سورة النساء / الآية رقم 174 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً

النساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا الدرس جولة مع النصارى من أهل الكتاب، كما كان الدرس الماضي جولة مع اليهود منهم وهؤلاء وهؤلاء من أهل الكتاب، الموجه إليهم هذا الخطاب.
وفي الدرس الماضي أنصف القرآن عيسى بن مريم وأمه الطاهرة من افتراءات اليهود، وأنصف العقيدة الصحيحة في حكاية صلب المسيح- عليه السلام- وأنصف الحق نفسه من يهود، وأفاعيل يهود، وعنت يهود!
وفي هذا الدرس يتجه السياق إلى إنصاف الحق والعقيدة، وإنصاف عيسى بن مريم كذلك من غلو النصارى في شأن المسيح- عليه السلام- ومن الأساطير الوثنية التي تسربت إلى النصرانية السمحة من شتى الأقوام، وشتى الملل، التي احتكت بها النصرانية؛ سواء في ذلك أساطير الإغريق والرومان، وأساطير قدماء المصريين، وأساطير الهنود!
ولقد تولى القرآن الكريم تصحيح عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدها مليئة بالتحريفات مشحونة بالأساطير؛ كما تولى تصحيح عقائد المشركين، المتخلفة من بقايا الحنيفية دين إبراهيم- عليه السلام- في الجزيرة العربية ومن ركام فوقها من أساطير البشر وترهات الجاهلية!
لا بل جاء الإسلام ليتولى تصحيح العقيدة في الله للبشر أجمعين؛ وينقذها من كل انحراف وكل اختلال، وكل غلو، وكل تفريط، في تفكير البشر أجمعين.. فصحح- فيما صحح- اختلالات تصور التوحيد في أراء أرسطو في أثينا قبل الميلاد، وأفلوطين في الإسكندرية بعد الميلاد؛ وما بينهما وما تلاهما من شتى التصورات في شتى الفلسفات التي كانت تخبط في التيه، معتمدة على ذبالة العقل البشري، الذي لا بد أن تعينه الرسالة، ليهتدي في هذا التيه!
والقضية التي يعرض لها السياق في هذه الآيات، هي قضية التثليث وما تتضمنه من أسطورة بنوة المسيح لتقرير وحدانية الله سبحانه على الوجه المستقيم الصحيح.
ولقد جاء الإسلام والعقيدة التي يعتنقها النصارى- على اختلاف المذاهب- هي عقيدة أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة: الآب، والابن، والروح القدس. والمسيح هو الابن.. ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح. هل هو ذو طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية؟ أم هل هو ذو طبيعة واحدة لاهوتية فقط. وهل هو ذو مشيئة واحدة مع اختلاف الطبيعتين؟ وهل هو قديم كالآب أو مخلوق.. إلى آخر ما تفرقت به المذاهب، وقامت عليه الاضطهادات بين الفرق المختلفة.. (وسيأتي شيء من تفصيل هذا الإجمال في مناسبته في سياق سورة المائدة).
والثابت من التتبع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية، أن عقيدة التثليث، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله- سبحانه- (ومثلها عقيدة ألوهية أمه مريم، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال) كلها لم تصاحب النصرانية الأولى. إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ، مع الوثنيين الذين دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرأوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة.
والتثليث بالذات يغلب أن يكون مقتبساً من الديانات المصرية القديمة، من تثليث أوزوريس وإيزيس، وحوريس والتثليثات المتعددة في هذه الديانة..
وقد ظل النصارى الموحدون يقاومون الاضطهادات التي أنزلها بهم الأباطرة الرومان، والمجامع المقدسة الموالية للدولة (الملوكانيون) إلى ما بعد القرن السادس الميلادي على الرغم من كل ما لاقوه من اضطهاد وتغرب وتشرد بعيداً عن أيدي السلطات الرومانية!
وما تزال فكرة التثليث تصدم عقول المثقفين من النصارى، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات لا ينكشف سرها للبشر إلا يوم ينكشف الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض!
يقول القس بوطر صاحب رسالة: الأصول والفروع أحد شراح العقيدة النصرانية، في هذه القضية: قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا. ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات والأرض.
ولا نريد هنا أن ندخل في سرد تاريخي للأطوار وللطريقة التي تسللت بها هذه الفكرة إلى النصرانية. وهي إحدى ديانات التوحيد الأساسية. فنكتفي باستعراض الآيات القرآنية الورادة في سياق هذه السورة، لتصحيح هذه الفكرة الدخيلة على ديانة التوحيد!
{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق. إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيراً لكم. إنما الله إله واحد. سبحانه أن يكون له ولد. له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً}..
فهو الغلو إذن وتجاوز الحد والحق، هو ما يدعو أهل الكتاب هؤلاء إلى أن يقولوا على الله غير الحق؛ فيزعموا له ولداً- سبحانه- كما يزعمون أن الله الواحد ثلاثة..
وقد تطورت عندهم فكرة البنوة، وفكرة التثليث، حسب رقي التفكير وانحطاطه. ولكنهم قد اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد لله، والذي تزيده الثقافة العقلية، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر. ولكن عن المحبة بين الآب والابن. وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة.. بأنها صفات لله سبحانه في حالات مختلفة.. وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري. فهم يحيلونها إلى معميات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض.
والله- سبحانه- تعالى عن الشركة؛ وتعالى عن المشابهة. ومقتضى كونه خالقاً يستتبع.. بذاته.. أن يكون غير الخلق. وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق. والمالك والملك.
وإلى هذا يشير النص القرآني:
{إنما الله إله واحد. سبحانه! أن يكون له ولد؟ له ما في السماوات وما في الأرض..}
وإذا كان مولد عيسى- عليه السلام- من غير أب عجيباً في عرف البشر، خارقاً لما ألفوه، فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف. والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود. والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله. والله يخلق السنة ويجريها، ويصرفها حسب مشيئته. ولا حد لمشيئته.
والله- سبحانه- يقول- وقوله الحق- في المسيح:
{إنما المسيح عيسى بن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه}..
فهو على وجه القصد والتحديد: {رسول الله}..
شأنه في هذا شأن بقية الرسل. شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمان..
{وكلمته ألقاها إلى مريم}
وأقرب تفسير لهذه العبارة، أنه سبحانه، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن: إنه {كن.. فيكون}.. فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب- كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم- والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم، لا عجب في أن تخلق عيسى- عليه السلام- في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله:
{وروح منه}..
وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه. فكان إنساناً.. كما يقول الله تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} وكذلك قال في قصة عيسى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا}. فالأمر له سابقة.. والروح هنا هو الروح هناك.. ولم يقل أحد من أهل الكتاب- وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله- إن آدم إله، ولا أقنوم من أقانيم الإله. كما قالوا عن عيسى؛ مع تشابه الحال- من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك. بل إن آدم خلق من غير أب وأم: وعيسى خلق مع وجود أم.. وكذلك قال الله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون} ويعجب الإنسان- وهو يرى وضوح القضية وبساطتها- من فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله، في أذهان أجيال وأجيال وهي- كما يصورها القرآن- بسيطة بسيطة، وواضحة مكشوفة.
إن الذي وهب لآدم.. من غير أبوين.. حياة إنسانية متميزة عن حياة سائر الخلائق بنفخة من روحه، لهو الذي وهب عيسى.. من غير أب.. هذه الحياة الإنسانية كذلك.. وهذالكلام البسيط الواضح أولى من تلك الأساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح، لمجرد أنه جاء من غير أب.
وعن ألوهية الأقانيم الثلاثة كذلك!.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً:
{فآمنوا بالله ورسله. ولا تقولوا: ثلاثة. انتهوا خيراً لكم}..
وهذه الدعوة للإيمان بالله ورسله- ومن بينهم عيسى بوصفه رسولاً، ومحمد بوصفه خاتم النبيين- والانتهاء عن تلك الدعاوى والأساطير، تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف والتقرير المريح..
{إنما الله إله واحد}.. تشهد بهذا وحدة الناموس.. ووحدة الخلق. ووحدة الطريقة: كن.. فيكون.. ويشهد بذلك العقل البشري ذاته. فالقضية في حدود إدراكه. فالعقل لا يتصور خالقاً يشبه مخلوقاته، ولا ثلاثة في واحد. ولا واحداً في ثلاثة:
{سبحانه أن يكون له ولد}..
والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل.. والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين؛ وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه على استواء:
{له ما في السماوات وما في الأرض}..
ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود؛ وهو يرعاهم أجمعين، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم! فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة:
{وكفى بالله وكيلاً}..
وهكذا لا يكتفي القرآن ببيان الحقية وتقريرها في شأن العقيدة. إنما يضيف إليها إراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم؛ وقيامه- سبحانه- عليهم وعلى حوائجهم ومصالحهم؛ ليكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة..
ويمضي السياق في البيان؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية.. حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق.. وأن هناك فقط: ألوهية وعبودية.. ألوهية واحدة، وعبودية تشمل كل شيء، وكل أحد، في هذا الوجود.
ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى، أو شركاً في الألوهية كشركته في الألوهية:
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله- ولا الملائكة المقربون- ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله؛ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً}.
لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور؛ وعني بتقرير أن الله- سبحانه- ليس كمثله شيء. فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية. كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله- سبحانه وكل شيء (بما في ذلك كل حي) وهي أنها صلة ألوهية وعبودية. ألوهية الله، وعبودية كل شيء لله.. والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق- أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه- بحيث لا تدع في النفس ظلاً من شك أو شبهة أو غموض.
ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون. فقررها في سيرة كل رسول، وفي دعوة كل رسول؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام، إلى عهد محمد خاتم النبيين- عليه الصلاة والسلام- تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية- وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة- يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة؛ وينسب لله- سبحانه- البنين والبنات؛ أو ينسب لله- سبحانه- الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم؛ اقتباساً من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات!
ألوهية وعبودية.. ولا شيء غير هذه الحقيقة. ولا قاعدة إلا هذه القاعدة. ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية، وصلة العبودية بالألوهية..
ولا تستقيم تصورات الناس- كما لا تستقيم حياتهم- إلا بتمحيص هذه الحقيقة من كل غبش، ومن كل شبهة، ومن كل ظل!
أجل لا تستقيم تصورات الناس، ولا تستقر مشاعرهم، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم..
هو إله لهم وهم عبيده.. هو خالق لهم وهم مخاليق.. هو مالك لهم وهم مماليك.. وهم كلهم سواء في هذه الصلة، لا بنوة لأحد. ولا امتزاج بأحد.. ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه: التقوى والعمل الصالح.. وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله. فأما البنوة، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد؟!
ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة: أنهم كلهم عبيد لرب واحد.. ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد.. فأما القربى إليه ففي متناول الجميع.. عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان.. وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس.. وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام!
فالمسألة- على هذا- ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين، فحسب، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة، وارتباطات مجتمع، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان.
إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام.. ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد.. ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام كنيسة تستذل رقاب الناس، بوصفها الممثلة لابن الله، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم.
ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم بالحق الإلهي زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله!
وقد ظلَّ الحق المقدس للكنيسة والبابوات في جانب؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقاً مقدساً كحق الكنيسة في جانب.. ظل هذا الحق أو ذاك قائماً في أوربا باسم (الابن) أو مركب الأقانيم. حتى جاء الصليبيون إلى أرض الإسلام مغيرين. فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على الحق المقدس وكانت فيما بعد ثورات مارتن لوثر وكالفن وزنجلي المسماة بحركة الإصلاح.. على أساس من تأثير الإسلام، ووضوح التصور الإسلامي، ونفي القداسة عن بني الإنسان؛ ونفي التفويض في السلطان.. لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام..
وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته؛ وألوهية روح القدس (أحد الأقانيم) وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله، أو ألوهية أحد مع الله، في أي شكل من الأشكال.. يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبداً لله. وأن الملائكة المقربين عبيد لله؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله. وأن جميع خلائقه ستحشر إليه. وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم. وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم:
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله- ولا الملائكة المقربون- ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً}.
إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبداً لله. لأنه- عليه السلام- وهو نبي الله ورسوله- خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان. وهو خير من يعرف أنه من خلق الله؛ فلا يكون خلق الله كالله؛ أو بعضاً من الله! وهو خير من يعرف أن العبودية لله- فضلاً على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة- لا تنقص من قدره. فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء. وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده.. وكذلك الملائكة المقربون- وفيهم روح القدس جبريل- شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء- فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة؟!
{ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً}..
فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه.
سلطان الألوهية على العباد.. شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله..
فأما الذين عرفوا الحق، فأقروا بعبوديتهم لله؛ وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار؛ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
{وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً}..
وما يريد الله- سبحانه- من عباده أن يقروا له بالعبودية، وأن يعبدوه وحده، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء. ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم، كما تصح حياتهم وأوضاعهم. فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع، على أساس سليم قويم، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار، وما يتبع الإقرار من آثار..
يريد الله- سبحانه- أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم. ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ليعرفوا مَنْ صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض؛ فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه. يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد؛ ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه؛ حين تعنو له وحده الوجوه والجباه. يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحداً إلا الله. يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب. ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح؛ فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله. يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله لله.. ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس..
إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة؛ وتعليق أنظار البشر لله وحده؛ وتعليق قلوبهم برضاه؛ وأعمالهم بتقواه؛ ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.. إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية؛ وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض.. في هذه الحياة.. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات، في الآخرة، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر. وفيض من عطاء الله.
وفي هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام؛ وقرر أنها قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعاً؛ قبل أن يحرفها الأتباع، وتشوهها الأجيال.. يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلاداً جديداً للإنسان؛ تتوافر له معه الكرامة والحرية، والعدل والصلاح، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء.
والذين يستنكفون من العبودية لله، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي.. يذلون لعبودية الهوى والشهوة. أو عبودية الوهم والخرافة. ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم، ويحنون لهم الجباه. ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيداً مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله.. ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله.. هذا في الدنيا.. أما في الآخرة {فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً}..
إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان. وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان..
ومن ثم دعوة إلى الناس كافة- كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي- أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله. وهي نور كاشف للظلمات والشبهات. فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه؛ وسيجد فضل الله يشمله؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم:
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم؛ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}..
وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس.
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}.
إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر.. في مبناه وفي فحواه سواء. وهي قضية واضحة يدركها أحياناً من لا يفهمون من العربية حرفاً واحداً، بصورة تدعو إلى العجب.
كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب.. ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة. وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها. وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون!
وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا- من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية- سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة. وقالت لنا في انجليزية ضعيفة: أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم.. ولكن ليس هذا ما جئت من أجله.. إنني لا أفهم من لغتكم حرفاً واحداً. غير أنني أحس أن فيها إيقاعاً موسيقياً لم أعهده في أية لغة.. ثم.. إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب. هي أشد إيقاعاً. ولها سلطان خاص على نفسي!!!
وعرفت طبعاً أنها الآيات القرآنية، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص!
لا أقول: إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية.
ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة!
فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة، وحس خاص بأساليبها، فقد كان من أمرهم ما كان؛ يوم واجههم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل وعمرو بن هشام، في الاستماع سراً للقرآن، وهم به مأخوذون، قصة مشهورة. وهي إحدى القصص الكثيرة.. والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب..
فأما فحوى القرآن.. التصور الذي يحمله. والمنهج الذي يقرره. والنظام الذي يرسمه. والتصميم الذي يضعه للحياة.. فلا نملك هنا أن نفصله.. ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان.
وفي هذا القرآن نور:
{وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}..
نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محدداً مرسوماً.. في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء.. حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولاً؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحاً.. حيث يتلاشى الغبش وينكشف؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة؟!
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه، يحس يسراً وبساطة ووضوحاً في رؤية الأمور. ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء؛ وتلتزم حقائقها في يسر؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية، ونصاعتها كما خرجت من يد الله..
ومهما قلت في هذا التعبير: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}.. فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني! ولا بد من التذوق الذاتي! ولا بد من التجربة المباشرة!
{فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}..
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به.. متى صح الإيمان، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له. فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده. وهو صاحب السلطان والقدرة وحده.. وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل. رحمة في هذه الحياة الدنيا- قبل الحياة الأخرى- وفضل في هذه العاجلة- قبل الفضل في الآجلة- فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود.
كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة- كما أسلفنا- حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته. عبد لله وسيد مع كل من عداه.. وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان- كما جاء به الإسلام- هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. حين يوحد الألوهية؛ ويسوي بين الخلائق جميعاً في العبودية. وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله، فيكون عبداً له مهما تحرر!
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل، في حياتهم الحاضرة، وفي حياتهم الآجلة سواء..
{ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}..
وكلمة {إليه}.. تخلع على التعبير حركة مصورة. إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة.. وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة، فيعتصم به على ثقة.. حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي؛ وتتضح أمامه الطريق؛ ويقترب فعلاً من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم.
إنه مدلول يذاق.. ولا يعرف حتى يذاق!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال