سورة الواقعة / الآية رقم 33 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنهَا وَ لاَ يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأَصْحَابِ اليَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ

الواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعةالواقعة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


الواقعة.. اسم للسورة وبيان لموضوعها معاً. فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة، رداً على قولة الشاكين فيها، المشركين بالله، المكذبين بالقرآن: {أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟}..
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة. وصفها بصفتها التي تنهي كل قول، وتقطع كل شك، وتشعر بالجزم في هذا الأمر.. الواقعة.. {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة}.. وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم، حيث تتبدل أقدار الناس، وأوضاع الأرض، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض، كما يبدل القيم غير القيم سواء: {خافضة رافعة.. إذا رجت الأرض رجاً، وبست الجبال بساً، فكانت هباء منبثاً. وكنتم أزواجاً ثلاثة.. الخ}.
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة: السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفاً مفصلاً أوفى تفصيل، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع، لا مجال للشك فيه، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان. حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين. وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آبآؤنا الأولون}.. وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح. ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب!
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة. ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها، متوخياً توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان، أياً كانت بيئته، ودرجة معرفته وتجربته.
يعرض نشأتهم الأولى من منيٍّ يُمنى. ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى، التي يعرفونها جميعاً.
ويعرض صورة الحرث والزرع، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها. إنشاؤها بيد الله وقدرته. ولو شاء الله لم تنشأ، ولو شاء لم تؤت ثمارها.
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها. وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب. ولو شاء جعله ملحاً أجاجاً، لا ينبت حياة، ولا يصلح لحياة.
وصورة النار التي يوقدون، وأصلها الذي تنشأ منه.. الشجر.. وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذراً. ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها.
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة، يلمس بها قلوبهم، ولا يكلفهم بها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها.
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن {الواقعة} فيشكون في وعيده.
فيلوح بالقسم بمواقع النجوم، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه تنزيل من رب العالمين.
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار. في لمسة عميقة مؤثرة. حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين، لا يملكون له شيئاً، ولا يدرون ما يجري حوله، ولا ما يجري في كيانه. ويخلص أمره كله لله، قبل أن يفارق هذه الحياة. ويرى هو طريقه المقبل، حين لا يملك أن يقول شيئاً عما يرى ولا أن يشير!
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق: {إن هذا لهو حق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم}.. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام..
{إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة. إذا رجت الأرض رجاً. وبست الجبال بَسَّا. فكانت هبآء منبثاً...}
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل. وهو يتبع أسلوباً خاصاً يلحظ فيه هذا المعنى، ويتناسق مع مدلولات العبارة. فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها {إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة}.. ولا يقول: ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة وهي خافضة رافعة. ولكن يبدأ حديثاً جديداً: {إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا.}.. ومرة أخرى لا يقول: ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم.. فكأنما هذا الهول كله مقدمة، لا يذكر نتائجها، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ، أو تعبر عنها العبارة!
هذا الأسلوب الخاص يتناسب مع الصورة المروّعة المفزِّعة التي يرسمها هذا المطلع بذاته. فالواقعة بمعناها وبجرس اللفظ ذاته- بما فيه من مدّ ثم سكون- تلقى في الحس كأنما هي ثقل ضخم ينقض من علٍ ثم يستقر، لغير ما زحزحة بعد ذلك ولا زوال! {ليس لوقعتها كاذبة}..
ثم إن سقوط هذا الثقل ووقوعة، كأنما يتوقع له الحس أرجحة ورجرجة يحدثها حين يقع. ويلبي السياق هذا التوقع فإذا هي: {خافضة رافعة} وإنها لتخفض أقداراً كانت رفيعة في الأرض، وترفع أقداراً كانت خفيضة في دار الفناء، حيث تختل الاعتبارات والقيم؛ ثم تستقيم في ميزان الله.
ثم يتبدى الهول في كيان هذه الأرض. الأرض الثابتة المستقرة فيما يحس الناس. فإذا هي ترج رجاً- وهي حقيقة تذكر في التعبير الذي يتسق في الحس مع وقع الواقعة- ثم إذا الجبال الصلبة الراسية تتحول- تحت وقع الواقعة- إلى فتات يتطاير كالهباء.. {وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثاً} فما أهول هذا الهول الذي يرج الأرض رجاً، ويبس الجبال بساً، ويتركها هباء منبثاً.
وما أجهل الذين يتعرضون له وهم مكذبون بالأخرة، مشركون بالله، وهذا أثره في الأرض والجبال!
وهكذا تبدأ السورة بما يزلزل الكيان البشري، ويهول الحس الإنساني، تجاه القضية التي ينكرها المنكرون، ويكذب بها المشركون. وينتهي هذا المشهد الأول للواقعة لنشهد آثارها في الخفض والرفع، وفي أقدار البشر ومصائرهم الأخيرة:
{وكنتم أزواجاً ثلاثة. فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة؟ وأصحاب المشأمة. ما أصحاب المشأمة؟ والسابقون السابقون...}
ونجد الناس هنا أصنافاً ثلاثة- لا صنفين اثنين كما هو السائد في مشاهد الاستعراض القرآنية- ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة- أو أصحاب اليمين- ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم: {فأصحاب الميمنة. ما أصحاب الميمنة؟}. وكذلك يذكر أصحاب المشأمة بنفس الأسلوب. ثم يذكر الفريق الثالث، فريق السابقين، يذكرهم فيصفهم بوصفهم: {والسابقون السابقون}.. كأنما ليقول إنهم هم هم. وكفى. فهو مقام لا يزيده الوصف شيئاً!
ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين، وتتناوله معارفهم وتجاربهم:
{أولئك المقربون. في جنات النعيم. ثلة من الأولين. وقليل من الآخرين. على سرر موضونة. متكئين عليها متقابلين. يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين. لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزفون. وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون. وحور عين. كأمثال اللؤلؤ المكنون. جزآء بما كانوا يعملون. لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إلا قيلاً سلاماً سلاماً}
إنه يبدأ في بيان هذا النعيم، بالنعيم الأكبر. النعيم الأسنى. نعيم القرب من ربهم:
{أولئك المقربون في جنات النعيم}.. وجنات النعيم كلها لا تساوي ذلك التقريب، ولا تعدل ذلك النصيب.
ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها.. إنهم {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين}.. فهم عدد محدود. وفريق منتقى. كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين. واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون. فالقول الأول: إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام. وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه.. والقول الثاني: إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالأولون من صدرها، والآخرون من متأخريها. وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير. وروى في ترجيحه للحسن وابن سيرين: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني، سمعت الحسن أتى على هذه الآية: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} فقال: أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السري بن يحيى. قال: قرأ الحسن: {والسابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم. ثلة من الأولين}.. قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة.. وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية: {ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين}.. قال: كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة.
وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم. وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها؛ ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإدراكها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
{على سرر موضونة}.. مشبكة بالمعادن الثمينة. {متكين عليها متقابلين}. في راحة وخلو بال من الهموم والمشاغل، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم، ولا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون.. {يطوف عليهم ولدان مخلدون}.. لا يفعل فيهم الزمن، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض. يطوفون عليهم {بأكواب وأباريق وكأس من معين}.. من خمر صافية سائغة {لا يُصَدَّعون عنها ولا ينزفون}.. فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم. فكل شيء هنا للدوام والأمان. {وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون}.. فهنا لا شيء ممنوع، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون. {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}.. واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون، الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين! وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون. وذلك كله: {جزاء بما كانوا يعملون}.. فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل. مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء. ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث، وكل جدل وكل مؤاخذة: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إلا قيلاً سلاماً سلاماً}.. حياتهم كلها سلام. يرف عليها السلام ويشيع فيها السلام. تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن؛ ويسلم بعضهم على بعض. ويبلغهم السلام من الرحمن. فالجو كله سلام سلام..
فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه: فريق أصحاب اليمين:
{وأصحاب اليمين. مآ أصحاب اليمين؟ في سدر مخضود، وطلح منضود. وظل ممدود. ومآء مسكوب. وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. وفرش مرفوعة. إنآ أنشأناهن إنشآءً. فجعلناهن أبكاراً. عرباً أتراباً. لأصحاب اليمين. ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين}
وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة. ثم أخر تفصيل نعيمهم، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين. وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل: {ما أصحاب اليمين؟}.
ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم!
إنهم {في سدر مخضود}.. والسدر شجر النبق الشائك. ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع. {وطلح منضود}.. والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاة فيه شوك. ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كدٍ ولا مشقة. {وظل ممدود، وماء مسكوب}.. وتلك جميعاً من مراتع البدوي ومناعمه، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه! {وفاكهة كثيرة. لا مقطوعة ولا ممنوعة}.. تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين. {وفرش مرفوعة}.. وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة. وبحسبها أنها مرفوعة. وللرفع في الحس معنيان. مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس. فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها. والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها. ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج: {إنا أنشأناهن إنشاءً} إما ابتداء وهن الحور. وإما استئنافاً وهن الزوجات المبعوثات شواب: {فجعلناهن أبكاراً} لم يمسسن {عرباً}.. متحببات إلى أزواجهن {أتراباً} متوافيات السن والشباب. {لأصحاب اليمين}.. مخصصات لهم. ليتسق ذلك مع {الفرش المرفوعة}..
فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم {ثلثة من الأولين وثلة من الآخرين}.. فهم أكثر عدداً من السابقين المقربين. على الاعتبارين اللذين ذكرناهما في معنى الأولين والآخرين.
وهنا يصل بنا السياق إلى أصحاب الشمال- وهم أصحاب المشأمة الذين سبقت الإشارة إليهم في مطلع السورة:
{وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال؟ في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم. إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آبآؤنا الأولون؟ قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم. ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون. لآكلون من شجر من زقوم. فمالئون منها البطون. فشاربون عليه من الحميم. فشاربون شرب الهيم. هذا نزلهم يوم الدين}..
فلئن كان أصحاب اليمين في ظل ممدود وماء مسكوب.. فأصحاب الشمال {في سموم وحميم. وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم}.. فالهواء شواظ ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام. والماء متناه في الحرارة لا يُبرد ولا يُروي. وهناك ظل! ولكنه {ظل من يحموم}.. ظل الدخان اللافح الخانق.. إنه ظل للسخرية والتهكم. ظل {لا بارد ولا كريم}.. فهو ظل ساخن لا روْح فيه ولا برد؛ وهو كذلك كز لا يمنح وراده راحة ولا إنعاشاً!.. هذا الشظف كله جزاء وفاق: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين}.. وما آلم الشظف للمترفين! {وكانوا يصرون على الحِنث العظيم}.. والحنث الذنب. وهو هنا الشرك بالله.
وفيه إلماع إلى الحنث بالعهد الذي أخذه الله على فطرة العباد أن يؤمنوا به ويوحدوه. {وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟} كانوا... هكذا يعبر القرآن، كأنما الدنيا التي فيها المخاطبون قد طويت وانتهت فإذا هي ماض. والحاضر هو هذا المشهد وهذا العذاب! ذلك أن الدنيا كلها ومضة. وهذا الحاضر هو العقبى والمآب.
وهنا يلتفت السياق إلى الدنيا في أنسب الأوقات لهذه اللفتة ليرد على سؤالهم ذاك: {قل: إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}.. هو هذا اليوم الحاضر المعروض المشهود!
ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين. فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون:
{ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون من شجر زقوم}.. ولا يدري أحد ما شجرة الزقوم إلا ما وصفها الله به في سورة أخرى من أن طلعها كرؤوس الشياطين. ورؤوس الشياطين لم يرها أحد ولكنها تلقي في الحس ما تلقيه! على أن لفظ {الزقوم} نفسه يصور بجرسه ملمساً خشناً شائكاً مدبباً يشوك الأكف- بله الحلوق- وذلك في مقابل السدر المخضود والطلح المنضود- ومع أن الزقوم كرؤوس الشياطين! فإنهم لآكلون منها {فمالئون منها البطون}.. فالجوع طاغ والمحنة غالبة.. وإن الشوك الخشن ليدفع إلى الماء لتسليك الحلوق وري البطون! وإنهم لشاربون {فشاربون عليه من الحميم}.. الساخن الذي لا يبرد غلة ولا يروي ظمأ. {فشاربون شرب الهيم}.. وهي الإبل المصابة بداء الاستسقاء لا تكاد ترتوي من الماء! {هذا نزلهم يوم الدين}.. والنزل للراحة والاستقرار. ولكن أصحاب الشمال هذا نزلهم الذي لا راحة فيه ولا قرار! هذا نزلهم في اليوم الذي كانوا يشكون فيه، ويتساءلون عنه، ولا يصدقون خبر القرآن به. كما كانوا يشركون بالله ولا يخافون وعيده بذلك اليوم المشهود..
بهذا ينتهي استعراض المصائر والأقدار، يوم تقع الواقعة. الخافضة الرافعة. وينتهي كذلك الشوط الأول من السورة.
فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى. وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة..
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى؛ يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود؛ وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود. كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها؛ ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها!
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم.
إنه لا يُبعد لهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد.. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة.
إن أنفسهم من صنع الله؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته. والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها؛ فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم؛ والذي يحمل دلائل الإيمان، وبراهين العقيدة، فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.
وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة؛ وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي يوقدون- وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم- كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر. اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال! حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات.
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره.. إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق.. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة.. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها. والخلية على ضآلتها آية في ذاتها.. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني.. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل. والزرع. والماء. والنار. والموت.. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟.. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة.. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية- بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم- فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان:
مواقع النجوم تعني هندسة الكون.
نشأة الحياة الإنسانية.. وهي سر الأسرار.
نشأة الحياة النباتية.. وهي كالحياة الحيوانية معجزة المعجزات.
والماء.. أصل الحياة.
والنار.. المعجزة التي صنعت الحضارة الإنسانية.
هذه الطريقة في تناول الأشياء، وبناء العقيدة والتفكير، ليست طريقة البشر. فالبشر حين يخوضون في هذه المجلات لا يلتفتون إلى هذه المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية. وإذا التفتوا إليها لم يتناولوها بهذا اليسر وبهذه البساطة. بل يحاولون وضع المسألة في قالب فلسفي تجريدي معقد لا يصلح إلا لخطاب طبقة خاصة من الناس!
أما الله فطريقته هي هذه.. تناول المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية. وبناء العقيدة بها في يسر وسهولة. تماماً كما يصنع- سبحانه- في تناول المواد الأولية التي هي مواد كونية ويصنع منها الكون..
هذا من ذاك. وعلامة الصنعة واحدة، واضحة هنا وهناك!
{نحن خلقناكم فلولا تصدقون! أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون. ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون!}
إن هذا الأمر أمر النشأة الأولى ونهايتها. أمر الخلق وأمر الموت. إنه أمر منظور ومألوف وواقع في حياة الناس. فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم؟ إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري أو يجادل فيه: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون؟}..
{أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟}..
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يُمنى رحمَ امرأة. ثم ينقطع عمله وعملها. وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين. تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه. ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله. والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها؛ كما لا يعرفون كيف تقع. بله أن يشاركوا فيها!
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان. وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها. ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى، إلى أن تصير خلقاً، قصة أغرب من الخيال. قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلاً، ويشهد وقوعها كل إنسان!
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا. كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى؛ لأنها مكلفة أن تنشئ جانباً خاصاً من المخلوق البشري! فهذه خلايا عظام. وهذه خلايا عضلات. وهذه خلايا جلد. وهذه خلايا أعصاب.. ثم.. هذه خلايا لعمل عين. وهذه خلايا لعمل لسان. وهذه خلايا لعمل أذن.
وهذه خلايا لعمل غدد.. وهي أكثر تخصصاً من المجموعات السابقة.. وكل منها تعرف مكان عملها، فلا تخطئ خلايا العين مثلاً، فتطلع في البطن أو في القدم. مع أنها لو أخذت أخذاً صناعياً فزرعت في البطن مثلاً صنعت هنالك عيناً! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذناً هناك.. إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال هذه هي البداية. أما النهاية فلا تقل عنها إعجازاً ولا غرابة. وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة:
{نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين}..
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي.. ما هو؟ وكيف يقع؟ وأي سلطان له لا يقاوم؟
إنه قدر الله.. ومن ثم لا يفلت منه أحد، ولا يسبقه فيفوته أحد.. وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل..
{على أن نبدل أمثالكم}..
لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم. والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة. قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا.. فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى:
{وننشئكم فيما لا تعلمون}..
في ذلك العالم المغيب المجهول، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله. وعندئذ تبلغ النشأة تمامها، وتصل القافلة إلى مقرها.
هذه هي النشأة الآخرة.. {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون!}.. فهي قريب من قريب. وليس فيها من غريب.
بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة. وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه، ولا تملك أن تجادل فيه. لأنه مأخوذ من بديهياتها هي، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة. بلا تعقيد. ولا تجريد. ولا فلسفة تكد الأذهان، ولا تبلغ إلى الوجدان..
إنها طريقة الله. مبدع الكون، وخالق الإنسان، ومنزل القرآن..
ومرة أخرى في بساطة ويسر يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم، مكرر في مشاهداتهم، ليريهم يد الله فيه؛ ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم، وعلى مرأى من عيونهم، وهم عنها غافلون:
{أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لجعلناه حطاماً، فظلتم تفكهون: إنا لمغرمون. بل نحن محرومون}..
هذا الزرع الذي ينبت بين أيديهم وينمو ويؤتي ثماره. ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله. ثم ينتهي دورهم وتأخذ يد القدرة في عملها المعجز الخارق العجيب.
تأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها. تبدؤه وتسير في سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق! الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله، ولا ينحرف عن طريقه، ولا يضل الهدف المرسوم! إن يد القدرة هي التي تتولى خطاها على طول الطريق.
في الرحلة العجيبة. الرحلة التي ما كان العقل ليصدقها، وما كان الخيال ليتصورها، لولا أنها حدثت وتحدث ويراها كل إنسان في صورة من الصور، ونوع من الأنواع.. وإلا فأي عقل كان يصدق، وأي خيال كان يتصور أن حبة القمح مثلاً يكمن فيها هذا العود وهذا الورق، وهذه السنبلة، وهذا الحب الكثير؟! أو أن النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه؟!
أي عقل كان يمكن أن يتطاول به الخيال إلى تصور هذه العجيبة. لولا أنه يراها تقع بين يديه صباح مساء؟ ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس؟ وأي إنسان يمكنه أن يدعي أنه صنع شيئاً في هذه العجيبة سوى الحرث وإلقاء البذور التي صنعها الله؟
ثم يقول الناس: زرعنا!! وهم لم يتجاوزوا الحرث وإلقاء البذور. أما القصة العجيبة التي تمثلها كل حبة وكل بذرة. وأما الخارقة التي تنبت من قلبها وتنمو وترتفع فكلها من صنع الخالق الزارع. ولو شاء لم تبدأ رحلتها. ولو شاء لم تتم قصتها. ولو شاء لجعلها حطاماً قبل أن تؤتى ثمارها. وهي بمشيئته تقطع رحلتها، من البدء إلى الختام!
ولو وقع هذا لظل الناس يلونون الحديث وينوعونه يقولون: {إنا لمغرمون}: غارمون {بل نحن محرومون}.. ولكن فضل الله يمنحهم الثمر، ويسمح للنبتة أن تتم دورتها، وتكمل رحلتها، وهي ذاتها الرحلة التي تقوم بها الخلية التي تمنى.. وهي صورة من صور الحياة التي تنشئها القدرة وترعاها.
فماذا في النشأة الأخرى من غرابة. وهذه هي النشأة الأولى؟..
{أفرأيتم الماء الذي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟ لو نشاء جعلناه أجاجاً. فلولا تشكرون}!
وهذا الماء أصل الحياة، وعنصرها الذي لا تنشأ إلا به كما قدر الله. ما دور الإنسان فيه؟ دوره أنه يشربه. أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه، فهو الله سبحانه. وهو الذي قدر أن يكون عذباً فكان {لو نشاء جعلناه أجاجاً}. مالحاً لا يستساغ، ولا ينشئ حياة. فهلا يشكرون فضل الله الذي أجرى مشيئته بما كان؟
والمخاطبون ابتداء بهذا القرآن كان الماء النازل من السحائب، في صورته المباشرة، مادة حياتهم، وموضع احتفالهم، والحديث الذي يهز نفوسهم، وقد خلدته قصائدهم وأشعارهم.. ولم تنقص قيمة الماء بتقدم الإنسان الحضاري، بل لعلها تضاعفت. والذين يشتغلون بالعلم ويحاولون تفسير نشأة الماء الأولى أشد شعوراً بقيمة هذا الحدث من سواهم. فهو مادة اهتمام للبدائي في الصحراء، وللعالم المشتغل بالأبحاث سواء.
{أفرأيتم النار التي تورون؟ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين}..
ولقد كان كشف الإنسان للنار حادثاً عظيماً في حياته. ربما كان أعظم حادث بدأت منه حضارته.
ولكنها أصبحت أمراً مألوفاً لا يثير الاهتمام.. والإنسان يوري النار: أي: يوقدها. ولكن من الذي أنشأ وقودها؟ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار؟ لقد مر حديث الزرع. والشجر من هذا الزرع.. على أن هناك لفتة أخرى في ذكر {شجرتها}. فمن احتكاك فرع من شجرة بفرع آخر من شجرة أخرى كان العرب يوقدون نارهم. على الطريقة البدائية التي لا تزال مستعملة في البيئات البدائية حتى الآن. فالأمر أظهر وأقرب إلى تجاربهم المعروفة. أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام. وبمناسبة ذكر النار يلمع السياق إلى نار الآخرة: {نحن جعلناها تذكرة} تذكر بالنار الأخرى.. كما جعلناها {متاعاً للمقوين}.. أي للمسافرين. وكان لهذه الإشارة وقعها العميق في نفوس المخاطبين، لما تمثله في واقع حياتهم من مدلول حي حاضر في تجاربهم وواقعهم.
وحين يبلغ السياق إلى هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار، الناطقة بدلائل الإيمان. الميسرة للقلوب والأذهان. يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق. حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته. وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان. فيهيب بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها؛ ويلمس القلوب بها في حينها:
{فسبح باسم ربك العظيم}..
ثم يلتفت التفاتة أخرى إلى المكذبين بهذا القرآن؛ فيربط بينه وبين هذا الكون في قسم عظيم من رب العالمين:
{فلا أقسم بمواقع النجوم- وإنه لقسم لو تعلمون عظيم- إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين}..
ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. ومن ثم قال لهم: {وإنه لقسم- لو تعلمون- عظيم}.. فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به، نصيباً أكبر بكثير مما كانوا يعلمون. وإن كنا نحن أيضاً لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم..
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، يقول لنا: إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدوداً. مجموعة واحدة- هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية- تبلغ الف مليون نجم!
ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة.
وهو احتمال بعيد، وبعيد جداً. إن لم يكن مستحيلاً وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل.
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم، وهو أكبر كثيراً جداً مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة. وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم!
{فلا أقسم بمواقع النجوم}.. فالأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم.. {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}.. وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم لأنها ثابتة واضحة..
{إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين}..
إنه لقرآن كريم. وليس كما تدعون قول كاهن، ولا قول مجنون، ولا مفترى على الله. من أساطير الأولين. ولا تنزلت به الشياطين!... إلى آخر هذه الأقاويل. إنما هو قرآن كريم. كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته.
{في كتاب مكنون}.. مصون.. وتفسير ذلك في قوله تعالى بعدها: {لا يمسه إلا المطهرون}.. فقد زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به. فهذا نفي لهذا الزعم. فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه. إنما تنزل به الملائكة المطهرون.. وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى {لا يمسه إلا المطهرون}. ف {لا} هنا نافية لوقوع الفعل. وليست ناهية. وفي الأرض يمس هذا القرآن الطاهر والنجس. والمؤمن والكافر، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه. إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة. ملابسة قولهم: تنزلت به الشياطين. ونفي هذا الزعم إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون..
ومما يؤيد هذا الاتجاه قوله تعالى بعد هذا: {تنزيل من رب العالمين}.. لا تنزيل من الشياطين!
وقد روي حديثان يقرران معنى آخر. وهو أن لا يمس القرآن إلا طاهر.. ولكن ابن كثير قال عنهما: وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره. ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو ابن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص. وفي إسناد كل منهما نظر والله أعلم.
ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة.. لحظة الموت.. اللمسة التي ترجف لها الأوصال. واللحظة التي تنهي كل جدال. واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق. حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النكوص:
{أفبهذا الحديث أنتم مدهنون؟ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون. فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. فلولا إن كنتم غير مدينين. ترجعونها إن كنتم صادقين}..
أفأنتم شاكون في هذا الحديث الذي يقال لكم عن النشأة الآخرة؛ مكذبون بالقرآن وما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من أمور العقيدة؟ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.
فإذا التكذيب هو رزقكم الذي تحصلون عليه في حياتكم وتدخرونه لآخرتكم؟ وما أسوأه من رزق!
فماذا أنتم فاعلون إذ تبلغ الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
ثم يصور الموقف التصوير القرآني الموحي، الذي يرسم ظلال الموقف كلها في لمسات سريعة ناطقة بكل ما فيه، وبكل ما وراءه، وبكل ما يوحيه.
{فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}..
لنكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبض الملامح، ونحس الكرب والضيق من خلال قوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم}.. كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله: {وأنتم حينئذ تنظرون}..
هنا. في هذه اللحظة. وقد فرغت الروح من أمر الدنيا. وخلفت وراءها الأرض وما فيها. وهي تستقبل عالماً لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئاً إلا ما أدخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر.
هنا. وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى. وقد انفصلت عمن حولها وما حولها. الجسد هو الذي يراه الناظرون. ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئاً.
هنا تقف قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر.
هنا يعرفون- ولا يجادلون- أنهم عجزة عجزة. قاصرون قاصرون.
هنا يسدل الستار دون الرؤية. ودون المعرفة. ودون الحركة.
هنا تتفرد القدرة الإلهية، والعلم الإلهي. ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال:
{ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}!
وهنا يجلل الموقف جلال الله، ورهبة حضوره- سبحانه وتعالى- وهو حاضر في كل وقت. ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر. فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله. فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع.
وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجيء التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال:
{فلولا إن كنتم غير مدينين: ترجعونها إن كنتم صادقين!}
فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا حساب ولا جزاء. فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين. فدونكم إذن فلترجعوها- وقد بلغت الحلقوم- لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء. وأنتم حولها تنظرون. وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون!
هنا تسقط كل تعلة. وتنقطع كل حجة. ويبطل كل محال. وينتهي كل جدال. ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري، فلا يصمد له، إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل!
ثم يمضي السياق في بيان مصير هذه الروح الذي يتراءى لها من بعيد حين تبلغ الحلقوم، وتستدبر الحياة الفانية، وتستقبل الحياة الباقية.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال