سورة الجن / الآية رقم 28 / تفسير تفسير أبي حيان / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَأَنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً

الجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجنالجن




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا من جملة الموحى المندرج تحت {أوحى إليّ}، وأن مخففة من الثقيلة، والضمير في {استقاموا}، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز: هو عائد على قوله: {فمن أسلم}، والطريقة: طريقة الكفر، أي لو كفر من أسلم من الناس {لأسقيناهم} إملاء لهم واستدراجاً واستعارة، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير: هو عائد على القاسطين، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق، لأنعمنا عليهم، نحو قوله: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} وقيل: الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم، وأن هي المخففة من الثقيلة. {لأسقيناهم ماء غدقاً}: كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش. وقال بعضهم: المال حيث الماء. وقرأ الجمهور: {غدقاً} بفتح الدال؛ وعاصم في رواية الأعشى: بكسرها؛ ويقال: غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. {لنفتنهم}: أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به، أو لنمتحنهم ونستدرجهم، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في {استقاموا}. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو؛ والجمهور: بكسرها. وقرأ الكوفيون: {يسلكه} بالياء؛ وباقي السبعة: بالنون؛ وابن جندب: بالنون من أسلك؛ وبعض التابعين: بالياء من أسلك أيضاً، وهما لغتان: سلك وأسلك، قال الشاعر:
حتى إذا أسلكوهم في قبائدة ***
وقرأ الجمهور: {صعداً} بفتحتين، وذو مصدر صعد وصف به العذاب، أي يعلو المعذب ويغلبه، وفسر بشاق. يقال: فلان في صعد من أمره، أي في مشقة. وقال عمر: ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح، أي ما يشق عليّ. وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد: جبل في النار. وقال الخدري: كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف، أي عذاب صعد. ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه، وعذاباً مفعول من أجله. وقرأ قوم: صعداً بضمتين؛ وابن عباس والحسن: بضم الصاد وفتح العين. قال الحسن: معناه لا راحة فيه.
وقرأ الجمهور: {وأن المساجد}، بفتح الهمزة عطفاً على {أنه استمع}، فهو من جملة الموحى. وقال الخليل: معنى الآية: {وأن المساجد لله فلا تدعوا}: أي لهذا السبب، وكذلك عنده {لإيلاف قريش} {فليعبدوا} وكذلك {وأن هذه أمتكم} أي ولأن هذه. وقرأ ابن هرمز وطلحة: وإن المساجد، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل، فالمعنى: فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة. وقال الحسن: كل موضع سجد فيه فهو مسجد، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة.
وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد، وقال: إنه جمع مسجد وهو السجود. وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المواضع كلها لله، فاعبده حيث كنت. وقال ابن جبير: نزلت لأن الجن قالت: يا رسول الله، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد.
وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} بفتح الهمزة، عطفاً على قراءتهم {وأن المساجد} بالفتح. وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر. بكسرها على الاستئناف؛ وعبد الله هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، {يدعوه}: أي يدعو الله {كادوا}: أي كاد الجن، قال ابن عباس والضحاك: ينقضون عليه لاستماع القرآن. وقال الحسن وقتادة: الضمير في {كادوا} لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره. وقال ابن جبير: المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون، والضمير في {كادوا} لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبداً. ومعنى قام يدعوه: قام يعبده، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته عليه السلام. {كادوا يكونون عليه لبداً}: أي يزدحمون عليه متراكمين، تعجباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً، وإعجاباً بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. انتهى، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته. وقرأ الجمهور: {لبداً} بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة، نحو: كسرة وكسر، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد مناف بن ربيع:
صافوا بستة أبيات وأربعة *** حتى كأن عليهم جانباً لبداً
وقال ابن عباس: أعواناً. وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر: بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة، كزبرة وزبر؛ وعن ابن محيصن أيضاً: تسكين الباء وضم اللام لبداً. وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو: بضمتين جمع لبد، كرهن ورهن، أو جمع لبود، كصبور وصبر. وقرأ الحسن والجحدري: بخلاف عنهما، لبداً بضم اللام وشد الباء المفتوحة. قال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام الرسول للدعوة، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره.
انتهى. وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم، قاله الحسن. وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام. وقرأ الجمهور: قال إنما أدعوا ربي: أي أعبده، أي قال للمتظاهرين عليه: {إنما ادعوا ربي}: أي لم آتكم بأمر ينكر، إنما أعبد ربي وحده، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يعبد غيره. أو قال الجن لقومهم: ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في {كادوا}. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه: {قل}: أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك، وهم إما الجن وإما المشركون، على اختلاف القولين في ضمير {كادوا}.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي، إذ الغي ثمرته الضرر، يمكن أن يكون المعنى: ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله. قرأ الأعرج: رشداً بضمتين. ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجيره منه أحد، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه، قال قريباً منه قتادة. وقال السدي: حرزاً. وقال الكلبي: مدخلاً في الأرض، وقيل: ناصراً، وقيل: مذهباً ومسلكاً، ومنه قول الشاعر:
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية *** عني وما من قضاء الله ملتحد
وقيل: في الكلام حذف وهو: قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك، فقيل له: قل لن يجيرني. وقيل: هو جواب لقول وردان سيد الجن، وقد ازدحموا عليه، قال وردان: أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجبرني أحد، ذكره الماوردي. {إلا بلاغاً}، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحداً بل، قال: {من دونه}؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله: {من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه.
وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياماً قعوداً، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء *** وإلا يعل مفرقك الحسام
التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية. وقال الزمخشري: تابعاً لقتادة، أي لا أملك إلا بلاغاً من الله، و{قل إني لن يجيرني}: جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوءاً من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه. انتهى. {ورسالاته}، قيل: عطف على {بلاغاً}، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته. {ومن يعص الله ورسوله}: أي بالشرك والكفر، ويدل عليه قوله: {خالدين فيها أبداً}. وقرأ الجمهور: {فإن له} بكسر الهمزة. وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماماً في القراءات، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر. وجمع {خالدين} حملاً على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله: {يعص}، {فإن له}.
{حتى إذا رأوا}: حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله {يكونون عليه لبداً}، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم {حتى إذا رأوا ما يوعدون} من يوم بدر، وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، {فسيعلمون} حينئذ أنهم {أضعف ناصراً وأقل عدداً}. ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه لا يزالون على ما هم عليه {حتى إذا رأوا ما يوعدون}.
قال المشركون: متى يكون هذا الموعد إنكاراً له؟ فقيل: قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى. وقوله: بم تعلق إن؟ عنى تعلق حرف الجر، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها، وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح. وأما تقديره أنها تتعلق بقوله: {يكونون عليه لبداً}، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة. وقال التبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف، ولم يبين ما المحذوف. وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة، {فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً}، أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون. فقوله: {فأن له نار جهنم} هو وعيد لهم بالنار، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً. قال مكحول: لم ينزل هذا إلا في الجن، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس، قال: وبلغ من تابع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفاً، وفزعوا عند انشقاق الفجر. ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به، أهو قريب أم بعيد؟.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: {أم يجعل له ربي أمداً}، والأمد يكون قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: «ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية»؟ أي هو عالم الغيب. {فلا يظهر}: فلا يطلع، و{من رسول} تبيين لمن ارتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة، لا كل مرتضي، وفي هذه إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل. وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط.
انتهى. وقال ابن عباس: {عالم الغيب}، قال الحسن: ما غاب عن خلقه، وقيل: الساعة. وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل: إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرئ: عالم بالنصب على المدح. وقال السدّي: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً، والجمهور: عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً. وقرأ الجمهور: {فلا يظهر} من أظهر؛ والحسن: يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر، {إلا من ارتضى من رسول}: استثناء من أحداً، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول، {ومن خلفه رصداً}: أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب. وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
وقال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم، ثم قال باستحلال دم المنجم. وقال الواحدي: في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن. قال أبو عبد الله الرازي والواحدي: تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه، لأن قوله: {على غيبه} ليس فيه صفة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله: {إن أدري أقريب ما توعدون} الآية: أي لا أدري وقت وقوع القيامة، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. و{إلا من ارتضى}: استثناء منقطع، كأنه قال: فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن.
قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي يدل عليه وجوه: أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: إطباق الأمم على صحة علم التعبير، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقاً. وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة. ورابعها: أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة، ليس هذا مختصاً بالأولياء، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً. وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك بأطل. فقلنا: إن التأويل الصحيح ما ذكرناه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه.
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع، كما جاء في الحديث: «إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة» وليس هذا من علم الغيب، إذ تكلمت به الملائكة، وتلقفها الجني، وتلقفها منه الكاهن؛ فالكاهن لم يعلم الغيب.
وأما تعبير المنامات، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الحزر والتخمين، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع.
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف.
وأما حكايته عن صاحب المعتبر، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة. وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق.
وأما الكرامات، فلا أشك في صدور شيء منها، لكن ذلك على سبيل الندرة، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق.
وقرأ الجمهور: {ليعلم} مبنياً للفاعل. قال قتادة: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا.
وقال ابن جبير: ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال مجاهد: ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة. وقيل: ليعلم الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأن علمه بكل شيء قد سبق. واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال: {ليعلم الله أَن قد أبلغوا رسالات ربهم}: يعني الأنبياء. وحد أولاً على اللفظ في قوله: {من بين يديه ومن خلفه}، ثم جمع على المعنى كقوله: {فإن له نار جهنم خالدين}، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله {حتى نعلم المجاهدين} انتهى. وقيل: {ليعلم}، أي: أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه. وقيل: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ: ليعلم، بضم الياء مبنياً للمفعول؛ والزهري وابن أبي عبلة: بضم الياء وكسر اللام، أي ليعلم الله، أي من شاء أن يعلمه، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته.
وقرأ الجمهور: {رسالات} على الجمع؛ وأبو حيوة: على الإفراد. وقرأ الجمهور: {وأحاط بما لديهم}: وأحاط مبنياً للفاعل، أي الله، {وأحصى}: مبنياً للفاعل، أي الله كل نصباً؛ وابن أبي عبلة: وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً. ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم، صار المعنى: قد علم ذلك، فعطف وأحاط على هذا الضمير، والمعنى: وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء. {وأحصى كل شيء عدداً}: أي معدوداً محصوراً، وانتصابه على الحال من كل شيء، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال