سورة المرسلات / الآية رقم 47 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ

المرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلات




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة!
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: {ويل يومئذ للمكذبين}!
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد.
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة الرحمن عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: {فبأي آلاء ربكما تكذبان؟} كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة القمر عقب كل حلقة من حلقات العذاب: {فكيف كان عذابي ونذر؟} وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعماً مميزاً.. حاداً..
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحياناً إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة.
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: {والمرسلات عرفاً. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشراً فالفارقات فرقاً. فالملقيات ذكراً، عذراً أو نذراً}.. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام.
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطاراً من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في سورة الضحى وإطاراً من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة والعاديات.. وغيرها كثير.
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جداً من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى!
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: {فإذا النجوم طمست. وإذا السمآء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقّتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين!}.
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: {ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!}.
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: {ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتاً، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: {ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: {هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: {إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: {وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: {فبأي حديث بعده يؤمنون؟}..
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن والمكية منها بوجه خاص ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالة جديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة.
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع!
والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل:
{والمرسلات عرفاً. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشراً. فالفارقات فرقاً. فالملقيات ذكراً: عذرا أو نذراً.. إنما توعدون لواقع}..
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى المؤكدات في مواضع منه شتى. وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعاً. فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية.
وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعاً.. ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول.
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع. وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب، وقواه المكنونة، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر. وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها. فقال بعضهم: هي الرياح إطلاقاً. وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقاً. وقال بعضهم: إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة.. مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها. وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله. وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر.
{والمرسلات عرفاً}.. عن أبي هريرة أنها الملائكة. وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات، والسدي والربيع بن أنس، وأبي صالح في رواية (والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أَرسالاً متوالية، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها).
وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات.. إنها الملائكة.
وروي عن ابن مسعود.. المرسلات عرفاً. قال: الريح. (والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها) وكذا قال في العاصفات عصفاً والناشرات نشراً. وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية.
وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفاً هل هي الملائكة أو الرياح. وقطع بأن العاصفات هي الرياح. وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء.
وعن ابن مسعود: {فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً، عذراً أو نذراً} يعني الملائكة. وكذا قال: ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف. فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل. وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق وإنذار.
ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذرواً. وفي النازعات غرقاً.. وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها. وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا. وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام. وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها، والظلال المباشرة التي تلقيها. وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها.. وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزاً، وهو يستجوبه عن ذنب، أو عن آية ظاهرة ينكرها، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد: {ويل يومئذ للمكذبين}..
بعد ذلك تجيء الهزة العنيفة بمشاهد الكون المتقلبة في يوم الفصل الذي هو الموعد المضروب للرسل لعرض حصيلة الرسالة في البشرية جميعاً:
{فإذا النجوم طمست، وإذا السمآء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقّتت.
لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين}..
يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشق، وتنسف الجبال فهي هباء.. وقد وردت مشاهد هذا الانقلاب الكوني في سور شتى من القرآن. وكلها توحي بانفراط عقد هذا الكون المنظور، انفراطاً مصحوباً بقرقعة ودوي وانفجارات هائلة، لا عهد للناس بها فيما يرونه من الأحداث الصغيرة التي يستهولونها ويروعون بها من أمثال الزلازل والبراكين والصواعق.. وما إليها.. فهذه أشبه شيء حين تقاس بأهوال يوم الفصل بلعب الأطفال التي يفرقعونها في الأعياد، حين تقاس إلى القنابل الذرية والهيدروجينية! وليس هذا سوى مثل للتقريب. وإلا فالهول الذي ينشأ من تفجر هذا الكون وتناثره على هذا النحو أكبر من التصور البشري على الإطلاق!
وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمراً عظيماً آخر مؤجلاً إلى هذا اليوم.. فهو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة. دعوة الله في الأرض طوال الأجيال.. فالرسل قد أقتت لهذا اليوم وضرب لها الموعد هناك، لتقديم الحساب الختامي عن ذلك الأمر العظيم الذي يرجح السماوات والأرض والجبال. للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية، والقضاء بحكم الله فيها، وإعلان الكلمة الأخيرة التي تنتهي إليها الأجيال والقرون..
وفي التعبير تهويل لهذا الأمر العظيم، يوحي بضخامة حقيقته حتى لتتجاوز مدى الإدراك:
{وإذا الرسل أقّتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟}..
وظاهر من أسلوب التعبير أنه يتحدث عن أمر هائل جليل. فإذا وصل هذا الإيقاع إلى الحس بروعته وهوله، الذي يرجح هول النجوم المطموسة والسماء المشقوقة والجبال المنسوفة. ألقى بالإيقاع الرعيب، والإنذار المخيف:
{ويل يومئذ للمكذبين!}..
وهذا الإنذار من العزيز الجبار، في مواجهة الهول السائد في الكون، والجلال الماثل في مجلس الفصل بمحضر الرسل. وهم يقدمون الحساب الأخير في الموعد المضروب لهم.. هذا الإنذار في هذا الأوان له طعمه وله وزنه وله وقعه المزلزل الرهيب..
ويعود بهم من هذه الجولة في أهوال يوم الفصل، إلى جولة في مصارع الغابرين: الأولين والآخرين..
{ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!}.
هكذا في ضربة واحدة تتكشف مصارع الأولين وهم حشود. وفي ضربة واحدة تتكشف مصارع الآخرين وهم حشود. وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء. وأمامها ينطلق الوعيد ناطقاً بسنة الله في الوجود: {كذلك نفعل بالمجرمين}! فهي السنة الماضية التي لا تحيد.. وبينما المجرمون يتوقعون مصرعاً كمصارع الأولين والآخرين، يجيء الدعاء بالهلاك، ويجيء الوعيد بالثبور: {ويل يومئذ للمكذبين}..
ومن الجولة في المصارع والأشلاء، إلى جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، للصغير وللكبير:
{ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون.
ويل يومئذ للمكذبين}..
وهي رحلة مع النشأة الجنينية طويلة عجيبة، يجملها هنا في لمسات معدودة. ماء مهين. يودع في قرار الرحم المكين. إلى قدر معلوم وأجل مرسوم. وأمام التقدير الواضح في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة يجيء التعقيب الموحي بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل: {فقدرنا فنعم القادرون} وأمام التقدير الذي لا يفلت منه شيء يجيء الوعيد المعهود: {ويل يومئذ للمكذبين}..
ثم جولة في هذه الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة:
{ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً؟ وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين}..
ألم نجعل الأرض كفاتا تحتضن بنيها أحياء وأمواتاً. {وجعلنا فيها رواسي شامخات} ثابتات سامقات، تتجمع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب. أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ أفبعد هذا يكذب المكذبون؟: {ويل يومئذ للمكذبين!}..
وعندئذ بعد عرض تلك المشاهد، وامتلاء الحس بالتأثرات التي تسكبها في المشاعر ينتقل السياق فجأة إلى موقف الحساب والجزاء. فنسمع الأمر الرهيب للمجرمين المكذبين، ليأخذوا طريقهم إلى العذاب الذي كانوا به يكذبون، في تأنيب مرير وإيلام عسير:
{انطقلوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب. لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!}..
اذهبوا طلقاء بعد الارتهان والاحتباس في يوم الفصل الطويل. ولكن إلى أين؟ إنه انطلاق خير منه الارتهان.. {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون}.. فها هو ذا أمامكم حاضر مشهود. {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب}.. إنه ظل لدخان جهنم تمتد ألسنته في ثلاث شعب. ولكنه ظل خير منه الوهج: {لا ظليل ولا يغني من اللهب}.. إنه ظل خانق حار لافح. وتسميته بالظل ليست إلا امتداداً للتهكم، وتمنية بالظل تتكشف عن حر جهنم!
انطلقوا. وإنكم لتعرفون إلى أين! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها. فلا حاجة إلى ذكر اسمها.. {إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جماله صفر}.. فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر. (وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور) فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر؟!
وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: {ويل يومئذ للمكذبين!}.
ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم، بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم..
{هذا يوم لا ينطقون.
ولا يؤذن لهم فيعتذرون}..
فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب، والكبت الرعيب، والخشوع المهيب، الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار. فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار: {ويل يومئذ للمكذبين}!.. وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم.. واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامته الرهيبة، لمناسبة في الموقف وظل في السياق.
{هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار. وقد جمعناكم والأولين أجمعين. فإن كان لكم تدبير فدبروه، وإن كان لكم قدرة على شيء فافعلوه! ولا تدبير ولا قدرة. إنما هو الصمت الكظيم، على التأنيب الأليم.. {ويل يومئذ للمكذبين!}..
فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين، اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين:
{إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!}..
إن المتقين في ظلال.. ظلال حقيقية في هذه المرة! لا ظل ذي ثلاث لا ظليل ولا يغني من اللهب! وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور: {وفواكه مما يشتهون}.. وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين} ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم {ويل يومئذ للمكذبين!}.. يقابل هذا النعيم والتكريم!
وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق. فإذا نحن في الأرض مرة أخرى. وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين!
{كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين، وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان، وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان. فبينما كان الخطاب موجهاً للمتقين في الآخرة، إذا هو موجه للمجرمين في الدنيا. وكأنما ليقال لهم: اشهدوا الفارق بين الموقفين.. وكلوا وتمتعوا قليلاً في هذه الدار، لتحرموا وتعذبوا طويلاً في تلك الدار.. {ويل يومئذ للمكذبين!}.
ثم يتحدث معجباً من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون:
{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!}..
مع أنهم يبصرون هذا التبصير، وينذرون هذا النذير..
{فبأي حديث بعده يؤمنون؟}..
والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبداً. إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس!
إن السورة بذاتها، ببنائها التعبيري، وإيقاعها الموسيقي، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد.. إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب، ولا يتماسك لها كيان.
فسبحان الذي نزل القرآن، وأودعه هذا السلطان!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال