سورة الصف / الآية رقم 2 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ

الممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين:
تستهدف أولاً أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة في تاريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات. وأن يظهره على الدين كله في الأرض..
ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا، ولم يعودوا امناء على دين الله في الأرض: {وإذ قال موسى لقومه: يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله؛ فلم يعودوا أمناء عليه، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين.
ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتداداً لرسالة موسى، ومصداقاً لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة ومبشراً برسولها؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير: {وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.. وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي بشر به.
وكان مقرراً في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم. وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة علي يدي رسوله الأخير: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض.. يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعوراً يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله كما أراد الله وعدم التردد بين القول والفعل؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات.. ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله.. {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.
ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم.
ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين}.
ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طآئفة من بني إسرائيل وكفرت طآئفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}..
هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح، يستغرقان كل نصوصه تقريباً. فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة وهذه قصتها وهذه غايتها وهذا التنديد متصل دائماً بالخطين الأساسيين فيها. وذلك قول الله تعالى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر تبشير عيسى عليه السلام به: {فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين. ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام؟ والله لا يهدي القوم الظالمين. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون}..
وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله، كما يحب الله؛ ويتضح طريقه، فلا يبقى في تصوره غبش، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد.
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما لا يفعل، وألا يختلف له قول وفعل، ولا ظاهر وباطن، ولا سريرة وعلانية. وأن يكون هو نفسه في كل حال. متجرداً لله. خالصاً لدعوته. صريحاً في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه. متضامناً مع إخوانه. كالبنيان المرصوص..
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}..
تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم.
ثم يعاتب الله الذين آمنوا عتاباً شديداً على أمر حدث من طائفة منهم. امر يكرهه الله أشد الكره، ويمقته أكبر المقت، ويستفظعه من الذين آمنوا على وجه الخصوص:
{أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً، كأنهم بنيان مرصوص}..
قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون...}.. وقد اختار ابن جرير في تفسيره هذا القول.
وقال ابن كثير في تفسيره: وحملوا الآية يعني الجمهور على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى {ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! قل: متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً. أينما تكونوا يدرككم الموت. ولو كنتم في بروج مشيدة} وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: قتلنا. ضربنا. طعنا. وفعلنا.. ولم يكونوا فعلوا ذلك!
والراجح من سياق الآيات وذكر القتال أن مناسبة النزول هي التي عليها الجمهور وهي اختيار ابن جرير. ولكن النصوص القرآنية دائماً أبعد مدى من الحوادث المفردة التي تنزل الآيات لمواجهتها، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها. ومن ثم فإننا نسير مع هذه النصوص إلى مدلولاتها العامة، مع اعتبار الحادث الذي تذكره روايات النزول.
إنها تبدأ بعتاب على حادث وقع أو حوادث:
{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟}.
وتثني باستنكار لهذا الفعل وهذا الخلق في صيغة تضخم هذا الاستنكار:
{كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون؟}..
والمقت الذي يكبر {عند الله}.
هو أكبر المقت وأشد البغض وأنكر النكر.. وهذا غاية التفضيع لأمر، وبخاصة في ضمير المؤمن، الذي يُنادَى بإيمانه، والذي يناديه ربه الذي آمن به.
والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا.. وهو الجهاد.. وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه:
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}..
فليس هو مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود {صفاً كأنهم بنيان مرصوص}..
إن القرآن كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء كان يبني أمة. كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس. ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفراداً ويبنيها جماعة، ويبنيها عملاً واقعاً.. كلها في آن واحد.. فالمسلم لا يبنى فرداً إلا في جماعة. ولا يتصور الإسلام قائماً إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط، وذات نظام، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها. هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض. وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي.
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية ليس دين أفراد منعزلين، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة.. إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته. ولم يجيء الإسلام لينعزل هذه العزلة. إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها. ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه. والبشرية لا تعيش أفراداً إنما تعيش جماعات وأمماً. والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك. وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا. ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس. وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة. وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله، ويقوم فيها على أمانة دينه في الأرض، ومنهجه في الحياة، ونظامه في الناس.
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي أو جماعة مسلمة ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذات التزامات جماعية بين أفرادها، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها في الوقت ذاته حياة هذه الجماعة.. وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة. بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة..
وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي بالحاجة الجماعية، في ظل العقيدة الدينية، وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه.
إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون..
وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم.. الصدق.. والاستقامة.. وأن يكون باطنه كظاهره، وأن يطابق فعله قوله.. إطلاقاً.. وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة.
وهذه السمة في شخصية المسلم يدق القرآن عليها كثيراً، وتتابعها السنة في تكرار يزيدها توكيداً: يقول الله تعالى مندداً باليهود: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب. أفلا تعقلون} ويقول تعالى مندداً بالمنافقين: {ويقولون: طاعة. فإذا برزوا من عندك بيَّت طآئفة منهم غير الذي تقول} ويقول فيهم كذلك: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولعل الحديث الذي سنذكره هنا من أدق وألطف التوجيهات النبوية الكريمة في هذا الاتجاه.. روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب. فقالت أمي: يا عبد الله تعالى أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «وما أردت أن تعطيه»! فقالت: تمراً. فقال: «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة». ولعله استقاء من هذا النبع النبوي الطاهر الرائق امتنع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من الرواية من رجل سافر إليه مسافات شاسعة ليأخذ عنه حديثاً. حينما وجده يضم حجره ويدعو بغلته يوهمها بطعام وحجره فارغ! فتحرج أن يروي عنه، وقد كذب على بغلته!
فهذا بناء أخلاقي دقيق نظيف لضمير المسلم وشخصيته التي تليق بمن يقوم أميناً على منهج الله في الأرض. وهو الأمر الذي تقرره هذه السورة. وهذه حلقة من حلقات التربية في الجماعة المسلمة التي يعدها الله لتقوم على هذا الأمر.
فإذا جئنا للموضوع المباشر الذي كانت هذه الآيات تواجهه عند نزولها.. وهو موضوع الجهاد.. فإننا نقف أمام موضوعات شتى للحديث والملاحظة والعبرة.
نقف أولاً أمام النفس البشرية التي تلم بها لحظات الضعف الطارئة، فلا يعصمها منها إلا عون الله، وإلا التذكير الدائم، والتوجيه الدائم، والتربية الدائمة.. فهؤلاء جماعة من المسلمين قيل في بعض الروايات: إنهم من المهاجرين الذين كانوا يتمنون أن يأذن الله لهم في القتال وهم في مكة من شدة الحماس والاندفاع.
وكانوا يؤمرون بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {فلما كتب عليهم القتال} في المدينة في الوقت المناسب الذي قدره الله {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب} أو هم جماعة من المسلمين في المدينة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله ليفعلوه فلما أمروا بالجهاد كرهوه!
وهذه الوقفة كفيلة بأن تفتح أعيننا على ضرورة الموالاة للنفس البشرية بالتقوية والتثبيت والتوجيه؛ وهي تواجه التكاليف الشاقة، لتستقيم في طريقها، وتتغلب على لحظات ضعفها، وتتطلع دائماً إلى الأفق البعيد. كما تلهمنا أن نتواضع في طلب التكاليف وتمنيها ونحن في حالة العافية! فلعلنا لا نقوى على ما نقترح على الله حين يكلفنا إياه! وهؤلاء جماعة من المسلمين الأوائل يضعفون ويقولون ما لا يفعلون؛ حتى يعاتبهم الله هذا العتاب الشديد، وينكر عليهم هذا الإنكار المخيف!
ونقف ثانية أمام حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.. نقف أمام هذا الإغراء القوي العميق على القتال في سبيل الله.. وأول ما يسجل هنا أنه كان لمواجهة حالة تقاعس وتخلف وكراهية للقتال. ولكن هذا السبب الغريب في الحادث المحدود لا ينفي أن الحض عام، وأن وراءه حكمة دائمة.
إن الإسلام لا يتشهى القتال، ولا يريده حباً فيه. ولكنه يفرضه لأن الواقع يحتمه، ولأن الهدف الذي وراءه كبير. فالإسلام يواجه البشرية بالمنهج الإلهي في صورته الأخيرة المستقرة. وهذا المنهج ولو أنه يلبي الفطرة المستقيمة إلا أنه يكلف النفوس جهداً لتسمو إلى مستواه، ولتستقر على هذا المستوى الرفيع. وهناك قوى كثيرة في هذه الأرض لا تحب لهذا المنهج أن يستقر، لأنه يسلبها كثيراً من الامتيازات، التي تستند إلى قيم باطلة زائفة، يحاربها هذا المنهج ويقضي عليها حين يستقر في حياة البشر. وهذه القوى تستغل ضعف النفوس عن البقاء في المستوى الإيماني وتكاليفه، كما تستغل جهل العقول، وموروثات الأجيال، لتعارض هذا المنهج وتقف في طريقه. والشر عارم. والباطل متبجح. والشيطان لئيم! ومن ثم يتعين على حملة الإيمان وحراس المنهج أن يكونوا أقوياء ليغلبوا عملاء الشر وأعوان الشيطان. أقوياء في أخلاقهم، وأقوياء في قتال خصومهم على السواء. ويتعين عليهم أن يقاتلوا عندما يصبح القتال هو الأداة الوحيدة لضمان حرية الدعوة للمنهج الجديد، وحرية الاعتقاد به، وحرية العمل وفق نظامه المرسوم.
وهم يقاتلون في سبيل الله.. لا في سبيل ذواتهم أو عصبيتهم من أي لون.. عصبية الجنس وعصبية الأرض وعصبية العشيرة وعصبية البيت.. في سبيل الله وحده، لتكون كلمة الله هي العليا. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وكلمة الله هي التعبير عن إرادته. وإرادته الظاهرة لنا نحن البشر هي التي تتفق مع الناموس الذي يسير عليه الكون كله. الكون الذي يسبح بحمد ربه. ومنهج الله في صورته الأخيرة التي جاء بها الإسلام هو الذي يتناسق مع ذلك الناموس؛ ويجعل الكون كله والناس من ضمنه يحكمون بشريعة الله. لا بشريعة يضعها سواه.
ولم يكن بد أن يقاومه أفراد، وأن تقاومه طبقات، وأن تقاومه دول. ولم يكن بد كذلك أن يمضي الإسلام في وجه هذه المقاومة؛ ولم يكن بد أن يكتب الجهاد على المسلمين لنصره هذا المنهج، وتحقيق كلمة الله في الأرض. ولهذا أحب الله سبحانه الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.
ونقف ثالثاً أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها: {صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام. ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفاً. صفاً سوياً منتظماً، وصفاً متيناً راسخاً ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعاً متماسكاً.. متناسقاً. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة.
وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: {صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء.. إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم.
بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام.
{وإذ قال موسى لقومه: يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم؟ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
{وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}..
وإيذاء بني إسرائيل لموسى وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق.
ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صوراً شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء.
كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} كأنهم لا يرون في رسالته خيراً، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير!
وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون.. حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى اجعل لنآ إلهاً كما لهم آلهة} وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامري: {فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا: هذآ إلهكم وإله موسى فنسي!} ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء: المن والسلوى. فقالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها} وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسئيون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} {ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا} {فذبحونا وما كادوا يفعلون} ثم طلبوا يوم عطلة مقدساً فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه.
وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى: {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا: {قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث.
وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة:
{يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم}..
وهم كانوا يعلمون عن يقين.. إنما هي لهجة العتاب والتذكير..
وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغاً، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى. وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً: {والله لا يهدي القوم الفاسقين}..
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال.
ثم جاء عيسى بن مريم. جاء يقول لبني إسرائيل:
{يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم}..
فلم يقل لهم: إنه الله، ولا إنه ابن الله، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله.
{مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}..
في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها، واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسة الطويلة المتصلة.. وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه. فهو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره، وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة، تخاطب العقل الراشد، في ضوء تلك التجارب، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته، المتفق مع طاقاته واستعداداته.
وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها. فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن.
وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه: {النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة، التي كانوا يتواصون بتكتمها!
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية. ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم. فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم، كرهوا هذا وحاربوه!
وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار. وهو القول الأخير..
ويبدو أن الآيات التالية في السورة جاءت على الأكثر بصدد استقبال بني إسرائيل اليهود والنصارى للنبي الذي بشرت به كتبهم. والتنديد بهذا الاستقبال، وكيدهم للدين الجديد الذي قدر الله أن يظهره على الدين كله، وأن يكون هو الدين الأخير!
{فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين. ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام؟ والله لا يهدي القوم الظالمين. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}..
ولقد وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه شتى الوسائل والطرق حرباً شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم. حاربوه بالاتهام: {فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين}.. كما قال الذين لا يعرفون الكتب ولا يعرفون البشارة بالدين الجديد. وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي، للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين الأوس والخزرج من الأنصار. وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة.
وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين كما وقع في غزوة الأحزاب. وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي سلول، ثم ما جرى في فتنة عثمان على يد عدو الله عبد الله بن سبأ. وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسوها في الحديث وفي السيرة وفي التفسير حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم.
ولم تضع الحرب أوزارها لحظة واحدة حتى اللحظة الحاضرة. فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الكيد للإسلام، وظلتا تغيران عليه أو تؤلبان عليه في غير وناة ولا هدنة في جيل من الأجيال. حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق، وحاربوه في الأندلس في المغرب، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حرباً شعواء حتى مزقوها وقسموا تركة ما كانوا يسمونه الرجل الأبيض.. واحتاجوا أن يخلقوا أبطالاً مزيفين في أرض الإسلام يعملون لهم في تنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضد الإسلام. فلما أرادوا تحطيم الخلافة والإجهاز على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي صنعوا في تركيا بطلاً!.. ونفخوا فيه. وتراجعت جيوش الحلفاء التي كانت تحتل الأستانة أمامه لتحقق منه بطلاً في أعين مواطنيه. بطلاً يستطيع إلغاء الخلافة، وإلغاء اللغة العربية، وفصل تركيا عن المسلمين، وإعلانها دولة مدنية لا علاقة لها بالدين! وهم يكررون صنع هذه البطولات المزيفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام والحركات الإسلامية في بلد من بلاد المسلمين، ليقيموا مكانه عصبية غير عصبية الدين! وراية غير راية الدين.
{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم. والله متم نوره ولو كره الكافرون}..
وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم: {هذا سحر مبين}.. ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد. وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل!
{والله متمم نوره ولو كره الكافرون}.. وصدق وعد الله. أتم نوره في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار. صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب، ولكن حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام ديناً يحبونه، ويجاهدون في سبيله، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر. فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء. وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين. وتنبض وتنتفض قائمة على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد.
لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد، في أيدي العبيد! وإن خيل للطغاة الجبارين، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد!
لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون:
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون}..
وشهادة الله لهذا الدين بأنه {الهدى ودين الحق} هي الشهادة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة. ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال، وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها، فهو هي، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان.
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها، ونقصت من أطرافها، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة. وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود.
فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته. فأما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق وعد الله مرة، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان. ثم زحف زحفاً سلمياً بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى.. وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة- منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي البطل الذي صنعوه! وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي أبطال آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء.
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل!
ولقد كانت تلك الآيات حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى. وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة. وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة.
بإذن الله.
وفي ظلال قصة العقيدة، وفي مواجهة وعد الله بالتمكين لهذا الدين الأخير، يهتف القرآن الكريم بالذين آمنوا.. من كان يواجه ذلك الخطاب ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم الدين.. يهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة. تجارة الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله:
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين}..
وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل، واستفهام وجواب، وتقديم وتأخير، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية.
يبدأ بالنداء باسم الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا}.. يليه الاستفهام الموحي. فالله سبحانه هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}..
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق. ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع: {تؤمنون بالله ورسوله}.. وهم مؤمنون بالله ورسوله. فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم! {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}.. وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة، يجيء في هذا الأسلوب، ويكرر هذا التكرار، ويساق في هذا السياق. فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار، وهذا التنويع، وهذه الموحيات، لتنهض بهذا التكليف الشاق، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض.. ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.. فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد.. ثم يفصل بهذا الخير في آية تالية مستقلة، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه، ويقره في الحس ويمكن له: {يغفر لكم ذنوبكم}.. وهذه وحدها تكفي. فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً؟ ولكن فضل الله ليست له حدود: {ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن}.. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم.. وحقاً.. {ذلك الفوز العظيم}..
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة. وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة.
فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق. فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض، ومتاع محدود في هذه الدنيا، فيكسب به خلوداً لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله، ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع؟
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليلة العقبة. قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشترط لربك ولنفسك ما شئت». فقال صلى الله عليه وسلم: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم».. قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل، ولكن فضل الله عظيم. وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض، يناسب تركيبها البشري المحدود. وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل: {وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}..
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله. الله الذي لا تنفد خزائنه، والذي لا ممسك لرحمته. فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة. وفوقها.. فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب.. فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟!
وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب.. إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة؛ ويعيش بقلبه في هذا التصور؛ ويطلع على آفاقه وآماده؛ ثم ينظر للحياة بغير إيمان، في حدودها الضيقة الصغيرة، وفي مستوياتها الهابطة الواطية، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة.. هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان، ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع، ليعيش فيه، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك.. ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجراً خارجاً عن ذاته. فهو ذاته أجر.. هذا الجهاد.. وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح. ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان. ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان. فهو مدفوع دفعاً إلى الجهاد. كائناً مصيره فيه ما يكون..
ولكن الله سبحانه يعلم أن النفس تضعف، وأن الاندفاع يهبط، وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط..
ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد؛ ويعالجها ذلك العلاج، ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع، في شتى المناسبات.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال