سورة الملك / الآية رقم 14 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ

الملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملكالملك




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا الجزء كله من السور المكية. كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية. ولكل منهما طابع مميز، وطعم خاص.. وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن كمطلع سورة المدثر ومطلع سورة المزمل. كما أن فيه سوراً يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة بحوالي ثلاث سنوات كسورة القلم. وبحوالي عشر سنوات كسورة الجن التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، حيث أوذي من ثقيف. ثم صرف الله إليه نفراً من الجن فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن، مما حكته سورة الجن في هذا الجزء. وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين. وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح بأن السورة نزلت في أوائل البعثة.
والقرآن المكي يعالج في الغالب إنشاء العقيدة. في الله وفي الوحي، وفي اليوم الآخر. وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه. والتعريف بالخالق تعريفاً يجعل الشعور به حياً في القلب، مؤثراً موجهاً موحياً بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب، وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب، وبالقيم والموازين التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة، وسنرى نماذج منه في هذا الجزء.
والقرآن المدني يعالج في الغالب تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية؛ وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة، والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي.
وهذه السورة الأولى سورة تبارك تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود، إلى عوالم في السماوات، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير، وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها، وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة، في هذه الأرض. كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين.
وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك، وتنفض الغبار، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون، وأغوار النفس، وطباق الجو، ومسارب الماء، وخفايا الغيوب، فترى هناك يد الله المبدعة، وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله.
وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض على سعتها إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر، وحركة الحياة، وحركة الأحياء.
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران. ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة من قدر الله وبلائه، ومن حكمة الله وتدبيره: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور}.
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته، ولا تلتفت لما فيه من كمال. ولكن السورة تبعث حركة التأمل والاستغراق في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.. ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين..}.
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود، ونهاية المطاف. ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين. وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار: {وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير. إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ. كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ: ألم يأتكم نذير. قالوا: بلى! قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء؛ إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير!}.
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه، ولا تلقي بالاً إلى الغيب وما يحتويه. وهي مستغرقة في الحياة الدنيا محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء وإلى القدرة التي لم ترها عين، ولكنها قادرة تفعل ما تشاء حيث تشاء وحين تشاء؛ وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير. وأسروا قولكم أو اجهروا به، إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. أأمنتم من في السمآء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟ أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصباً؟ فستعلمون كيف نذير}..
والطير. إنه خلق يرونه كثيراً ولا يتدبرون معجزته إلا قليلاً. ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر، وترى قدرة الله الذي صور وقدر: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن؟ ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير}.
وهم آمنون في دارهم، مطمئنون إلى مكانهم، طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره. ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي، بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم، تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه: {أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن؟ إن الكافرون إلا في غرور}.
والرزق الذي تناله أيديهم، إنه في حسهم قريب الأسباب، وهي بينهم تنافس وغلاب. ولكن السورة تمد أبصارهم بعيداً هنالك في السماء، ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون: {أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه؟ بل لجوا في عتو ونفور}..
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون. فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقاً، في صورة متحركة موحية: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم؟}.
وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك؛ ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب. فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم، وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر، وتدبر الغاية من هذه البداية: {قل: هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون. قل: هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون}..
وهم يكذبون بالبعث والحشر، ويسألون عن موعده. فالسورة تصوره لهم واقعاً مفاجئاً قريباً يسؤوهم أن يكون: {ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل إنما العلم عند الله، وإنمآ أنا نذير مبين. فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدعون!}..
وهم يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أن يهلكوا فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود! فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب، فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب: {قل: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ قل: هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}.
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون، والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون! {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين؟}..
إنها حركة. حركة في الحواس، وفي الحس، وفي التفكير، وفي الشعور.
ومفتاح السورة كلها. ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها، هو مطلعها الجامع الموحي:
{تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير}.
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها..
فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة. وكان الابتلاء بهما. وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوماً للشياطين. وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها. وكان العلم بالسر والجهر. وكان جعل الأرض ذلولاً للبشر. وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين. وكان إمساك الطير في السماء. وكان القهر والاستعلاء. وكان الرزق كما يشاء. وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة. وكان الذرء في الأرض والحشر. وكان الاختصاص بعلم الآخرة. وكان عذاب الكافرين. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد..
فكل حقائق السورة وموضوعاتها، وكل صورها وإيحاءاتها مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير: {تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير}!!
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق، وتتدفق بلا توقف، مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل، مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع! ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل:
{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}..
هذه التسبيحة في مطلع السورة توحي بزيادة بركة الله ومضاعفتها، وتمجيد هذه البركة الرابية الفائضة. وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك، وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جناب الذات الإلهية. وهي ترنيمة تتجاوب بها أرجاء الوجود، ويعمر بها قلب كل موجود. وهي تنطلق من النطق الإلهي في كتابه الكريم، من الكتاب المكنون، إلى الكون المعلوم.
{تبارك الذي بيده الملك}.. فهو المالك له، المهيمن عليه، القابض على ناصيته، المتصرف فيه.. وهي حقيقة. حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير؛ وتخليه من التوجه أو الاعتماد أو الطلب من غير المالك المهيمن المتصرف في هذا الملك بلا شريك؛ كما تخليه من العبودية والعبادة لغير المالك الواحد، والسيد الفريد!
{وهو على كل شيء قدير}.. فلا يعجزه شيء، ولا يفوته شيء، ولا يحول دون إرادته شيء، ولا يحد مشيئته شيء. يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، وهو قادر على ما يريده غالب على أمره؛ لا تتعلق بإرادته حدود ولا قيود.. وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تطلق تصوره لمشيئة الله وفعله من كل قيد يرد عليه من مألوف الحس أو مألوف العقل أو مألوف الخيال! فقدرة الله وراء كل ما يخطر للبشر على أي حال.. والقيود التي ترد على تصور البشر بحكم تكوينهم المحدود تجعلهم أسرى لما يألفون في تقدير ما يتوقعون من تغيير وتبديل فيما وراء اللحظة الحاضرة والواقع المحدود. فهذه الحقيقة تطلق حسهم من هذا الإسار. فيتوقعون من قدرة الله كل شيء بلا حدود. ويكلون لقدرة الله كل شيء بلا قيود.
وينطلقون من أسر اللحظة الحاضرة والواقع المحدود.
{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور}..
ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له، وآثاره قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته.. أنه خلق الموت والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني؛ وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافاً بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض، واستحقاقهم للجزاء على العمل: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبداً يقظاً حذراً متلفتاً واعياً للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح. ومن ثم يجيء التعقيب: {وهو العزيز الغفور} ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه. فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار، وحذر وتوقى، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح!
إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب، لا يطارد البشر، ولا يعنتهم، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم؛ وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير.
ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه؛ كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة، بعد الابتلاء بالموت والحياة:
{الذي خلق سبع سماوات طباقاً، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير. ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين، وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم، وبئس المصير. إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى! قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير!}.
وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك، وللقدرة التي لا يقيدها قيد. ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء، ثم الجزاء.
والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها لا يمكن الجزم بمدلولها، استقاء من نظريات الفلك، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف. ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح. ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات. وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوته.
والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة. يوجه النظر إلى خلق الله، وهو يتحدى بكماله كمالاً يرد البصر عاجزاً كليلاً مبهوراً مدهوشاً.
{ما ترى من خلق الرحمن من تفاوت}.. فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب.. {فارجع البصر}.. وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت {هل ترى من فطور؟}.. وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل؟ {ثم ارجع البصر كرتين} فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه، فأعد النظر ثم أعده {ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}..
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها. فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وإيماءاته؛ ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع، لا تخلق بدائعه، لأنها أبداً متجددة للعين والقلب والعقل.
والذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل؛ فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقياً مباشراً حين يتفتح ويستشرف. ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئاً عن هذا الخلق الهائل العجيب.
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهدة وعجائبه. ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعاً، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفاً، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع.
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال.
ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها:
{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح}..
وما السماء الدينا؟ لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن. ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، التي نراها حين ننظر إلى السماء. فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء. وما كانوا يملكون إلا عيونهم، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء.
ومشهد النجوم في السماء ج




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال