سورة العصر / الآية رقم 3 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ

العصرالعصرالعصرالعصرالهمزةالهمزةالهمزةالهمزةالهمزةالهمزةالفيلالفيلالفيلالفيلالفيل




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة. إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار. وتصف الأمة المسلمة: حقيقتها ووظيفتها. في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة.. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله..
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه:
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناج. هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار..
{والعصر، إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
إنه الإيمان. والعمل الصالح. والتواصي بالحق. والتواصي بالصبر..
فما الإيمان؟!
نحن لا نعرّف الإيمان هنا تعريفه الفقهي؛ ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة.
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود. ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه. والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير. ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة. ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله.
وفضلاً عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق، فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعاً بالوجود وما فيه من جمال، ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه. فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان.. وهي سعادة رفيعة، وفرح نفيس، وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب. وهو كسب لا يعدله كسب. وفقدانه خسران لا يعدله خسران..
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة..
التعبد لإله واحد، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد، فلا يذل لأحد، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار.. ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان. والانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود. إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد. فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقاً ذاتياً، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد.
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه، وكل ما يربطه بالله، أو بالوجود، أو بالناس. فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة، وتحل محلهما الشريعة والعدالة. وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة.
ولو كان فرداً واحداً، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام.
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتها الناصعة، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد، وبلا وساطة في الطريق. ويودع القلب نوراً، والروح طمأنينة، والنفس أنساً وثقة. وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء!
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله. فلا يكون الخير فلته عارضة، ولا نزوة طارئة، ولا حادثة منقطعة. إنما ينبعث عن دوافع، ويتجه إلى هدف، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح، والراية الواحدة المتميزة. كما تتضامن الأَجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين.
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله، يرفع من اعتباره في نظر نفسه، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها. وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه.. أنه كريم عند الله.. وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه، ويرده إلى منبت حقير، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى.. هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة!
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع، ليس فيه ما يستغرب، ومن ثم ليس فيه ما يخجل.. وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء!
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله. ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر. وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره. والمؤمن يحس وقع نظر الله سبحانه في أطواء حسه إحساساً يرتعش له ويهتز. فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه!
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم، يكره الشر ويحب الخير. ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية، ومن رزانة وتدبر. وهي ليست تبعة فردية فحسب، إنما هي كذلك تبعة جماعية، وتبعة تجاه الخير في ذاته، وإزاء البشرية جميعاً.. أمام الله.. وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله، فيكبر في عين نفسه، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله.. إنه كائن له قيمة في الوجود، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود.
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا وهو بعض إيحاءات الإيمان واختيار ما عند الله، وهو خير وأبقى. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف.. يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن.. بين الدنيا والآخرة، والأرض والملأ الأعلى. مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة. فهو يفعل الخير لأنه الخير، ولأن الله يريده، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيراً على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود. فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت سبحانه- ولا ينسى، ولا يغفل شيئاً من عمله. والأرض ليست دار جزاء. والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف. ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب. وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجاً موصولاً، لا دفعة طارئة، ولا فلتة مقطوعة. وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر. سواء تمثل في طغيان طاغية، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته. هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجاً أساسياً كاملاً.
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته، صائر إلى ذبول وجفاف. وإلا فهي ثمرة شيطانية، وليس لها امتداد أو دوام!
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة. وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنزوات..
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون، وتنسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم، ولها هدف مرسوم..
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشد إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج. والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة.. جاء في سورة إبراهيم: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. لا يقدرون مما كسبوا على شيء} وجاء في سورة النور: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله، ما لم يستند إلى الإيمان، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود. وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله. فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه.
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني، وتناسقه مع فطرة الكون كله، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله.
فهو يعيش في هذا الكون، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب. ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق. فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى، وهو هذا الكيان الإنساني. وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا خسران. ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح.
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية.. خاسرة أي خسران!
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب. فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة. ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح.. هذا هو الإيمان الإسلامي.. لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن.. فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت. شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها. فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً. وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان.. إنه حركة عمل وبناء وتعمير.. يتجه إلى الله.. إنه ليس انكماشاً وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منة قوة بناء كبرى في صميم الحياة.
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني. وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود. صادرة عن تدبير، متجهة إلى غاية. وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود. الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله.
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة. الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى.
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة. الأمة الخيرة. الواعية. القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير.. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة.. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام.. هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن.
والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين.. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله.. وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة. فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بد من الصبر. لا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية!
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار.. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها، ولا تبرز إلا من خلالها.. وإلا فهو الخسران والضياع.
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء. يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض.. هذا والمسلمون أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير، وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع. والبقاع الي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله، راية الإيمان، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيراً قط في تاريخها كله. لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء. حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله، لا شريك له، المسماة باسم الله لا شريك له، الموسومة بميسم الله لا شريك له.. الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل..
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟.. عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله، وتحت عنوان عهد القيادة الإسلامية: الأئمة المسلمون وخصائصهم: ظهر المسلمون، وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
أولاً: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم. لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء، وقد جعل الله لهم نوراً يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟} وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} ثانياً: أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق، يزكيهم ويؤدبهم، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. يقول: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه».
ولا يزال يقرع سمعهم: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، ويزكوا أنفسهم، وينشروا دعاية لها، وينفقوا الأموال سعياً وراءها. فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد؛ بل عدوه أمانة في عنقهم، وامتحاناً من الله؛ ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم، ومسؤولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائماً قول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقوله.. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات، ليبلوكم فيما آتاكم}.
ثالثاً: إنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده؛ ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم. ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده. كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فالأمم عندهم سواء، والناس عندهم سواء الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه قائلاً: خذها من ابن الأكرمين. فاقتص منه عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً أمهاتهم؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب حتى المضطهدة منها في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد، بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين..
رابعاً: إن الإنسان جسم وروح، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ويتغذى غذاء صالحاً، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة ألبتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني. وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة..
إلى أن يقول تحت عنوان: دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة: وكذلك كان، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل. وفي ظهور المدنية الصالحة.. كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها، تسود فيها المثل الخلقية العليا، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة، فتقل الجنايات، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها، وتحسن علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد.
وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه، ولم يفترض المفترضون أزهى منه...
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع سورة العصر قواعده، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة. ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة. وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار. وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله. وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق. وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية الله ما تزال. وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح.
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض. وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير. وهناك. هناك الربح الحق والخسر الحق. هناك في الأمد الطويل، وفي الحياة الباقية، وفي عالم الحقيقة.. هناك الربح والخسر: ربح الجنة والرضوان، أو خسر الجنة والرضوان. هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له، أو يرتكس فتهدر آدميته، وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في الراحة:
{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً} وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق.. إنه الخسر.. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.. طريق واحد لا يتعدد. طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر. وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر.
إنه طريق واحد. ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر.. لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي، يتعاهدان على الإيمان والصلاح، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور. ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال