سورة الجمعة / الآية رقم 7 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

الجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعةالجمعة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


نزلت هذه السورة بعد سورة الصف السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف، ولكن من جانب آخر، وبأسلوب آخر، وبمؤثرات جديدة.
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيراً لحمل أمانة العقيدة الإيمانية؛ وأن هذا فضل من الله عليها؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين وهم العرب منة كبرى تستحق الالتفات والشكر، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول، واحتملت الأمانة؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعدما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفاراً، ولا وظيفة له في إدراكها، ولا مشاركة له في أمرها!
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان.
وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به- على عادة الجاهلية- من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة!وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون! كما تذكر الروايات، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم.
وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعاً. وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى.
وفي السورة مباهلة مع اليهود، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك رداً على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وأنهم شعب الله المختار، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون! كما كانوا يدعون! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم.
وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه، وأنه ملاقيهم مهما فروا، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون.. وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك. فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق!
هذا هو اتجاه السورة، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الاتجاه الواحد العام. فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه..
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، الملك القدوس العزيز الحكيم}..
هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله؛ ويصفه سبحانه بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة. السورة التي اسمها الجمعة وفيها تعليم عن صلاة الجمعة، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها، وترك اللهو والتجارة، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة. ومن ثم تذكر: {الملك}.. الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب. وتذكر {القدوس} الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره. وتذكر {العزيز}.. بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعاً والرجعة إليه والحساب. وتذكر {الحكيم}.. بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال.
ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي:
{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم}..
قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون في الأعم الأغلب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه» وقال: «إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب». وقيل: إنما سمي من لا يكتب أمياً لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم، لأن الكتابة إنما تكون بالإستفادة والتعلم.
وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم: إنهم جوييم باللغة العبرية أي أمميون.
نسبة إلى الأمم بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم! والنسبة في العربية إلى المفرد.. أمة.. أميون.. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة.
ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل. وكانوا يستفتحون بهذا على العرب، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب، من الأميين غير اليهود؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية كما سيجيء في المقطع التالي في السورة وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف. وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل!
وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل.. ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم} كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب، ومن وراء القرون، محفوظة عند الله لا تضيع، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله، وفق حكمته؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسقيه، حتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء، ولا يستأخر عن موعده المرسوم.
وتحققت هذه الدعوة وفق قدر الله وتدبيره بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم.. {رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. كما قال إبراهيم! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم: {إنك أنت العزيز الحكيم} هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا: {وهو العزيز الحكيم}.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: «دعوة أبي إبراهيم. وبشرى عيسى. ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام».
{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}..
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين؛ وليرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم، وتغيير ما بهم، وتمييزهم على العالمين..
{ويزكيهم}.. وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير للضمير والشعور، تطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية.
تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح. وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني. ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال.. إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع. تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ الأعلى؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم.
{ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل الكتاب. ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور، ويحسنون التقدير، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير.
{وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليكرّهاه في المهاجرين من المسلمين، ويشوها موقفهم عنده، فيخرجهم من ضيافته وجيرته.. فقال جعفر: أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات، ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى عليه السلام، ولا من بعده. حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة.
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية، ومن انحلال الحضارة في الإمبراطوريات الكبيرة، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول: ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى. لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها.
وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام. وكانت المدنية، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه..
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي. وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاماً وظلاماً!
وقد اختار الله سبحانه تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء. فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
{وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم}..
وهؤلاء الآخرون وردت فيهم روايات متعددة..
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء»فهذا يشير إلى أن هذا النص يشمل أهل فارس. ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»ثم قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}.. يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلا القولين يدخل في مدلول الآية. فهي تدل على آخرين غير العرب. وعلى آخرين غير الجيل الذي نزل فيه القرآن. وتشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان، تحمل هذه الأمانة الكبرى، وتقوم على دين الله الأخير.
{وهو العزيز الحكيم}.. القوي القادر على الاختيار. الحكيم العليم بمواضع الاختيار..
واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم:
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم}..
وإن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه، والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض.. إن اختيار الله هذا لفضلٌ لا يعدله فضل. فضل عظيم يربى على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته؛ ويربى على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد.
والله يذكر الجماعة المسلمة في المدينة، والذين يأتون بعدها الموصولين بها والذين لم يحلقوا بها. يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة، ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي، ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى. يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم، وجميع النعم؛ كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام..
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل:
{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}..
فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة.. {ثم لم يحملوها}.. فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم وكما هي في حقيقتها لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة. ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها. فهو ليس صاحبها. وليس شريكاً في الغاية منها!
وهي صورة زرية بائسة، ومثل سيِّئ شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}..
ومِثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها. والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين. بخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب، وهم لا ينهضون بما فيها.. أولئك كلهم، كالحمار يحمل أسفاراً. وهم كثيرون كثيرون! فليست المسألة كتب تحمل وتدرس. إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب.
وكان اليهود يزعمون كما يزعمون حتى اليوم أنهم شعب الله المختار، وأنهم هم أولياؤه من دون الناس وأن غيرهم هم الجوييم أو الأمميون أو الأميون.
وأنهم من ثم غير مطالبين بمراعاة أحكام دينهم مع غيرهم من الأميين: {قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}.. إلى آخر هذه الدعاوى التي تفتري الكذب على الله بلا دليل! فهنا دعوة لهم إلى المباهلة التي تكررت معهم ومع النصارى ومع المشركين:
{قل: يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون}..
والمباهلة معناها وقوف الفريقين المتنازعين وجهاً لوجه، ودعاؤهما معاً إلى الله أن ينكل بالمبطل منهما.. وقد خاف كل من دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه المباهلة ونكلوا عنها، ولم يقبلوا التحدي فيها. مما يدل على أنهم في قرارة نفوسهم كانوا يعرفون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقية هذا الدين.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الزرقي، حدثنا أبو يزيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم ابن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل لعنه الله إن رأيت محمداً عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عياناً». ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا.
وقد لا تكون هذه مباهلة ولكن مجرد تحد لهم، بما أنهم يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس. فما يخيفهم إذن من الموت، ويجعلهم أجبن خلق الله؟ وهم حين يموتون ينالون ما عند الله مما يلقاه الأولياء والمقربون؟!
ثم عقب على هذا التحدي بما يفيد أنهم غير صادقين فيما يدعون، وأنهم يعرفون أنهم لم يقدموا بين أيديهم ما يطمئنون إليه، وما يرجون الثواب والقربى عليه، إنما قدموا المعصية التي تخيفهم من الموت وما وراءه. والذي لم يقدم الزاد يجفل من ارتياد الطريق:
{ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين}..
وفي نهاية الجولة يقرر حقيقة الموت وما بعده، ويكشف لهم عن قلة الجدوى في فرارهم من الموت، فهو حتم لا مهرب منه، وما بعده من رجعة إلى الله، وحساب على العمل حتم كذلك لا ريب فيه:
{قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم. ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون}.
وهي لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين. تقر في الأخلاد حقيقة ينساها الناس، وهي تلاحقهم أينما كانوا.. فهذه الحياة إلى انتهاء. والبعد عن الله فيها ينتهي للرجعة إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه. والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة. فلا مهرب ولا فكاك.
روى الطبري في معجمه من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعاً: مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب، تطلبه الأرض بديْن، فجاء يسعى، حتى إذا أعيا وأنهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب! ديْني. فخرج له حصاص. فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات..
وهي صورة متحركة موحية عميقة الإيحاء..
والآن يجيء المقطع الأخير في السورة خاصاً بتعليم يتعلق بالجمعة، بمناسبة ذلك الحادث الذي وقع ربما أكثر من مرة، لأن الصيغة تفيد التكرار:
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.
{وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئماً. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة. والله خير الرازقين}..
وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة، التي لا تصح إلا جماعة.. وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله. وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة؛ وكلاهما عبادة. وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب.
جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل».
وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها».
وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى».
والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع وسائر نشاط المعاش بمجرد سماعهم للأذان:
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}..
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت:
{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}..
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب. وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض، ليخلو إلى ربه، ويتجرد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره، من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه!
ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله:
{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.. وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي. والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب. وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر. وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة. ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد الممحض. كما توحي هاتان الآيتان.
وكان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني. فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين».. (رواه ابن أبي حاتم).. هذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جداً، في بساطة تامة، فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك!
ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه، مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية. مما تصوره الآية الأخيرة في السورة:
{وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئما. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}..
عن جابر رضي الله عنه قال: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال