سورة المطففين / الآية رقم 3 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ

الانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالانفطارالمطففينالمطففينالمطففينالمطففينالمطففين




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة تصور قطاعاً من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب، وهز المشاعر، وتوجيهها إلى هذا الحدث في حياة العرب وفي حياة الإنسانية، وهو الرسالة السماوية للأرض، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط.
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم، {يوم يقوم الناس لرب العالمين}.. كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا، وتغامزهم عليهم، وضحكهم منهم، وقولهم عنهم: {إن هؤلاء لضالون!}.
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم.
وهي تتألف من أربعة مقاطع.. يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟}..
ويتحدث المقطع الثاني في شدة وردع وزجر، وتهديد بالويل والهلاك، ودمغ بالإثم والاعتداء، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس، وتصوير لجزائهم يوم القيامة، وعذابهم بالحجاب عن ربهم، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب: {كلا. إن كتاب الفجار لفي سجين. ومآ أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم. ويل يومئذ للمكذبين! الذين يكذبون بيوم الدين. وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين. كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون}..
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة. صفحة الأبرار. ورفعة مقامهم. والنعيم المقرر لهم. ونضرته التي تفيض على وجوههم. والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون.. وهي صفحة ناعمة وضيئة:
{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين. ومآ أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم، على الأرآئك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون}..
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب. ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل:
{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون. ومآ أرسلوا عليهم حافظين. فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرآئك ينظرون.
هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟}..
والسورة في عمومها تمثل جانباً من بيئة الدعوة، كما تمثل جانباً من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة، وواقع النفس البشرية.. وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل..
{ويل للمطففين: الذين اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم: يوم يقوم الناس لرب العالمين؟}..
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين: {ويل للمطففين}.. والويل: الهلاك. وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي، أو أن هذا دعاء. فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار..
وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين. فهم: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}.. فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذا كانوا شراة. ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين..
ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين، الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا؛ وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟}..
والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر. فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية: كتقرير وحدانية الله، وانطلاق مشيئته، وهيمنته على الكون والناس.. وكحقيقة الوحي والنبوة.. وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء. مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها، وربطها بأصول العقيدة. أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق كمسألة التطفيف في الكيل والميزان والمعاملات بصفة عامة، فأمر جاء متأخراً في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية، وفق المنهج الإسلامي، الشامل للحياة..
ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه. وهو يشي بعدة دلالات متنوعة، تكمن وراء هذه الآيات القصار..
إنه يدل أولاً على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء، الذي كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة، التي تكاد تكون احتكاراً. فقد كانت هنالك أموال ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام. كما افتتحوا أسواقاً موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج، يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار!
والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل، ويعلن عليهم هذه الحرب، كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ، الذي يملكون إكراه الناس على ما يريدون. فهم يكتالون {على الناس}.. لا من الناس.. فكأن لهم سلطاناً على الناس بسبب من الأسباب، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسراً. وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقاً.
وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم. إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم، ويستوفون ما يريدون إجباراً. فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق.. ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي. أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه؛ واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم؛ كما يقع حتى الآن في الأسواق.. فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة.
كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين؛ وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم. فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل. وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية، لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة. وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين. وهم يومئذ سادة مكة، أصحاب السلطان المهيمن لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب، بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم. ورفع صوته عالياً في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه، المرابين المحتكرين، المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير بأوهام الدين! فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظاً للجماهير المستغلة. ولم يكن قط مخدراً لها حتى وهو محاصر في مكة، بسطوة المتجبرين، المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين!
ومن ثم ندرك طرفاً من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة. فهم كانوا يدركون ولا ريب أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان.. كلا. لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجاً يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم. وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي؛ وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية.. ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها. الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية. لا مجرد الاعتقاد والتصور المجردين..
والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة. يدركونها جيداً. ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة، ومصالحهم المغتصبة، وكيانهم الزائف.
.. وسلوكهم المنحرف.. هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم!
والطغاة البغاة الظلمة المطففون في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف! الذي لا يقبل المساومة، ولا المداهنة، ولا أنصاف الحلول؟
ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج. هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: «الجنة». قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه.
فقد أدرك هؤلاء كما أدرك كبراء قريش من قبل طبيعة هذا الدين. وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك، لا يقبل من طاغية طغياناً، ولا من باغ بغياً، ولا من متكبر كبراً. ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال. ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل؛ ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد.
{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟}..
وإن أمرهم لعجيب. فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم. يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين، ليس لهم مولى يومئذ سواه، وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء، وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير.. إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف، وأكل أموال الناس بالباطل، واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل.. ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون! وهو أمر عجيب، وشأن غريب!
وقد سماهم المطففين في المقطع الأول. فأما في المقطع الثاني فيسميهم الفجار. إذ يدخلهم في زمرة الفجار، ويتحدث عن هؤلاء. يتحدث عن اعتبارهم عند الله، وعن حالهم في الحياة. وعما ينتظرهم يوم يبعثون ليوم عظيم.
{كلا! إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم. ويل يومئذ للمكذبين: الذين يكذبون بيوم الدين؛ وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.
كلا! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون}..
إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم.. فالقرآن يردعهم عن هذا ويزجرهم، ويؤكد أن لهم كتاباً تحصى فيه أعمالهم.. ويحدد موضعه زيادة في التوكيد. ويوعدهم بالويل في ذلك اليوم الذي يعرض فيه كتابهم المرقوم:
{كلا. إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم. ويل يومئذ للمكذبين}!.
والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم. واللفظ يوحي بذاته بهذا المعنى. وكتابهم هو سجل أعمالهم. ولا ندري نحن ماهيته ولم نكلف هذا. وهو غيب لا نعرف عنه إلا بمقدار ما يخبرنا عنه صاحبه ولا زيادة فهناك سجل لأعمال الفجار يقول القرآن: إنه في سجين. ثم يسأل سؤال الاستهوال المعهود في التعبير القرآني: {وما أدراك ما سجين؟} فيلقي ظلال التفخيم ويشعر المخاطب أن الأمر أكبر من إدراكه، وأضخم من أن يحيط به علمه. ولكنه بقوله: {إن كتاب الفجار لفي سجين} يكون قد حدد له موضعاً معيناً، وإن يكن مجهولاً للإنسان. وهذا التحديد يزيد من يقين المخاطب عن طريق الإيحاء بوجود هذا الكتاب. وهذا هو الإيحاء المقصود من وراء ذكر هذه الحقيقة بهذا القدر، دون زيادة.
ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول: إنه {كتاب مرقوم}.. أي مفروغ منه، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم.
فإذا كان ذلك: كان {ويل يومئذ للمكذبين}!
ويحدد موضوع التكذيب، وحقيقة المكذبين:
{الذين يكذبون بيوم الدين. وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين}..
فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم؛ وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه: {أساطير الأولين}.. لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة، وبيان سنة الله التي لا تتخلف، والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد.
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع: {كلا!} ليس كما يقولون..
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين:
{بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}..
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية. والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور، ويفقده الحساسية شيئاً فشيئاً حتى يتلبد ويموت..
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه. فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت». وقال الترمذي حسن صحيح. ولفظ النسائي: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء. فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: {كلا! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}».
وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت..
ذلك حال الفجار المكذبين. وهذه هي علة الفجور والتكذيب.. ثم يذكر شيئاً عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم. يناسب علة الفجور والتكذيب:
{كلا! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم. ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون}..
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا. وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة.. فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها. ممن قال فيهم في سورة القيامة:
{وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة} وهذا الحجاب عن ربهم، عذاب فوق كل عذاب، وحرمان فوق كل حرمان. ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم. فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم؛ وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم: {ثم إنهم لصالوا الجحيم}.. ومع الجحيم التأنيب وهو أمرّ من الجحيم: {ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون}!!
ثم يعرض الصفحة الأخرى. صفحة الأبرار. على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب، لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين ونهايتين:
{كلا! إن كتاب الأبرار لفي عليين. وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم، على الأرآئك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ومزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون}..
وكلمة {كلا} تجيء في صدر هذا المقطع زجراً عما ذكر قبله من التكذيب في قوله: {ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون}.. ويعقب عليه بقوله: {كلا} ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد.
فإذا كان كتاب الفجار في {سجين} فإن كتاب الأبرار في {عليين}... والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير. وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد..
ولفظ {عليين} يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن {سجين} يفيد الانحطاط والسفول. ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود: {وما أدراك ما عليون؟}.. فهو أمر فوق العلم والإدراك!
ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار.
فهو {كتاب مرقوم يشهده المقربون} وقد سبق ذكر معنى مرقوم. ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه. وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلاً كريماً طاهراً رفيعاً على كتاب الأبرار. فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات. وهذا ظل كريم شفيف، يذكر بقصد التكريم.
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم، أصحاب هذا الكتاب الكريم. ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم:
{إن الأبرار لفي نعيم}.. يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار.. {على الأرائك ينظرون} أي إنهم في موضع التكريم، ينظرون حيث يشاءون، لا يغضون من مهانة، ولا يشغلون عن النظر من مشقة.. وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال. وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسمية الناموسية أو الكلة! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله. وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته!
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم}..
{يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك}..
والرحيق الشراب الخالص المصفى، الذي لا غش فيه ولا كدرة. ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك، قد يفيد أنه معد في أوانيه، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة، تفض عند الشراب، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية. كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض. فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود!
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين: {ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون}.. أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة: {تسنيم} التي {يشرب بها المقربون}.. قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع، وبهذا التوجه: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.. وهو إيقاع عميق يدل على كثير..
إن أولئك المطففين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر. ويكذبون بيوم الحساب والجزاء. ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية.. إن هؤلاء إنما يتنافسون من مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد. يريد كل منهم أن يسبق إليه، وأن يحصل على أكبر نصيب منه. ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل..
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس. إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.. فهو مطلب يستحق المنافسة، وهو أفق يستحق السباق، وهو غاية تستحق الغلاب.
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم، إنما يتنافسون في حقير قليل فانٍ قريب. والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه. فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة..
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً. بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعاً. والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع. والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعاً وبيئاً تأكل فيه الديدان بعضها البعض. أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين!
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خراباً بلقعاً كما قد يتصور بعض المنحرفين. إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق. على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله سبحانه وهو يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وإن قوله {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.. لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها. ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه!
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله. وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود. ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر. وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!
ألا إن السياق إلى هناك.. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}..
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار، تمهيداً للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار. من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء.. وقد أطال في عرضه كذلك. ليختمه بالسخرية من الكفار، وهم يشهدون نعيم الأبرار:
{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون.. وما أرسلوا عليهم حافظين}..
{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون}..
{هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟}..
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا، سوء أدبهم معهم، وتطاولهم عليهم، ووصفهم بأنهم ضالون.. مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة. ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى. وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها. مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور!!
{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون}.
كانوا.. فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة. فإذا المخاطبون به في الآخرة. يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا. وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا!
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم، وسخرية منهم. إما لفقرهم ورثاثة حالهم. وإما لضعفهم عن رد الأذى. وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء.. فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا. وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة. وهم يسلطون عليهم الأذى، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع، مما يصيب الذين آمنوا، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين!
{وإذا مروا بهم يتغامزون}.. يغمز بعضهم لبعض بعينه. أو يشير بيده، أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين. وهي حركة ضعيفة واطية تكشف عن سوء الأدب، والتجرد من التهذيب. بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين، وإصابتهم بالخجل والربكة، وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين!
{وإذا انقلبوا إلى أهلهم} بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم.. {انقلبوا فكهين}.. راضين عن أنفسهم، مبتهجين بما فعلوا، مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير. فلم يتلوموا ولم يندموا، ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا. وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير!
{وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون}!
وهذه أعجب.. فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال. وأن يزعموا حين يرون المؤمنين، أن المؤمنين ضالون. ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير: {إن هؤلاء لضالون!}..
والفجور لا يقف عند حد، ولا يستحيي من قول، ولا يتلوم من فعل. واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون، إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود!
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا، ولا ليناقش طبيعة الفرية. فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة. ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم، ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر: {وما أرسلوا عليهم حافظين}.. وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين، وما أقيموا عليهم رقباء، ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير!
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا.. ما كان.. ويطوي هذا المشهد الذي انتهى. ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم:
{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون}..
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم، يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم، فيصلون الجحيم، مع الترذيل والتأنيب حيث يقال: {هذا الذي كنتم به تكذبون}..
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون. في ذلك النعيم المقيم، وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم..
فاليوم.. الذين آمنوا من الكفار يضحكون..
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل:
{هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟}.
أجل! هل ثوبوا؟ هل وجدوا ثواب ما فعلوا؟ وهم لم يجدوا الثواب المعروف من الكلمة. فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا. فهو ثوابهم إذن. وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام!
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه. فنجد أن هذا الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري. فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق. وكان ربهم لا يتركهم بلا عون، من تثبيته وتسريته وتأسيته.
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين، فيه بلسم لقلوبهم. فربهم هو الذي يصف هذه المواجع. فهو يراها، وهو لا يهملها وإن أمهل الكافرين حيناً وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه. إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون. وكيف يؤذيهم المجرمون. وكيف يتفكه بالآمهم ومواجعهم المتفكهون. وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون! إن ربهم يرى هذا كله. ويصفه في تنزيله. فهو إذن شيء في ميزانه.. وهذا يكفي! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة.
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع. قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذبوب. ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة، تحسه وتقدره، وتستريح إليه وتستنيم!
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها، ونعيمها في جناته، وكرامتها في الملأ الأعلى. على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم، مع الإهانة والترذيل.. تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل. وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين. وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف. وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم.
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة، وأذاهم البالغ، وسخريتهم اللئيمة.. الجنة للمؤمنين، والجحيم للكافرين، وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل.. وهذا كان وحده الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم المبايعين له. وهم يبذلون الأموال والنفوس!
فأما النصر في الدنيا، والغلب في الأرض، فلم يكن أبداً في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت.
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة. وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء إلى شيء في هذه الأرض. ولا تنتظر إلا الآخرة. ولا ترجو إلا رضوان الله. قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين!
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء. وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل.. حتى إذا وجدت هذه القلوب، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، وآتاها النصر في الأرض، وائتمنها عليه. لا لنفسها. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه؛ ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه. وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه!
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة. بعد ذلك. وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه، وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة، تراها الأجيال. فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام. إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال