سورة العلق / الآية رقم 4 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ

التينالتينالتينالتينالتينالتينالعلقالعلقالعلقالعلقالعلقالعلقالعلقالعلقالعلق




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق. والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر بن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود إلى ذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: «اقرأ». قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: «ما أنا بقارئ»، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: «ما أنا بقارئ». فأخذني فغطني الثالثة، ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: يا خديجة مالي؟ وأخبرها الخبر. وقال: «قد خشيت على نفسي» فقالت له: كلا. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها. وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية. كان يكتب الكتاب العربي، وكتب العبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟»فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودِيَ، وإن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي.. الخ. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري..
وروى الطبري بإسناده عن عبد الله بن الزبير. قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب. فقال: اقرأ. فقلت: «ما أقرأ». فغتني حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: «ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي». قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق.. إلى قوله: علم الإنسان ما لم يعلم} قال: «فقرأته». ثم انتهى، ثم انصرف عني. وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتاباً. قال: ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون. كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: «إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون! لا تحدث بها عني قريش أبداً! لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن»! قال: «فخرجت أريد ذلك. حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد. أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي..».
وقد رواه ابن إسحاق مطولاً عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضاً..
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير، ثم مررنا به وتركناه، أو تلبثنا عنده قليلاً ثم جاوزناه!
إنه حادث ضخم. ضخم جداً. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته. وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعاً.. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم في عليائه فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض. وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده سبحانه بهذه الخليقة.
وهذه حقيقة كبيرة. كبيرة إلى غير حد. تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان قدر طاقته حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية.
ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية. ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال.. وهو يتصور كلمات الله، تتجاوب بها جنبات الوجود كله، منزّلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة!
وما دلالة هذا الحادث؟
دلالته في جانب الله سبحانه أنه ذو الفضل الواسع، والرحمة السابغة، الكريم الودود المنان. يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة.
ودلالته في جانب الإنسان أن الله سبحانه قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها، ولا يملك أن يشكرها. وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعاً ساجداً.. هذه.. أن يذكره الله، ويلتفت إليه، ويصله به، ويختار من جنسه رسولاً يوحي إليه بكلماته. وأن تصبح الأرض.. مسكنه.. مهبطاً لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال.
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني.. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه.. إنها ليست الأرض وليس الهوى.. إنما هي السماء والوحي الإلهي.
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة.. في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين الله. ويتوقعون أن تمتد يده سبحانه فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب.. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم، ويفصل في مشكلاتهم، ويقول لهم: خذوا هذا ودعوا ذاك!
ولقد كانت فترة عجيبة حقاً. فترة الثلاثة والعشرين عاماً التالية، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى. فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها. وأحسوها. وشهدوا بدأها ونهايتها. وذاقوا حلاوة هذا الاتصال. وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق. ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا.. وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض. مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام!
وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقاً.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما أتيا إليها بكت. فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها... أخرجه مسلم..
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى.
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط، وكما لم يتحول من بعد أيضاً. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان، ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة. ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعاً، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية. ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه. {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة} لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد!
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقاناً في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل، والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به، وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائماً أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان..
ذلك شأن المقطع الأول من السورة. فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد. فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة، بعد تكليف الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الدعوة، والجهر بالعبادة، وقيام المشركين بالمعارضة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟}.. الخ.
ولكن هناك تناسقاً كاملاً بين أجزاء السورة، وتسلسلاً في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم.
يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة..
{اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}..
إنها السورة الأولى من هذا القرآن، فهي تبدأ باسم الله. وتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما توجه، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها.. توجهه إلى أن يقرأ باسم الله: {اقرأ باسم ربك}..
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء: {الذي خلق}.
ثم تخصص: خلق الإنسان ومبدأه: {خلق الإنسان من علق}.. من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم. من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين. فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته. فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يُعلم فيتعلم: {اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم}..
وإنها لنقلة بعيدة جداً بين المنشأ والمصير. ولكن الله قادر. ولكن الله كريم. ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس!
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم.. تعليم الرب للإنسان {بالقلم}.. لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان.. ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية. ولكن الله سبحانه كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية. في أول سورة من سور القرآن الكريم.. هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن. لولا أنه الوحي، ولولا أنها الرسالة!
ثم تبرز مصدر التعليم.. إن مصدره هو الله. منه يستمد الإنسان كل ما علم، وكل ما يعلم. وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود، ومن أسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه. فهو من هناك. من ذلك المصدر الواحد، الذي ليس هناك سواه.
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة..
كل أمر. كل حركة. كل خطوة. كل عمل. باسم الله. وعلى اسم الله. باسم الله تبدأ. وباسم الله تسير. وإلى الله تتجه، وإليه تصير.
والله هو الذي خلق. وهو الذي علم. فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة.. والإنسان يتعلم ما يتعلم، ويعلم ما يعلم.. فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم.. {علم الإنسان ما لم يعلم}..
وهذه الحقيقة القرأنية الأولى، التي تلقاها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره، وتصرف لسانه، وتصرف عمله واتجاهه، بعد ذلك طوال حياته.
بوصفها قاعدة الإيمان الأولى.
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد يلخص هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذكر الله:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عز وجل. بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه. وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكراً منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكراً منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكراً منه له. وسكوته وصمته ذكراً منه له بقلبه. فكان ذاكراً لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله. وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفي مشيته وركوبه، وسيره ونزوله، وظعنه وإقامته.
وكان إذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور.» وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشراً، وهلل عشراً، ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشراً، ثم يستفتح الصلاة. وقالت أيضاً: كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك. اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك. اللهم زدني علماً. ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب» ذكرها أبو داود. وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال: «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ثم قال: «اللهم أغفر لي»، أو دعاء آخر استجيب له. فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ذكره البخاري.
وقال ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عنده: إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء، وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران.. {إن في خلق السماوات والأرض.. الخ} ثم قال.. «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وقد قالت عائشة رضي الله عنها كان إذا قام من الليل قال: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وربما قالت: كان يفتتح صلاته بذلك.
وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله: «سبحان الله القدوس (ثلاثاً)» ويمد بالثالثة صوته.
وكان إذا خرج من بيته يقول: «بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل، أو يُجهل علي» حديث صحيح.
«قال صلى الله عليه وسلم: من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان» حديث حسن.
وقال ابن عباس عنه ليلة مبيته عنده: إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، واجعل في لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، واجعل من تحتي نوراً. اللهم أعظم لي نوراً».
وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي إليك، فإني لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا رياء ولا سمعة، وإنما خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته».
وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك». وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم، ثم يقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم، ثم يقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك».
وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل. وكان يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور» حديث صحيح. وكان يقول: «أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم، وشر ما بعده؛ رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر. وإذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله... الخ» (ذكره مسلم). وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: قل: «اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء مليكه ومالكه. أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم. قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» حديث صحيح. ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب.
.. وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداء. ثم يقول: «اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، أعوذ بك من شره وشر ما صنع له». حديث صحيح.
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته: «الحمد لله الذي كفاني وآواني، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني، والحمد لله الذي منَّ علي. أسألك أن تجيرني من النار».
وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث».
وكان إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك» ويذكر عنه أنه كان يقول: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» (ذكره ابن ماجه).
وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال للصحابه: «توضأوا باسم الله».
ويذكر عنه أنه كان يقول عند رؤية الهلال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله» (قال الترمذي حديث حسن).
وكان إذا وضع يده في الطعام قال: «باسم الله» ويأمر الآكل بالتسمية ويقول: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل: باسم الله في أوله وأخره» حديث صحيح.
وهكذا كانت حياته كلها صلى الله عليه وسلم بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى.
وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة..
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة: حقيقة أن الله هو الذي خلق. وهو الذي علم. وهو الذي أكرم. أن يعرف الإنسان. ويشكر. ولكن الذي حدث كان غير هذا، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة:
{كلا! إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إن إلى ربك الرجعى}..
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله. كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه. ولكن الإنسان في عمومه لا يستثنى إلا من يعصمه إيمانه لا يشكر حين يُعطى فيستغني؛ ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته، وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه.. ثم أعطاه رزقه.. ثم هو يطغى ويفجر، ويبغي ويتكبر، من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر.
وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى، يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف: {إن إلى ربك الرجعى} فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى؟
وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني. قاعدة الرجعة إلى الله. الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر، وفي كل نية، وفي كل حركة. فليس هناك مرجع سواه. إليه يرجع الصالح والطالح. والطائع والعاصي. والمحق والمبطل. والخير والشّرير. والغني والفقير.. وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى. ألا إلى الله تصير الأمور.. ومنه النشأة وإليه المصير..
وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني.. الخلق والنشأة. والتكريم والتعليم.. ثم.. الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك: {إن إلى ربك الرجعى}..
ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان: صورة مستنكرة يعجب منها، ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد.
{أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟}.
والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير، التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة. ولا تؤدّى إلا في أسلوب الخطاب الحي. الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة!
{أرأيت}؟ أرأيت هذا الأمر المستنكر؟ أرأيته يقع؟ {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟}.
أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة؟ وتضاف بشاعة إلى بشاعة؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته.. إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه من ينهاه. مع أنه على الهدى، آمر بالتقوى؟.
أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكراً؟ {أرأيت إن كذب وتولى؟}.
هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي: {ألم يعلم بأن الله يرى؟} يرى تكذيبه وتوليه. ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى، وهو على الهدى، آمر بالتقوى.
يرى. وللرؤية ما بعدها! {ألم يعلم بأن الله يرى!}.
وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان، وفي وجه الطاعة، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير، مكشوفاً في هذه المرة لا ملفوفاً: {كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليدع ناديه. سندع الزبانية}.
إنه تهديد في إبانه. في اللفظ الشديد العنيف: {كلا. لئن لم ينته لنسفعن بالناصية}.
هكذا {لنسفعن} بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه. والسفع: الأخذ بعنف. والناصية: الجبهة. أعلى مكان يرفعة الطاغية المتكبر. مقدم الرأس المتشامخ: إنها ناصية تستحق السفع والصرع: {ناصية كاذبة خاطئة}! وإنها للحظة سفع وصرع. فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه: {فليدع ناديه} أما نحن فإننا {سندع الزبانية} الشداد الغلاظ.. والمعركة إذن معروفة المصير!
وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب.. تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته..
{كلا. لا تطعه، واسجد، واقترب.}
كلا! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة. واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة. ودع هذا الطاغي. الناهي. دعه للزبانية!
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة عدا المقطع الأول منها قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام. فقال (يا محمد. ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده. فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره..) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناقه وقال به: {أولى لك ثم أولى} فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله: {فليدع نادية...} وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله. وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة، ويتوعد على الطاعة، ويختال بالقوة.. والتوجيه الرباني الأخير {كلا! لا تطعه واسجد واقترب}..
وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال