفضحه اللّه ويفضحهم به على أعين الناس؟ إبهم لواهمون، مخدوعون، بما يصور لهم هذا الوهم.
وقوله تعالى: {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ} أي لن يبدى هذه الأضغان، ويكشفها، فتظهر لأعين الناس، بعد أن كانت مخبوءة في الصدور.
قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ}.
هو معطوف على محذوف يقدر جوابا على الاستفهام الواقع في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ}.
أي أن ذلك ظنّ باطل منهم، وأن اللّه سبحانه سيخرج أضغانهم، ويفضحهم بها على الملأ، وأنه سبحانه لو شاء أن يسمهم بسمات مادية، بطبعها على وجوههم، فلا يراهم أحد إلا عرف أنهم منافقون- لو شاء اللّه أن يفعل ذلك بهم لفعله، ولرآهم النبي رأى العين، ولرآهم المسلمون معه.. ولكن اللّه سبحانه لم نشأ حكمته أن يشاء ذلك، إذ لو أنه حدث لكان فتنة للناس.. وكيف لا يفتن الناس إذا كان ما يسرونه في أنفسهم، وما يودعونه ضمائرهم، يظهر مجسدا عليهم؟ ثم كيف لا يفتنون إذا فعل أحدهم فعلا قبيحا لم يطلع عليه أحد، ثم إذا هذا الفعل قد لبس صاحبه، وأخذ ينادى في الناس بهذا المنكر الذي فعله صاحبه؟ كيف يكون حال الناس لو أن هذا كان حادثا فيهم؟ ترى أتحتمل الحياة الإنسانية- في طبيعتها البشرية- إفرازات العواطف، والنوازع، والمشاعر، واستقبال كل ما هو مختزن في الضمائر، ومستودع الصدور؟ إنه لو كشف للناس عما طوبت عليه صدورهم، لما جمعتهم جامعة أبدا، ولما التقى أحدهم بالآخر إلا على عداوة، وعدوان.. وفى هذا يقول أبو العتاهية الشاعر:
أحسن اللّه بنا *** أن الخطايا لا تفوح
أي أنه لو كان للذنوب التي نقترفها آثارا مادية تعلق بصاحبها، وتكشف للناس أمره، لكان ذلك، ابتلاء عظيما.. ولكن اللّه أحسن إلينا، إذ عافانا من هذا البلاء.
فقوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ} هو خطاب للنبى، وتهديد للمنافقين الذين ظنوا أن اللّه سبحانه لن يفضح نفاقهم، وينزع عنهم هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، وظهروا به في سمت المؤمنين.. فاللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم، وينسج منه وجوها يلبسها هؤلاء المنافقون بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم.. فإذا أطلّ أحد المنافقين بوجهه هذا الذي نسجه له اللّه سبحانه، من نفاقه- قال الناس جميعا: هذا منافق.. ولكن اللّه سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين، ليكونوا هكذا، فتنة للناس وتقريرا لهم بأنفسهم.
والسيما: السّمة، والعلامة.
وقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
هو معطوف على محذوف، تقديره: وإذ لم يشأ اللّه تعالى أن يريك- أيها النبي- المنافقين لتعرفهم بسيماهم، فإنه مطلوب منك أيها النبي أن تتعرف إلى المنافقين بنظرك الشخصي، وإنك لتتعرف عليهم، من حديثهم، وما يجرى على ألسنتهم من زور وبهتان.. فإن كلمة الزور تخرج باهتة، عليها مسحة من الخزي والتخاذل.
فوقوع الفعل تعرف جوابا لقسم، الأمر الذي أوجب توكيده- إشارة إلى أن هذا الفعل واقع لا محالة، وخاصة إذا كان القسم الواقع عليه، من اللّه سبحانه.. ولهذا فإن هذه الجملة جملة خبرية، تحدّث عن أمر سيقع مستقبلا على سبيل القطع والتوكيد.. فهذا وعد موثق مؤكد من اللّه تعالى للنبى الكريم، بأنه سيعرف المنافقين من لحن القول.. والتوثيق والتوكيد لهذا الخبر، لا لإزالة شك من النبي في تحقيق ما يخبر به من ربه، فإن الرسول الكريم على ثقة وإيمان مطقين باللّه، وبقدرة اللّه.. ولكن توكيد هذا الخبر وتوثيقه، يحمل أكثر من دلالة:
فأولا: إلفات النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلفاتا قويا إلى المنافقين.
ومراقبتهم مراقبة دائمة، وخاصة فيما يجرى على ألسنتهم من كلام.
وثانيا: أنه إذا اشتبه على النبي أمر في أحد مرضى القلوب من المسلمين، فلا يدعه معلقا في حبال هذه الشبهة، بل ينبغى، أن يكشف عنه كشفا دقيقا، بهذا المشير الذي يعرف به أهل النفاق، مما يجرى على ألسنتهم من مقولات.
فإذا كشف هذا الاختبار عن هذا الإنسان أنه منافق، فهو من المنافقين، وإلا كان من المؤمنين، فإنه إذا برىء المؤمن من النفاق فقد سلم له دينه، على أي حال كان عليه.
ولحن القول، هو ما يندسّ في الكلام من معان خفية، ذات دلالات وإشارات، يعرفها المنافقون فيما بينهم، ويتعاملون بها، وسمى هذا الضرب من الكلام لحنا، لأنه يخرج في صورة خادعة من النظم، تتماوج فيها المعاني، وتتراقص الكلمات، فتتناغم العبارات، فتخرج أشبه باللحن الموسيقى الذي يسمع منطوقه، ولا يكاد يعرف مفهومه إلا لأهل العلم في هذا الباب.
وقد كان للمنافقين من لحن القول هذا، نماذج، كشف القرآن الكريم عن بعض منها، لتكون للنبى وللمؤمنين معلما من معالم الكشف عن نفاق المنافقين، في لحون أقوالهم.. فيقول سبحانه، عن مقولة من أقوالهم:
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [46: النساء] فهم يقولون: {سَمِعْنا} يقولونها جهرة، ثم يتبعونها بقولهم سرا {وَعَصَيْنا}! أي يعطون النبي تسليما بالسمع، لقد سمعوا ما قال، ويبدو من هذا أنهم مؤمنون، ولكن يضمرون في أنفسهم، ويحركون على ألسنتهم العصيان لهذا الذي سمعوه.. وهم يقولون للنبى: {اسمع} أي اسمع منا ما نقول لك،.. يقولون ذلك جهرا، ثم يتبعون ذلك بدعاء خفى على النبي: {غير مسمع} أي أصمّ، لا تسمع.. وهو دعاءه أي اسمع.. لا سمعت.. لعنهم اللّه بما قالوا.
وهم يقولون فيما يقولون من خطابهم للنبى: {راعِنا} أي ارعنا، وانظر إلينا.. ويلوون بها ألسنتهم، فتخرج منطوقة هكذا {راعنا} بالتنوين المدغوم.
وهى من الرعونة، والطيش، يدعون بها على رسول اللّه.. أي ذا رعونة، مثل لابن، وتمر، أي صاحب لبن وتمر.
وقد رسم اللّه سبحانه وتعالى صورة سليمة مستقيمة لهذا الكلام السقيم المعوج، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ..}.
ومن هذه الأساليب وأمثالها مما ينطق به المنافقون- عرف النبىّ المنافقين، وعزلهم عن المجتمع الإسلامى.. وكان كثير من المؤمنين، يعرفون وجوه المنافقين وجها وجها، ومن هؤلاء الصحابىّ حذيفة بن اليمان، رضى اللّه عنه.. وقد كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه- بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم- يسأل حذيفة أن ينظر إليه، ليرى إن كان فيه نفاق أم لا.. فيقول: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكنت تعرف المنافقين، وتعهدهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فانظر ما في من النفاق، فعرفنى به، فيقول: يا أمير المؤمنين: لا أعلم فيك نفاقا.. فيقول عمر: انظر ودقق النظر، فيبكى حذيفة ويبكى عمر، رضى اللّه عنهما.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} أي أنه سبحانه، لا يؤاخذ على ما تكنّه الضمائر، وما تخفيه الصدور، ولكنه يؤاخذ على ما يقع من أعمال، إذ هى التي يكون لها آثارها في الحياة، وفى الناس.. وهذا هو بعض السرّ، في جعل فاصلة الآية {أَعْمالَكُمْ} على حين جاء فاصلة الآية (26): {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ}.
لأن هنا مقاما، وهناك مقاما.. فهنا حساب للمنافقين على جرائمهم التي تقع من أعمالهم، أو أقوالهم، التي تجرى مجرى الأعمال.. وهناك محاسبة للمنافقين على أقوال جرت في الخفاء بينهم وبين اليهود.. فهى سرّ بالنسبة إلى المؤمنين، لأنه جرى بعيدا عنهم، وقد كشف اللّه سبحانه هذا السرّ، وفضح أهله،.
فقال سبحانه {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال