سورة البينة / الآية رقم 8 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ

البينةالبينةالزلزلةالزلزلةالزلزلةالزلزلةالزلزلةالزلزلةالزلزلةالعادياتالعادياتالعادياتالعادياتالعادياتالعاديات




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً}.
{من} في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} بيانية، وفيها معنى التبعيض أيضا، إذ ليس كلّ أهل الكتاب كافرين، بل هم كما يقول اللّه تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} [110: آل عمران].
فالمراد بالذين كفروا هنا ليس الكافرين على إطلاقهم، وإنما هم الكافرون من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وهم بعض من أهل الكتاب، أو معظم أهل الكتاب.
والمشركون، هم مشركو العرب، وعلى رأسهم مشركو قريش.
ومعنى الانفكاك في قوله تعالى: {منفكّين} هو حلّ تلك الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم جميعا على الكفر والضلال.
فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون، على سواء في الضلال، وفى البعد عن مواقع الحق.. فهم وإن اختلفوا دينا ومعتقدا، وجنسا وموطنا- على سواء في الضلال وفساد المعتقد، وهم لهذا كيان واحد، وقبيل واحد، ينتسبون إلى أب واحد، هو الكفر والضلال.
أما الكافرون من أهل الكتاب، فقد كان كفرهم بما غيّروا، وبدّلوا من شرع اللّه، وبما تأوّلوا من كتب اللّه التي بين أيديهم، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا عن اللّه سبحانه ما لم يقله.
وأما المشركون، فقد اغتال جهلهم وضلالهم كل معانى الحق، التي تركها فيهم أنبياؤهم الأولون، كهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، عليهم السلام.
فانتهى بهم الأمر إلى الشرك باللّه، وعبادة الأصنام من دون اللّه.
ومجمل معنى الآية الكريمة: أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون لن تنحلّ منهم هذه الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم على الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة.. فإذا أتتهم البينة تقطع ما بينهم، وانحلت وحدتهم، وأخذ كلّ الطريق الذي يختاره.
و{البينة} هى ما أشار إليها قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً} فالرسول صلوات اللّه وسلامه عليه هو {البينة}، أي البيان المبين، الذي يبين طريق الحقّ بما يتلو من آيات اللّه على الناس.
وفى جعل الرسول هو البينة- مع أن البينة هى آيات اللّه- إشارة إلى أن الرسول الكريم، هو في ذاته بينة، وهو آية من آيات اللّه، في كماله، وأدبه، وعظمة خلقه، حتى لقد كان كثير من المشركين يلقون النبي لأول مرة فيؤمنون به، قبل أن يستمعوا إلى آيات اللّه منه، وقبل أن يشهدوا وجه الإعجاز فيها.
وأنه ليكفى أن يقول لهم إنه رسول اللّه، فيقرءون آيات الصدق في وجهه وفى وقع كلماته على آذانهم.. وقد آمن المؤمنون الأولون، ولم يكن قد نزل من القرآن قدر يعرفون منه أحكام الدين، ومبادئه، وأخلاقياته.. بل إن إيمانهم كان استجابة لما دعاهم إليه رسول اللّه، لأنه لا يدعو- كما عرفوه وخبروه- إلا إلى خير وحق.
والصحف المطهرة، هى آيات القرآن الكريم، التي يتلوها الرسول الكريم، كما أوحاها إليه ربه، وكما تلقاها من رسول الوحى، على ما هى عليه في صحف اللوح المحفوظ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ} [11- 16: عبس].
وطهارة هذه الصحف، هو نقاء آياتها، وصفاؤها، من كل سوء.. فهى حق خالص، وكمال مطلق.. {إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
(42: فصلت).
وقوله تعالى: {فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}.
والكتب القيمة التي في هذه الصحف، هى الكتب التي نزلت على أنبياء اللّه ورسله، كصحف إبراهيم وموسى.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} [18- 19: الأعلى].
فالقرآن الكريم جمع ما تفرق فيما أنزل اللّه من كتب على أنبيائه، فكان به تمام دين اللّه، الذي هو الإسلام، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [19: آل عمران].
وكون الصحف تحوى في كيانها الكتب، مع أن العكس هو الصحيح، كما هو في معهودنا، إشارة إلى أن صحف القرآن، هى بالنسبة إلى الكتب السماوية السابقة، كتب.. وأن الصحيفة، أو مجموعة الصحف منه تعادل كتابا من تلك الكتب إذ جمعت في كلماتها المعجزة ما تفرق في هذه الكتب.
وفى هذا ما يدل على قدر هذا القرآن العظيم، وأنه كان لهذا جديرا أن ينزل في ليلة القدر، التي هى ليلة الزمن كله، كما أن هذا الكتاب هو شرع اللّه كله.
وقوله تعالى: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
الخطاب هنا إلى أهل الكتاب جميعا، لا إلى الذين كفروا منهم.. فأهل الكتاب جميعا، هم في هذا المقام في مواجهة البينة.. وقد اختلف موقفهم منها، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.. وهنا تفرق أمرهم، وأخلى الذين آمنوا منهم مكانهم فيهم.
والسؤال هنا:
ألم يكن أهل الكتاب متفرقين قبل أن يأتيهم رسول اللّه، ويدعوهم إلى الإيمان باللّه؟
ألم يكن منهم مؤمنون وكافرون، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..}؟. ألم يكن هذا الإخبار عنهم بهذا الوصف، قبل أن تأتيهم البينة؟ فما تأويل هذا؟
نقول- واللّه أعلم- إن أهل الكتاب، وإن كان فيهم المؤمنون الذين استقاموا على شريعة اللّه، كما جاء هم بها أنبياؤهم، غير متبعين ما دخل عليهم من تبديل وتحريف- إلا أن هؤلاء المؤمنين، هم في مواجهة الشريعة الإسلامية غير مؤمنين، إذا لم يصلوا إيمانهم هذا، بالإيمان بدين اللّه (الإسلام) الذي كمل به الدين.. فالمؤمنون حقّا من أهل الكتاب، لا يجدون في الإيمان بالإسلام حجازا يحجز بينهم وبينه، إذ كان دينهم بعضا من هذا الدين، وبعض الشيء ينجذب إلى كله، ولا يأخذ طريقا غير طريقه! فأهل الكتاب جميعا- المؤمنون منهم والكافرون- على سواء في مواجهة الدين الإسلامى، كلّهم مدعوون إلى الإيمان به، فمن لم يؤمن به فهو كافر.
وأهل الكتاب، إذ دعوا إلى الإيمان بدين اللّه، تفرقوا، فآمن قليل منهم، وكفر كثير.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [121: البقرة] وبقوله سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [52- 53: القصص].
وأما المشركون، فقد انفكوا، وانفصلوا عن الكافرين من أهل الكتاب، بعد أن جاءتهم البينة إذ أنهم آمنوا باللّه، ودخلوا في دين اللّه جميعا، بعد أن تلبثوا على طريق العناد والضلال! وقوله تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
أي أن أهل الكتاب الذين دعوا إلى الإيمان بشريعة الإسلام، لم يدعوا إلى أمر لا يعرفونه، ولم يؤمروا بأمر لم تأمرهم به شريعتهم التي هم بها يؤمنون.
إنهم ما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين، لا يعبدون إلها غيره {حنفاء}.
أي مائلين عن أي طريق غير طريق اللّه.. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فهذا هو شرع اللّه، وتلك أحكام شريعته لكل المؤمنين بشرائع السماء.. إنها جميعا تقوم على هذه الأصول الثابتة:
وأولها الإيمان باللّه وحده، إيمانا خالصا من كل شرك، مبرأ من كل ما لا يجعل للّه سبحانه وتعالى التفرد بالخلق والأمر.
ثم إقام الصلاة، التي هى مظهر الولاء للّه، وآية الخضوع لجلاله وعظمته.
ثم إيتاء الزكاة، التي هى أثر من آثار الإيمان باللّه، الذي من شأنه أن يقيم المؤمنين باللّه على التوادّ والتراحم، والتعاطف فيما بينهم، كما يقيمهم الولاء للّه، والخضوع لجلاله وعظمته، كيانا واحدا في محراب الصلاة له.
وإذا كان هذا هو ما تدعو إليه الشرائع السماوية جميعا، وإذا كان هذا ما تدعو إليه شريعة الإسلام- فإن الذي يفرق بين هذه الشرائع وبين شريعة الإسلام، هو جائر عن طريق الحق، معتد على حدود اللّه.. إذ كانت شرائع اللّه كلها- سابقها ولا حقها- حرم اللّه وحدوده التي حدها لعباده: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الإيمان بشرائع اللّه كلها، وبرسل اللّه كلهم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [136: البقرة] قوله تعالى: {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
أي الدين القيم، أي المستقيم، أو دين الملة أو الأمة المستقيمة على الحق القائمة بالقسط- فكل من خرج على هذا الدين فهو على غير دين اللّه، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [159: الأنعام] ومن معانى {الدّين} هنا، دين اللّه، وهو الإسلام.
والقيّمة: مذكّر القيّم، بمعنى المستقيم، كما يقول تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [36: التوبة].
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
هو مواجهة للذين ظلّوا على كفرهم من أهل الكتاب، والذين أقاموا على شركهم من المشركين بعد أن جاءتهم البينة.. فهؤلاء وأولئك جميعا سيلقون في نار جهنم خالدين فيها.. وهؤلاء وأولئك هم شر البرية، أي شر الخلق.. لأنهم لم يؤمنوا وقد جاءتهم البينة، التي جمعت البنيان كله، واشتملت على الهدى جميعه، فكانت آياتها قائمة بين الناس، يلقونها في كل لحظة، ويديرون عقولهم وقلوبهم إليها في كل زمان ومكان، ولم تكن آياتها آيات عارضة، تلقاها حواسّ من يشهدونها ساعة من نهار، ثم نزول فلا ترى أبد الدهر، كما رأى الراءون من آيات موسى، وعيسى عليهما السلام.. وإنما هى آيات تعايش الإنسان، وتصحبه ما شاء أن تصحبه وتعيش معه.
والحق حين تتضح آياته هذا الوضوح المشرق، وحين يتجلّى وجهه هذا التجلي المبين، يكون منكره، والحائد عنه، أشدّ الناس ضلالا، وأكثرهم عنادا، وأبعدهم عن الخير، وأقربهم إلى الشر.. {أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
أي الذين آمنوا بهذا الدّين وعملوا الصالحات، أولئك هم خير الخلق جميعا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، إذ ألبسهم إيمانهم باللّه، وأعمالهم الصالحة في ظل هذا الإيمان- لباس التقوى، فكانوا هم عباد اللّه، وكانوا أهل ودّه، ولهذا كان جزاؤهم عند ربهم هذا الجزاء الكريم: {جنات عدن} أي جنات خلود واستقرار، تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، لا يتحولون عنها.. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} فأدخلهم في جنّاته، وأفاض عليهم من نعيمه. {وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضوا عن ربّهم، وحمدوه، وشكروا له هذا النعيم الذي هم فيه.. وذلك النعيم والرضوان، إنما هو لمن خشى ربّه، واتقاه، وخاف مقامه.
هذا، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد جاء الحديث عنهم مطلقا من غير قيد الإضافة إلى أهل الكتاب، أو المشركين، فلم يجىء النظم القرآنى هكذا: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أهل الكتاب والمشركين}.
كما جاء في الآية السابقة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وذلك لأن الذين يؤمنون باللّه ويعملون الصالحات في جميع الأحوال والأزمان داخلون في ساحة المؤمنين بشريعة الإسلام.
سواء أكان هذا الإيمان عن دعوة رسول وكتاب، أو عن دعوة العقل، وإلهام الفطرة، فالمؤمن باللّه حيث كان، وحيث كان مصدر إيمانه، هو لا حق بهؤلاء المؤمنين، وهو ملاق هذا الجزاء الذي يجزى به المؤمنون.
أما حصر الكافرين هنا في الذين كفروا من أهل الكتاب، والذين كفروا من المشركين، بعد أن جاءتهم البينة- فهو تشنيع على هذا الوجه الكريه الغليظ من وجوه الكفر، في مواجهة هذا الصبح المشرق، الذي لا ينكره إلا مكابر، ولا يكفر به إلا من ختم اللّه على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، ومن هنا كانوا شرّ البريّة على الإطلاق، كما كان المؤمنون بشريعة الإسلام خير البرية على الإطلاق كذلك.
وثانى الأمرين: هو أن وعيد الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالخلود في النّار- لم يقيّد بلفظ التأبيد {أبدا} بل جاء مطلقا هكذا: {خالِدِينَ فِيها} على حين جاء وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود في الجنة مؤبدا.. هكذا {خالِدِينَ فِيها أَبَداً}.
فما تأويل هذا؟
نقول- واللّه أعلم- إن تأبيد الخلود في الجنة، هو أمر عام لكل من أكرمه اللّه بدخول الجنة، وأخذ مكانه فيها، ونزل منزله منها.. فإنه لا يتحول أبدا عن هذا المنزل، وإن كان ثمة تحول فهو إلى منزل آخر في الجنة، أعلى من منزله الذي هو فيه.. فخلود أهل الجنة في الجنة، خلود مؤبد لكل من دخلها.. أما أهل النار.. فإن كثيرا ممن يدخلها من عصاة المؤمنين، لا يخلدون فيها، بل يتحولون عنها إلى الجنة، بعد أن ينالوا جزاءهم من العذاب في النار، وأما الذين يخلدون في النار فهم أهل الكفر، وحسبهم من العذاب أن يكون خالدا، أي طويلا ممتدّا إلى ما شاء اللّه.. فمعنى الخلود هنا هو امتداد الزمن وطوله، كما يفهم من قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يخلده، ويمد له في عمره زمنا طويلا.
ثم إن هؤلاء الخالدين في النار، هم بعد ذلك إلى مشيئة اللّه، في تأييد هذا الخلود أو توقيته، وهذا ما يفهم من قوله تعالى في أصحاب النار: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} وقوله تعالى بعد ذلك في أصحاب الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [106- 108: هود].
ففى جانب المخلدين في النار جاء قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} مؤذنا بأن للّه سبحانه وتعالى فعلا آخر في أهل النار غير هذا الخلود، بعد أن يستوفوه.. ولا ندرى ما هو.. غير أن رحمة اللّه التي وسعت كل شيء لا تقصر عن أن تنال هؤلاء الخالدين في النار ببعض آثارها.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
أما في جانب المخلدين في الجنة، فقد جاء قوله تعالى: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مؤذنا بأن هذا العطاء الذي أعطوه في الجنة، لن ينقطع أبدا.. واللّه أعلم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال