سورة النساء / الآية رقم 24 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

النساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)}.
التفسير:
فى هذه الآية بيان لآخر المحرمات من النساء، وهنّ ستة عشر صنفا، منهن خمسة عشر في الآيتين السابقتين، وصنف واحد في هذه الآية.
وهو: الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.. والمحصنات هن اللاتي تحصنّ بالزّواج، وصرن في عصمة الغير، أو تحصنّ في بيوتهن، وملكن أنفسهن، ولم يتزوجن بعد.
فهؤلاء هنّ في حصن يحرم على الرجل دخوله عليهن، إلا عن الطريق الشرعي بالزواج منهن، بعد أن تزول الحواجز التي كانت تحول بين الرجل وبين حلّهن له.
فإذا طلقت المرأة، المحصنة، أو مات عنها زوجها وانقضت عدتها المقدرة في الطلاق أو في الموت أحلّ لها من كان من غير محارمها أن يخطبها إلى نفسه، وأن يمهرها، ويتزوج بها، إذا رضيت أو رضى أهلها به زوجا.
وكذلك المرأة غير المتزوجة، هى محرمة على الرجل الذي أحلّ له الزواج منها، حتى يخطبها لنفسه، وترضى به أو يرضى به أهلها زوجا، ثم يمهرها، ويعقد عليها، عقدا صحيحا مستوفيا شروطه.
فهؤلاء المحصنات من النساء محرمات حرمة موقوتة بحواجز قائمة، فإذا زالت تلك الحواجز حلّ الزواج بهن.
ولهذا جىء بهذا الصنف من المحرمات في آخر المحرمات، ملحقا بصنف آخر حرّم حرمة مؤقتة، وهو الزواج من الأختين.. فإن الزواج بالثانية منهما محرم حرمة مؤقتة إلى أن تبين الأولى بطلاق أو موت، وتنقضى عدتها.
وقوله تعالى: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} هو استثناء وارد على حرمة المحصنات من النساء، فإن هؤلاء المحصنات محرّمات ما دمن في حراسة الحصانة القائمة عليهن، ولكن هناك حالة ترفع هذه الحراسة عن المرأة، وتجردها من الحصانة التي كانت لها، وهى أن تقع أسيرة حرب، فتصبح ملكا لآسرها، وبهذه الملكية لا يكون لزوجها، ولا لنفسها ولا لأهلها سلطان يدفع يد مالكها عنها، فله أن ينكحها بعد أن يستبرىء رحمها بالعدّة إن كانت متزوجة، وإلا فهى حل له من أول ساعة تقع فيها ليده.. وملك اليمين من النساء كما يكون بالغنيمة في الحرب، يكون بالشراء بالمال، أو الهبة ونحو هذا.
وقوله تعالى: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} هو إغراء بالحفاظ على هذه الحدود، والتزامها، كما بينها اللّه وجعلها عهدا وميثاقا بينه وبين المؤمنين به.. بمعنى احفظوا وارعوا ما كتب اللّه لكم وافترض عليكم من أحكام الزواج.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}.
هو إطلاق للقيد الوارد على المحرمات من النساء.. فما وراء هذا القيد الذي ضمّ ستة عشر صنفا من النساء، فهنّ مما أحلّ اللّه للرجال التزوج بهن، بشرط أن يطلب الرجل الزواج ممن يريدها، وأن يأخذ الرضا منها أو من وليتها، وأن يمهرها من ماله المهر المطلوب لها.
وفى قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} تنبيه إلى أن يبتغى بهذا المال الذي يسوقه الرجل إلى المرأة، الإحصان والتعفف بالزواج، لا مجرد الوصول إلى المرأة وقضاء الوطر منها، فذلك مال أنفق في حرام، واستبيح به مالا يحلّ، وأوقع صاحبه في محظور، هو السفاح والزنا.. وكان من حق هذا المال، وهو نعمة من نعم اللّه، أن يصان عن أن يكون مطية لعصيان اللّه ومحاربته، وألّا يعدل به عن الحلال بالإحصان، إلى مواقعة الحرام وارتكاب هذا المنكر الغليظ، وهو الزنا.
قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.
هو أمر إلزامىّ بالمهر الواجب تقديمه من الرجل إلى المرأة التي يرغب في الزواج بها.. فهو فريضة من اللّه، فرضها في مال الزواج للمرأة.. ولم يقف به الإسلام عن حد معينّ، بل تركه، حسب يسار الرجل وإعساره.. إلا أنه على أي حال لا بد من أن يكون شيئا معتبرا عند كل من الزوج والزوجة، له قدره وأثره عندهما معا، وله قيمته في الحياة.
وفى قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} دعوة إلى المياسرة بين الزوجين في المهر، فللمرأة بعد أن يعطيها الرجل المهر المناسب لها، أن تنزل عنه أو عن بعضه له، وللرجل بعد أن يعطى المهر المطلوب منه، أن يزيد فيما أعطى، وفى هذا وذاك تبادل لعواطف المودة والمعروف بين الزوجين، الأمر الذي ينتظم به شمل الأسرة، وتقوم عليه سعادتها.
والاستمتاع المطلوب إيتاء الأجر عنه هنا، هو ما يحققه الزواج للرجل من سكن نفسى، وأنس روحى، وقرّة عين بالبنين والبنات، إلى ما يجد من إشباع لغريزته الجسدية، مع العفة والتصوّن.
وما في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}.
اسم موصول، لغير العاقل، معدول به عن من التي يقع في حيزها العقلاء، وهن النساء المرغوب في الزواج منهن.
وفى اختيار النظم القرآنى لهذا الأسلوب إعجاز من إعجازه.. فإن ما في كلمة ما من التجهيل والتفخيم، ما يلقى إلى شعور الرجال إحساسا بعظم الأمانة، التي سيحملونها بهذا الزواج الذي هم مقدمون عليه، وبأنه نعمة عظيمة من نعم اللّه، لمن يعرف كيف يكشف أسرارها، ويتعرف على مواقع الخير فيها.
فالمرأة عالم رحيب، أشبه بالبحر، تكمن في أعماقه اللآلئ والدرر، كما تضطرب في كيانه الحيتان والأخطبوطات.. والصيد في هذا البحر يحتاج إلى مهارة وكياسة، وإلا وقع المحذور وساءت العاقبة.
هذا وقد حمل كثير من المفسرين قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} على نكاح المتعة وأن قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هو إشارة إلى الثمن الذي يقدمه الرجل للمرأة في مقابل الاستمتاع بها! والآية الكريمة في منطوقها لا تعطى هذا المفهوم، الذي فوق أنه- في وضعه هذا- عنصر دخيل على القضية التي أمسك القرآن الكريم بجميع أطرافها هنا، وهى قضية الزواج وما أحل اللّه وما حرّم على الرجال من النساء- فوق هذا فإن هذا المفهوم يناقض قوله تعالى {فَرِيضَةً} الذي هو وصف ملازم للمهر الذي أشار إليه سبحانه بقوله: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}.
كما أنه يناقض قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} [7: المؤمنون] والمرأة المتمتع بها ليست زوجة، لأنها لا تحسب في الأربع المباح للرجل الإمساك بهن، ولا ترث المتمتع بها ولا يرثها، كما أنها ليست ملك يمين لمن يتمتع بها.
وقد وقع خلاف كبير في زواج المتعة بين أهل السنّة الذين يقولون بتحريمه، والشيعة الذين يبيحونه، ويتعاملون به.. وهذا عرض موجز لتلك القضية، وآراء المختلفين فيها.
زواج المتعة.. والرأى فيه:
تعلّق إخواننا الشيعة في حلّ زواج المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد أوّل علماؤهم قوله تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} بالمتعة، وهو أن يتمتع الرجل بالمرأة إلى أجل مسمّى، وقالوا في مدلولها الشرعي: إنها (أي المتعة) عبارة عن عقد مخصوص، لرابطة زوجية إلى أجل مسمّى وبمهر معلوم، ويشترط في العقد: الإيجاب والقبول، ويبطل عند عدم ذكر المهر والأجل.
يقول الطبرسي- وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية، في تفسيره المعروف مجمع البيان عند تفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} يقول: قيل إن المراد به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم، عن ابن عباس، والسّدىّ، وابن سعيد، وجماعة من التابعين.. وهو مذهب أصحابنا الإمامية، وهو الواضح.. لأن لفظ الاستمتاع والتمتع، وإن كان في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن، لا سيما إذا أضيف إلى النساء، وعلى هذا يكون معناه: فمتى عقدتم عليهن هذا العقد المسمّى متعة فاتوهن أجورهن.
والشيعة إذ يذهبون هذا المذهب في تأويل الآية الكريمة إنّما يجدون معهم إجماعا يكاد يكون تامّا من المفسرين جميعا- سنّة، ومعتزلة، وشيعة- في تأويل الآية على هذا الوجه.. ولم نجد من المفسرين من حمل الآية على محمل آخر غير هذا، إلا النسفي في تفسيره، إذ يقول في الآية: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ.}.
إنها لا تدل على حلّ المتعة، والقول بأنها نزلت فيها، وتفسير البعض لها بذلك، غلط، وهو غير مقبول، لأن نظم القرآن الكريم يأباه، حيث بيّن- سبحانه- أولا المحرمات، ثم قال عزّ شأنه {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} وفيه شرط بحسب المعنى، فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وبهما قال الشيعة.
ثم قال جل وعلا: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} وفيه إشارة عن كون القصد لا مجرّد قضاء الشهوة، وحبّ استفراغ المنىّ، وعليه تبطل المتعة بهذا القيد، لأن مقصود المتمتع ليس إلّا ذاك، دون التأهل والاستيلاد وحماية النسب، كما أن كلمة الاستمتاع تدل على الوطء والدخول، وليس بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة.
وعلى هذا، فالخلاف بين الشيعة والسنة ليس في أصل المتعة وحلّها، فهم متفقون جميعا على أنها كانت موجودة في عهد النبىّ، ولكن الخلاف يجىء بعد هذا، فيذهب أهل السنة إلى أنها نسخت، على حين لا يقول الشيعة بهذا النسخ، ويردّون كل خبر ورد في هذا الشأن.
وأهل السنة إذ يقولون بنسخ نكاح المتعة إنما يستندون في هذا إلى أحاديث تروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، عند من يقول بنسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومنهم يقول إنها منسوخة بالقرآن.. كما سنرى.
فالقائلون بالنسخ بالقرآن، يذكرون هنا أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [5- 7: المؤمنون]. وفى هذا يقول الفخر الرازي: وهذه المرأة- أي في زواج المتعة- لا شك أنها ليست مملوكة، ولا زوجة، ويدل عليه أنها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ} وبالاتفاق لا توارث بينهما وثانيا لثبت النسب لقوله صلى اللّه عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وبالاتفاق لا يثبت وثالثا ولوجبت العدّة عليها، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.
وقد ردّ الشيعة على هذا، بأن الآية التي قيل إنها ناسخة، هى سابقة في نزولها للآية التي قيل إنها منسوخة، لأن الآية الأولى في سورة المؤمنون وهى مكية، وآية المتعة في سورة النساء وهي مدنية.. ولا يتقدم الناسخ على المنسوخ.
وأما ما استند إليه أهل السنة من الأحاديث التي وردت في تحريم المتعة فهو كثير، من ذلك ما جاء في موطأ مالك، عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه: «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة».
ويروى ابن حزم في كتابه الناسخ والمنسوخ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إنى كنت أحللت هذه المتعة، وإن اللّه ورسوله قد حرماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
وفى قول الرسول الكريم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة» إشارة صريحة إلى أن حلّ هذه المتعة كان بالسنة لا بالقرآن، وأن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أباح المتعة- وحيا من ربه- لظرف خاص، ثم حرّمها- وحيا من ربّه أيضا- بعد زوال هذا الظرف.. فقد روى البخاري، ومسلم، عن ابن مسعود، قال: «كنا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا ألّا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخض لنا أن ننكح المرأة بالثوب» ثم قرأ علينا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
.. ونكاح المرأة بالثوب أي تقديمه لها، إن كان الرجل لا يملك غيره.
وفى صحيح الترمذي: عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام.. كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه حتى نزلت الآية: {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ}.
قال، قال ابن عباس: فكل زواج سواهما حرام.
وهذا يعنى أن آية المؤمنون هذه نسخت ما كان أبيح بالسنّة في أول الإسلام، ولم تنسخ آية النساء التي قيل إنها نسخت بآية المؤمنون والتي اعترض الشيعة على القول بنسخها، لأنها متأخرة نزولا عن آية المؤمنون ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم.
وذكر الفخر الرازي في تفسيره، أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة، قال ابن عباس: قاتلهم اللّه، إنى ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكنى قلت إنها تحلّ للمضطر، كما تحل الميتة والدم، ولحم الخنزير.
وفى صحيح مسلم، عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: رخّص لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها وعام أوطاس، هو عام الفتح، وأوطاس واد بديار هوازن.
وهذا الحديث يؤيد ما رواه ابن ماجة في سننه عن ابن عمر، عن عمر- رضى اللّه عنهما- أن عمر خطب الناس، فقال: «إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها، واللّه لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلّا أن يأتينى بأربعة يشهدون أن رسول اللّه أحلّها بعد إذ حرمها».
والشيعة يعارضون هذه الأحاديث بأحاديث أخرى تثبت جواز نكاح المتعة، والعمل به في عهد الرسول، وفى خلافة أبى بكر، وأن عمر بن الخطاب- الخليفة الثاني- هو الذي أبطله في الشطر الثاني من خلافته.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه، ففعلناها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أي في عهده) ولم ينزل قرآن يحرّمها وينهى عنها حتى مات صلى اللّه عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء، يريد بالرجل عمر بن الخطاب، رضى اللّه عنه.
وفى صحيح مسلم، عن أبى نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه، فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعدلهما.
وروى ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد- عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من اللّه، رحم بها أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولو لا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقىّ.
والشيعة إذ تأخذ بهذه الأحاديث التي تضيف إلى عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- أنه هو الذي أبطل نكاح المتعة، وأن ذلك كان عن رأى رآه، واجتهاد اجتهده. فهم والأمر كذلك- غير محجوجين بما صنعه عمر، مادام في أيديهم كتاب اللّه الذي أباح المتعة حسب تأويلهم لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وما صح من إجماع المسلمين على أنها كانت جائزة في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم، وفى خلافة أبى بكر، وبعض خلافة عمر، ثم ما يظاهر ذلك من أحاديث ثبت عندهم صحتها، ولم تثبت عندهم الأحاديث التي قيل إنها حرمتها.
الآية الكريمة ومفهومها:
وقد رأينا تعارض الأحاديث التي جاءت في المتعة، والذي ذكرناه منها قليل إلى الكثير الذي أجمعت عليه كتب الأحاديث والتفسير.
والذي نريد الجواب عليه هو: هل جاء القرآن الكريم بإباحة المتعة حقا؟
وهل الآية الكريمة التي قيل إنها مستند هذه الإباحة، هى نصّ في هذا الحكم الذي أخذوه منها، والذي يجمع عليه المفسرون، على اختلاف مذاهبهم؟ ثم كيف يكون هذا، ثم يجىء عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فينقض حكما من أحكام اللّه، وببطل آية من آيات كتابه؟ وكيف قبل المسلمون هذا منه وأقروه عليه؟
ندع هذا الآن.. ونجيب على الآية الكريمة: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وما فهم منها من أنها نص في حل المتعة؟.
وننظر في الآية الكريمة التي جاء فيها هذا المقطع: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
ننظر فنجد:
أولا: أن هذه الآية هى خاتمة الآيتين اللتين قبلها، والتي ذكر فيهما تحريم أصناف من النساء، لا يحلّ التزوج بهن، وفى هذه الآية تتمة لهذه الأصناف، حيث ذكر فيها صنف واحد منهن، وهن المحصنات من النساء، أي المتزوجات.
ثانيا: بعد هذه القيود التي فرضها اللّه سبحانه على المحرمات من النساء، ورد حكمان:
الحكم الأول: ما كان من النساء في ملك الإنسان من الإماء، فإنهن لا عصمة لهن في أعراضهن لمن ملك ذواتهن.. وكان الأصل أن يعددن في المحصنات، إذ لم يقع عليهن زواج، بإيجاب وقبول، ومهر وشاهدين، كما هو الشأن في عقد الزواج مع الحرائر، ولكن لما كانت تلك حالهن، وهذا وضعهن في الحياة، فقد جاء الاستثناء هنا، ليقرر هذا الواقع الذي يعشن فيه مع من ملكوا رقابهن، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
والحكم الثاني: هو إطلاق الإباحة- التي هى الأصل- في التزوج بين الرجل والمرأة، وذلك بعد تجنب أولئك المحرمات اللاتي ورد ذكرهنّ وفى هذا يقول سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} والابتغاء هو طلب الزواج من أي امرأة غير اللاتي سبق ذكرهن.. والابتغاء لا يكون بالرغبة مجردة، ولكن بالرغبة ومعها المال الذي يصلح مهرا للمرأة المراد التزوج منها، والذي يهيىء لها بعد الزواج حياة صالحة تجد فيها السكن والاستقرار هى وما تثمر الزوجية من ذرية.. وبهذا المال الذي هو رزق من رزق اللّه ينبغى أن تطلب المرأة التي أحل التزوج بها، وأن يصان عن أن يكون أداة لطلب المتعة من المرأة، على غير ما شرع اللّه في الزواج..
وثالثا: يجىء بعد هذا قول اللّه تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
فالضمير في {به} يعود إلى المال المشار إليه في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ}، والضمير في {منهن} يعود إلى من أحل من النساء، وهن لمشار إليهن في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} ويكون معنى الاستمتاع هنا، طلب الزوجة، أي ومن طلبتم بهذا المال الذي في أيديكم من هؤلاء النساء فآتوهن مهورهن، فريضة فرضها اللّه عليكم، ولا حرج عليكم في أن تتياسروا فيما بينكم، بعد أداء هذا الحق، فيكون للمرأة أن تنزل عن شيء من هذا المهر، الذي صار حقا لها في يدها، ويكون للرجل أن يزيد في المهر بعد أن أعطى الحق الذي عليه.
فالقضية هنا قضية الزواج في صميمها، قد جاءت آيات اللّه لتكشف حلالها وحرامها، وتحدّد حدودها، وتلزم الرجال بأول شيء وأهم شيء مطلوب منهم فيها وهو المهر، بعد أن تتجه رغبة الرجل إلى الزواج من المرأة التي أحلّ اللّه له الزواج منها، والتي ليست واحدة من أولئك المحرمات.. فليس بمعقول أبدا أن يدخل على هذه القضية، قضية المتعة، التي هى في حقيقتها أكثر من قضية الزواج تعقيدا، وأشدّ عسرا، وأخطر أثرا- بالإشارة إليها تلك الإشارة الخفية، لو صحّ أنّ الإشارة كانت إليها، ولما عرضها هذا العرض الخاطف، بل لجعلها قضية بذاتها، ولرسم حدودها، وبيّن معالمها، وموقف كل من الرجل والمرأة فيها.
وانظر كيف كان موقف الشريعة من التزوج بالإماء، وهنّ ما هنّ في الحياة الاجتماعية التي كانت لهنّ.
يقول اللّه تعالى بعد هذا مباشرة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ففى الزواج من الإماء أمور:
أولها: أن الزواج بهن لا يصار إليه إلا عند قلّة المال.. على خلاف زواج المتعة، الذي لا يمنع منه كثرة المال ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، إذ لا يقصر المحلّون لزواج المتعة إباحته على المعسرين، بل هو- في الواقع- للأغنياء قبل الفقراء.
وثانيها: أنها تتزوج كزواج الحرة، أي زواجا مطلقا زمنه، غير محدود- وذلك على خلاف المتعة التي لا تصح- كما يقول القائلون بها إلا إذا نصّ فيها على زمن معين: ساعة، أو يوما، أو شهرا، أو سنة، أو سنين!.
وثالثها: أن الأمة تحصن بالزواج، وتؤخذ بأحكامه، من طلاق، وعدّة، وإقامة حدّ، عند ثبوت الزنا: {فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}.
وهذا يعنى أنها ذات كيان شخصى، واعتبار إنسانى، بما أضفاه عليها الزواج من مكانة في المجتمع.. على خلاف المتعة، فإنها لم تشرّع لها الشريعة شيئا، لا في كتاب اللّه، ولا في سنة رسوله، وإنما كل ما تعلق بها من أحكام، هو من عمل القائلين بها، ومن تقديرهم لها.
ورابعها: أن الزواج بالإماء- وإن أباحته الشريعة- هو أشبه بالمحظور، لا يصار إليه إلا عند العجز عن زواج الحرائر، وإلّا عند الحاجة التي يخشى معها المسلم الخطر على دينه.. {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
هذا هو الوجه الذي يطلّ علينا من الإماء، ونحن ننظر إليهن كزوجات.
فما الوجه الذي تبرز لنا به الحرائر، ونحن نرمى بأبصارنا إليهن وهن في معرض المتعة؟.
الحقّ أن زواج المتعة- على الرغم مما رسم له أصحابه من حدود، حين قالوا بالعدّة بعد انتهاء الأجل، وحين سمّوا الجعل الذي يجعله المتمتع للمرأة، مهرا، وعلى ما قرروه من نسبة الولد إلى من علقت به المرأة منه- على الرغم من كل هذا، فإنه ينزل بالمرأة إلى أدنى درجات الإنسانية، ولا يجعل منها عند المتمتع بها أكثر من أجيرة، تبيع عرضها لمن يدفع الثمن الذي يرضيها.
وما ظنك بامرأة لا تسكن إلى بيت، ولا يكون لها عند الرجل أكثر من هذا القدر من المال الذي جعله لها نظير المتعة، فلا يلزمه لها طعام ولا كساء ولا سكن، وإنما كل الذي لها عند الرجل- على شريعة المتعاملين بها- هو المال الذي يتفق هو وهى عليه، مقابل تمتعه بها.. فأى امرأة هذه؟ وأي رابطة إنسانية بينها وبين الرجل؟ وأين ما يجده الرجل في المرأة من سكن، ومخالطة روحية ونفسية، قبل المخالطة الجسدية؟ واللّه سبحانه وتعالى يذكرّ عباده بتلك النعمة الجليلة التي يجدها الرجل في المرأة، إذ يقول: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}.
فأين السّكن وأين المودة؟ وأين الرحمة في زواج المتعة؟ وأين ما تجده المرأة في رجل المتعة من قوامة عليها، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} وكم تعاشر المرأة التي تعيش في حياة المتعة من رجال؟ وكم تلتقى بوجوه من المتمتعين بها؟ عشرات ومئات! فهل يجد الرجل في مثل هذه المرأة شيئا من العاطفة الإنسانية التي بين المرأة والرجل؟ وهل يجد إلا صورة من لحم ودم، أو بقية صورة من لحم ودم؟
وأين الحرمة القائمة على صيانة الأنساب وعدم اختلاطها؟ وهل لهذه العدة التي قررها أصحاب المتعة حرمة في نفس امرأة المتعة التي تعيش مع الرجل ساعة أو ما هو أقل من ساعة؟ ذلك محال.
ثم أين البيت الذي يقوم على زواج المتعة؟ وأين الأسرة التي يضمها هذا البيت ويحتويها؟
يقول العاملون بالزواج المتعى: إنه مع إباحة المتعة عندهم، فإن البيوت قائمة، والأسر عامرة.. ولم يحل زواج المتعة بيننا وبين الزواج الدائم الذي شرعته الشريعة الإسلامية.
ونقول: هذا شاهد على أن زواج المتعة غير معتبر عند أصحابه، وأنه إذا أشبع شهوة الجسد، وأرضى مطالبه، فإنه لم يعد منه شيء على جانب القلب والروح، بل إنه ربّما زاد القلب ظمأ، والروح تطلعا إلى المرأة التي تسكن إلى الرجل ويسكن إليها.
ونسأل: أكان التسرّى، وامتلاء الدور بالإماء والجواري- قبل إلغاء الرق- أكان مغنيا عن الزواج وداعيا إلى الزهد فيه والعزوف عنه؟
إن هذا من ذك.. سواء بسواء.
فإذا ذهبنا نسأل عن الحلال والحرام، وسألنا عن قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} لم نجد لهذه الآية المحكمة مكانا بين المسلمين مع القول بإباحة المتعة.. فإنه مع المتعة لا مجال للتعفف حتى يجد الرجال المال الذي يمكنهم من الزواج، إذ كان في استطاعة أي رجل أن يحصل على المرأة بالمتعة، ولو برغيف، أو مادون الرغيف- كما يقرر ذلك المشرعون للمتعة- بل إن الأمر لأهون من هذا، إذا اتفقت المرأة والرجل على المتعة ولو بتمرة يلتقطها الرجل من الأرض! إن الحياة الزوجية بمعناها الذي تقرر في الشريعة الإسلامية، هى فطرة في الإنسان، وما جاءت الشرائع لتقررها، وإنما كل ما جاءت به الشرائع هو تنظيمها، وتوضيح معالمها، وحمايتها من الأمراض الوافدة عليها، والبدع الملتصقة بها.. بل إن في كثير من أجناس الحيوان والطير ما يعقد صلته على حياة دائمة متصلة بين الذكر والأنثى، حتى لا يفرقهما إلا الموت، وحتى ليموت أحدهما أسى وحسرة بعد موت رفيقه، وشريك حياته، فلا تهنؤه حياة من بعده! وبعد.
فهل كان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه- هو الذي عارض شريعة اللّه وحرم ما أحلّ اللّه من متعة؟
ولا نجد ردّا على هذا أبلغ مما ذكره الفخر الرازي في تفسيره! يقول الرازي: ذكر- أي عمر- هذا الكلام (أي ما قاله في تحريم المتعة) في خطبة، في مجمع الصحابة، وما أنكر عليه أحد.. فالحال هنا لا يخلو. إمّا أن يقال إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة، ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا بإباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقّفين في ذلك.. والأول- وهو علمهم بحرمة المتعة وسكوتهم- هو المطلوب، والثاني- وهو علمهم بإباحة المتعة وسكوتهم عن عمر- يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة، لأن من علم أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة، من غير نسخ، فهو كافر باللّه، ومن صدقه عليه، مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا، وهذا يقتضى تكفير الأمة. وهو على ضدّ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
والثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة، فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح.
واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما، عامة في حق الكل، ومثل هذا يمتنع أن يبقى خفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عالمين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك.
ولما بطل هذان القسمان- الثاني والثالث- ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر لأنهم كانوا عالمين أن المتعة صارت منسوخة في الإسلام.
وننتهى من هذا إلى حقيقتين، ينبغى أن نقررهما في هذا المقام:
أولاهما: أن القرآن الكريم لم يجر فيه ذكر بإباحة المتعة، وأن الآية الكريمة، التي يستشهدون بها لهذا، وهى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} إنما هى لتقرير حكم من أحكام الزواج الشرعي الدائم، وهذا الحكم، هو المهر الواجب لصحة عقد هذا الزواج.
وثانيتهما: أن إباحة المتعة كانت مما أباحه الرسول الكريم- بإذن ربه- في حال خاصة، حيث كان المجاهدون من المسلمين في حال غربة، ولم يكونوا قد اصطحبوا نساءهم معهم، فخافوا الفتنة على أنفسهم، حتى أن بعضهم طلب الإذن لهم بالخصاء، كما أشرنا إلى ذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود، رضى اللّه عنه، وهو قوله: كنا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ثم قرأ علينا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
وفى هذا الحديث:
أولا: أن المسلمين لم يكونوا إلى تلك الواقعة قد أذنوا بشىء في المتعة.
وثانيا: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم هو الذي رخّص لهم، وأنه لم يتل عليهم الآية التي قيل إنها نزلت في المتعة، بل تلا عليهم، تلك الآية الكريمة التي تدعوهم إلى الإبقاء على العضو الذي يصل الرجل بالمرأة، وألا يحرموا أنفسهم التمتع بالنساء، وهن من الطيبات التي أحل اللّه لهم أن يتمتعوا بها.. فلو كانت للمتعة آية، لذكرها الرسول الكريم، ولأوضح للمسلمين مفهومها إن كانت في حاجة إلى توضيح، وإلا لسكت الرسول حتى يأتيه أمر ربه بآية، أو وحي غير قرآنى.. فجاءه الوحى غير القرآنى، الذي أباح فيه الرسول للمسلمين المتعة في تلك الحال، التي هى خروج على أصل التحريم لنكاح المتعة، بحكم الاضطرار فهى كما قال ابن عباس فيما روى عنه. إنها تحل للمضطر، كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير.
ومما يستشهد به لإباحة المتعة عن طريق السنة قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة ألا وإن اللّه ورسوله قد حرّماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فقول الرسول الكريم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة» صريح في أن هذا كان من السنة ومن عمل الرسول، وليس مما جاء به القرآن الكريم.. وفى قوله صلوات اللّه عليه «هذه المتعة» وفى الإشارة إليها على هذا الوجه، ما ينبىء عن سقوطها وتقذّرها. ويؤيد هذا، الحديث المروىّ عن رسول اللّه: «يا أيها الناس إنى أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن اللّه قد حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» فقد أشار الرسول إلى نساء المتعة بقوله: «هذه النساء» ولم يقل هؤلاء النساء لصغار شأنهن، وأنهن في حكم شيء واحد.. وفى قوله صلى اللّه عليه وسلم: «فمن كان عنده منهن» ولم يقل من كان عنده امرأة أو أكثر منهن، وذلك للإشارة إلى أن أنهن أشياء.. مجرد أشياء.. وفى قوله «منهن» إشارة ثالثة إلى أنهن صنف له وضع خاص في المجتمع، وهو وضع مشين، يكنى عنه، ولا يصرّح به.
وعلى هذا فإن المتعة أبيحت بالسنّة في حال خاصة، في ظرف اضطراري، وأنها قد حرمت بالسنة بعد زوال هذا الظرف، وإن إباحتها كانت لأناس مخصوصين لا يجوز أن يلحق بهم غيرهم إلى يوم القيامة، وأن عمر بن الخطاب إنما كان موقفه منها هو توكيد هذا التحريم، وقطع الطريق على أولئك الذين أرادوا أن يجعلوا تلك الخصوصية التي كانت لهؤلاء الذين أباح لهم النبىّ المتعة- منسحبة إلى غيرهم إذا دعت داعيتها، وهى الاضطرار، بالانقطاع عن الأهل، في جهاد أو سفر أو نحوهما.
أخرج مسلم في صحيحه، عن أبى نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللّه، فقال: على يدى دار هذا الحديث، تمتعنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أي في حياته) فلما قام عمر (أي ولى الخلافة) قال: إن اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموّا الحجّ والعمرة، وأبتّوا (أي اقطعوا) نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة أي حكم عليه حكم الزاني المحصن، حيث كان الذين يقعون تحت هذا الحكم هم من المحصنين الذين استطاعوا أن يتزوجوا بامرأة أو أكثر، ثم كانت المتعة عندهم مطلبا آخر، من مطالب المتعة، ولهذا اعتبرها عمر زنا صريحا.. وقول عمر: إن اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، هو صريح في أن ذلك كان من خصوصيات الرسول، وأن إذنه في حال خاصة، ولشخص أو أشخاص معينين، بما يأذن به، لا ينسحب إلى غيرهم، كما هو مقرر في الشريعة باتفاق.
وبعد:
فإن الكلام في نكاح المتعة كثير، وهو- على أي حال- باب شرّ سدّه المسلمون، وأجمع أهل السنة جميعا على تحريمه، وإن كان لبعض الشيعة متعلّق به، وحجة عليه، لما ثبت من أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان قد أباحه في ظرف خاص في إحدى الغزوات التي طالت غربة المجاهدين فيها.. ثم ثبت عند أهل السنة أن الرسول حرّمه، بعد أن زالت الحال الداعية له... فهو أشبه بالميتة التي يباح للإنسان التناول منها عند الاضطرار، وخوف الموت جوعا!.
فلو أن نكاح المتعة كان مباحا على إطلاقه لفسد نظام المجتمع، ولا نحّلت روابط الأسرة، ولما رغب الرجال عنه إلى الزواج واحتمال تبعاته! بل ولما كان من الإسلام تلك العناية البالغة، التي أولاها لقضية الزواج، التي تكاد تكون أبرز وأهم قضية عرض لها التشريع الإسلامى، فوضع الحدود الواضحة المفصلة للزواج، والطلاق، والعدة، والرضاع، والميراث، وعرضها عرضا كاشفا، في معارض مختلفة من النظم، حتى تتأكد وتتقرر.
إن الطبيعة البشرية السليمة تعاف هذا المورد، وتأبى أن تقيم حياتها عليه.. بل إن الحياة الجاهلية لم تعرف نكاح المتعة، ولم تعترف به، وإن عرفت الزنا، وأطلقته، وغشى موردة الرجال والنساء، جهرة.. إلّا أنهم- مع هذا- كانوا يضعون الزنا بهذا الموضع الخسيس الذي هو له، ويعزلون النساء اللائي يحترفن هذا المنكر عن مجتمع الحرائر، ويفرضون عليهن أن يقمن على بيوتهن رايات، حتى يعرفن بها.
إن نكاح المتعة هو الزنا متسترا بظلال الحلال، وهو أشبه بالنفاق الذي يخفى وجه صاحبه وراء كلمة الإيمان، يقولها المنافق بفمه، ولا يقيمها في قلبه.
والزّنا الصّراح خير من هذا الزّنا المتخذ اسم المتعة مجازا له.. إذ كان الزاني يزنى وهو يعلم يقينا أنه يأتى فاحشة، ويواقع منكرا.. ومثل هذا قد تكون له توبة إلى اللّه، واحتجاز عن هذه الفاحشة.. وليس كذلك من يزنى تحت اسم المتعة لأنه يحلّ هذا الحرام، ويستبيح تلك الفاحشة، بهذا المدخل الذي يدخل به إليها، ويرفع عن صدره الضيق والأذى، الذي كان يجده لو أتى ما أتى من غير أن يستصحب معه هذه الكلمة المنافقة.. كلمة المتعة!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال