سورة النساء / الآية رقم 123 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً

النساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو أولاً نزلت بعض آياته تعليقاً وتعقيباً على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد بشير بن أبيرق ومشاقته للرسول صلى الله عليه وسلم وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها! ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء. وهو ثانياً يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا. ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس. ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله.. وأخيراً يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم. لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب. إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض..
فالدرس كله، موضوعاً واتجاهاً، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية..
ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..
{لا خير في كثير من نجواهم. إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}..
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيداً عن الجماعة المسلمة، وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمراً.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم مسارة إن كان أمراً شخصياً لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس. أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون جيوب في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها. وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمراً بليل، وتواجه به الجماعة أمراً مقرراً من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها- وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة. وكان المجتمع المسلم كله مجتمعاً مفتوحاً؛ تعرض مشكلاته- التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن- عرضاً عاماً. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعاً نظيفاً طلق الهواء. لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتآمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه- من المنافقين غالباً- وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئاً من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!
والنص القرآني هنا يستثني نوعاً من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها:
{إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس}..
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين. أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه. أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعاً.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سراً على النهوض بهذا الأمر. فهذا ليس نجوى ولا تآمراً. ومن ثم سماه أمراً وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له..
على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله:
{ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}..
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان. ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه- والله رجل طيب-! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير. فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به. والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات!
{ومن يشاقق الرسول- من بعد ما تبين له الهدى- ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً. إن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}.
وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات. أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين.. {من بعد ما تبين له الهدى}.. فقد كان في صفوف المسلمين، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين.. ولكن النص عام، ينطبق على كل حالة، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاقته كفر وشرك وردة، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم.
والمشاقة- لغة- أن يأخذ المرء شقاً مقابلاً للشق الذي يأخذه الآخر. والذي يشاق الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأخذ له شقاً وجانباً وصفاً غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى هذا أن يتخذ له منهجاً للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقاً غير طريقه. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء يحمل من عند الله منهجاً كاملاً للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها.. وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق! والذي يشاق الرسول صلى الله عليه وسلم هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقاً!
وقد اقتضت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيراً، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولاً. وبعد أن يبين لهم. وبعد أن يتبينوا الهدى. ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى. أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله. ثم شاق الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه:
{ومن يشاقق الرسول- من بعد ما تبين له الهدى- ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى، ونصله جهنم. وساءت مصيراً!}..
ويعلل النص هذا المصير البائس السيئ، بأن مغفرة الله- سبحانه- تتناول كل شيء.. إلا أن يشرك به.. فهذه لا مغفرة لمن مات عليها:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}..
والشرك بالله- كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل- يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذاً صريحاً على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة- كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص. كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} ولم يكونوا عبدوهم مع الله. ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله. فحرموا عليهم وأحلوا لهم. فاتبعوهم في هذا.
ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية! فحق عليهم وصف الشرك. وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً} فيقيموا له وحده الشعائر، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر.
ولا غفران لذنب الشرك- متى مات صاحبه عليه- بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه.. عندما يشاء الله.. والسبب في تعظيم جريمة الشرك، وخروجها من دائرة المغفرة، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً:
{ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}..
ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة.. فأما وقد غرغر- وهو على الشرك- فقد انتهى أمره وحق عليه القول:
{ونصله جهنم وساءت مصيراً!}.
ثم يصف بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها. وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات- هن الملائكة- وحول عبادتهم للشيطان- وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام- كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة! وفي تغييرهم خلق الله. والشرك بالله. وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها:
{إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً، لعنه الله وقال: لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً، ولأضلنهم، ولأمنينهم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام؛ ولآمرنهم فلغيرن خلق الله.. ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}.
لقد كان العرب- في جاهليتهم- يزعمون أن الملائكة بنات الله. ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث: اللات. والعزى. ومناة وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام- بوصفها تماثيل لبنات الله- يتقربون بها إلى الله زلفى.. كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر.. ثم ينسون أصل الأسطورة، ويعبدون الأصنام ذاتها، بل يعبدون جنس الحجر، كما بينا ذلك في الجزء الرابع.
كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصاً.. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن..
على أن النص هنا أوسع مدلولاً، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان، ويستمدون منه: هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم؛ الذي لعنه الله بسبب معصيته وعدائه للبشر. والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته، أن يأخذ من الله- سبحانه- إذناً بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله:
{إن يدعون من دونه إلا إناثاً. وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً. لعنه الله. وقال: لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً. ولأضلنهم، ولأمنينهم؛ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}.
إنهم يدعون الشيطان- عدوهم القديم- ويستوحونه ويستمدون منه هذا الضلال. ذلك الشيطان الذي لعنه الله.
والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير. كتمزيق آذان بعض الأنعام؛ ليصبح ركوبها بعد ذلك حراماً، أو أكلها حراماً- دون أن يحرمها الله- ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان، كخصاء الرقيق، ووشم الجلود.. وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام.
وشعور الإنسان بأن الشيطان- عدوه القديم- هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية، يثير في نفسه- على الأقل- الحذر من الفخ الذي نصبه العدو. وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان. ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض؛ والوقوف تحت راية الله وحزبه، في مواجهة الشيطان وحزبه: وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها. لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده. والمؤمن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها. وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله، وإما أن يكون ولياً للشيطان؛ وليس هنالك وسط.. والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات؛ ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة. والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه.. معركة واحدة متصلة طوال الحياة.
ومن يجعل الله مولاه فهو ناج غانم. ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك:
{ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً}..
ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه، في مثل حالة الاستهواء.
{يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}.
إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والشرك. ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها.
وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسناً! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة!
{وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}..
وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال. ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تُستهوى!
وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس، وتصور حقيقة المعركة، وحقيقة الموقف، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف: عاقبة من يستهويهم الشيطان، ويصدق عليهم ظنه.
وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة.. وعاقبة من يفتلون من حبالته، لأنهم آمنوا بالله حقاً. والمؤمنون بالله حقاً في نجوة من هذا الشيطان لأنه- لعنة الله عليه- وهو يستأذن في إغواء الضالين، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين. فهو إزاءهم ضعيف ضعيف؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين:
{ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً. يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً. أولئك مأواهم جهنم، ولا يجدون عنها محيصاً. والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، وعد الله حقاً، ومن أصدق من الله قيلاً؟}..
فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان.. وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله.. وعد الله: {ومن أصدق من الله قيلا}؟
والصدق المطلق في قول الله هنا؛ يقابل الغرور الخادع، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك! وشتان بين من يثق بوعد الله، ومن يثق بتغرير الشيطان!
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولاً إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم- فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر- وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
{ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب. من يعمل سوءاً يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً.. ومن يعمل من الصالحات- من ذكر أو أنثى وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله- وهو محسن- واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً}.
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وكانوا يقولون: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار!
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس. وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون..
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده. ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد. هو إسلام الوجه لله- مع الإحسان- واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام. إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً..
فأحسن الدين هو هذا الإسلام- ملة إبراهيم- وأحسن العمل هو الإحسان.. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها، وحد الشفرة؛ حتى لا تعذب وهي تذبح!
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة؛ في موقفهما من العمل والجزاء؛ كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل، وهو الإيمان بالله:
{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى- وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}.
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة- من ذكر أو أنثى. كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل. وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان. ولا يصاحبه الإيمان. وذلك طبيعي ومنطقي. لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم؛ كما يجعله حركة طبيعية مطردة، لا استجابة لهوى شخصي، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة..
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء عم عند قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم. بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماماً. وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي- رحمه الله. وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم (الجزء الثلاثين من الظلال).
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
{ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً}..
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءاً. مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.
كانوا يعرفون النفس البشرية- كما هي في حقيقتها- وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحياناً، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه. ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلاً ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم. أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلاً بمشاعرهم كأنهم فيها. لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد!
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول، الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به}.. فكل سوء عملناه جزينا به.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «غفر الله لك يا أبا بكر. ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟» قال بلى! قال: «فهو مما تجزون به». ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثوري عن إسماعيل.
وروى أبو بكر بن مردويه- بإسناده- إلى ابن عمر، يحدث عن أبي بكر الصديق. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {من يعمل سوءاً يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ألا أقرئك آية نزلت علي؟» قال: قلت يا رسول الله فأقرأنيها.. فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري، حتى تمطيت لها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالك يأ أبا بكر»فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب. وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» (وكذا رواه الترمذي).
وروى ابن أبى حاتم- بإسناده- عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن. فقال: «ما هي يا عائشة؟» قلت: {من يعمل سوءاً يجز به} فقال. «ما يصيب العبد المؤمن، حتى النكبة ينكبها» (ورواه ابن جرير).
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة- بإسناده- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {من يعمل سوءاً يجز به} شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة. حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها».
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء. ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى. ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جداً. ويعرفون صدق وعد الله حقاً. ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.
وفي الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء، وقضية الشرك قبلها والإيمان، برد كل ما في السماوات والأرض لله، وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة:
{ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله بكل شيء محيطاً}.
وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيراً إفراده سبحانه بالملك والهيمنة- والسلطان والقهر، فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله. وإنما هو توحيد إيجابي. توحيد الفاعلية والتأثير في الكون، وتوحيد السلطان والهيمنة أيضاً.
ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض.
وأنه بكل شيء محيط، لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه.. كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة؛ وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره.. وكل شيء ملكه. وكل شيء في قبضته. وهو بكل شيء محيط.
وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله. ولكن بعضها ينفي عنه الإرداة. وبعضها ينفي عنه العلم. وبعضها ينفي عنه السلطان. وبعضها ينفي عنه الملك.. إلى آخر هذا الركام الذي يسمى فلسفات!.. ومن ثم يصبح هذا التصور سلبياً لا فاعلية له في حياة الناس، ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم؛ ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم.. كلام! مجرد كلام!
إن الله في الإسلام، له ما في السموات وما في الأرض. فهو مالك كل شيء.. وهو بكل شيء محيط. فهو مهيمن على كل شيء.. وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير. ويصلح السلوك. وتصلح الحياة..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال