سورة البقرة / الآية رقم 62 / تفسير تفسير القرطبي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

البقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرةالبقرة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)}
فيه ثماني مسائل: الأولى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال سفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم.
الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هادُوا} معناه صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالا، لأن الاعجمية إذا عربت غيرت عن لفظها.
وقيل: سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب، قال الشاعر:
إني امرؤ من حبه هائد ***
أي تائب. وفى التنزيل: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي تبنا. وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا.
وقال ابن عرفة: {هُدْنا إِلَيْكَ} أي سكنا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا}. وقرأ أبو السمال: {هادوا} بفتح الدال.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالنَّصارى} جمع واحده نصراني.
وقيل: نصران بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه. والأنثى نصرانة، كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرف بالألف واللام، قال الشاعر:
صدت كما صد عما لا يحل له *** ساقي نصارى قبيل الفصح صوام
فوصفه بالنكرة.
وقال الخليل: واحد النصارى نصري، كمهري ومهارى. وأنشد سيبويه شاهدا على قوله:
تراه إذا دار العشا متحنفا *** ويضحى لديه وهو نصران شامس
وأنشد:
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها *** كما أسجدت نصرانة لم تحنف
يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياء النسب، لأنهم قالوا: رجل نصراني وامرأة نصرانية. ونصره: جعله نصرانيا. وفى الحديث: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه».
وقال عليه السلام: «لا يسمع بى أحد من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها، وقياسه النصرانيون. ثم قيل: سموا بذلك لقرية تسمى ناصرة كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، قاله ابن عباس وقتادة.
وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة.
وقيل: سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر:
لما رأيت نبطا أنصارا *** شمرت عن ركبتي الإزار
كنت لهم من النصارى جارا ***
وقيل: سموا بذلك لقوله: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52]. الرباعة- قوله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ، وقيل: صاب، ولذلك اختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعا. فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، وصابت ثنية الغلام إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ. فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب.
الخامسة: لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم واكل طعامهم- على ما يأتي بيانه في المائدة- وضرب الجزية عليهم، على ما يأتي في، سورة براءة إن شاء الله. وأختلف في الصابئين، فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم.
وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام.
وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم.
وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة. والذي تحصل من مذهبهم- فيما ذكره بعض علمائنا- أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم.
السادسة: قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} أي صدق. و{من} في قوله: {مَنْ آمَنَ} في موضع نصب بدل من {الَّذِينَ}. والفاء في قوله: {فَلَهُمْ} داخلة بسبب الإبهام الذي في: {مَنْ}. و{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ابتداء وخبر في موضع خبر إن. ويحسن أن يكون {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط. و{آمَنَ} في موضع جزم بالشرط، والفاء الجواب. و{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر {مَنْ}، والجملة كلها خبر {إِنَّ}، والعائد على {الَّذِينَ} محذوف، تقديره من آمن منهم بالله.
وفي الايمان بالله واليوم الآخر اندارج الايمان بالرسل والكتب والبعث.
السابعة: إن قال قائل: لم جمع الضمير في قول تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} و{آمَنَ} لفظ مفرد ليس بجمع، وإنما كان يستقيم لو قال: له أجره. فالجواب أن {مَنْ} يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] على المعنى. وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} على اللفظ.
وقال الشاعر:
ألمّا بسلمى عنكما إن عرضتما *** وقولا لها عوجي على من تخلفوا
وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال: يصطحب وتخلف.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} فحمل على اللفظ. ثم قال: {خالِدِينَ} فحمل على المعنى، ولو راعى اللفظ لقال: خالدا فيها. وإذا جرى ما بعد من على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لان الإلباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في قوله تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. والحمد لله.
الثامنة: روى عن ابن عباس أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا} [الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى: {يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية.
وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام.
تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171]. قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته.
وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الاعرابي: الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق: كثيرة الولد.
وقال القتبي: أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قال: قلع من أصله. واختلف في الطور، فقيل: الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس.
وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت.
وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. إلا أن مجاهدا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقاله أبو العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وزعم البكري أنه سمى بطور بن إسماعيل عليه السلام، والله تعالى أعلم. القول في سبب رفع الطور وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بنى إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها. فقالوا: لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده، فأمروا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الايمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
قوله تعالى: {خُذُوا} أي فقلنا خذوا، فحذف. {ما آتَيْناكُمْ} أعطيناكم. {بِقُوَّةٍ} أي بجد واجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي.
وقيل: بنية وإخلاص. مجاهد: القوة العمل بما فيه.
وقيل: بقوة، بكثرة درس. {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ} أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه.
قلت: هذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها، على ما قاله الشعبي وابن عيينة، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} [البقرة: 101]. وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه». فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المقصود العمل كما بينا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا واخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا. قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا، لغلبة الجهل وطلب الرياسة وأتباع الاهواء. روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء». فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرآنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال: «ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم» وذكر الحديث، وسيأتي. وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لزياد: «ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى».
وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدءون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم.
وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله: يبدءون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم. وتقدم القول في معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. فلا معنى لإعادته.
قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} تولى تفعل، وأصله الاعراض والأدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا. وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل. وقوله: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} {فضل} مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره، لأن العرب استغنت عن إظهاره، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا بأن، فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر. والتقدير فلولا فضل الله تدارككم. {وَرَحْمَتُهُ} عطف على {فَضْلُ} أي لطفه وإمهاله. {لَكُنْتُمْ} جواب {فَلَوْلا}. {مِنَ الْخاسِرِينَ} خبر كنتم. والخسران: النقصان، وقد تقدم.
وقيل: فضله قبول التوبة، و{رَحْمَتُهُ} العفو. والفضل: الزيادة على ما وجب. والإفضال: فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان.
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} {عَلِمْتُمُ} معناه عرفتم أعيانهم.
وقيل: علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى. والعلم متوجه إلى أحوال المسمى. فإذا قلت: عرفت زيدا، فالمراد شخصه. وإذا قلت: علمت زيدا، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص. فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه: {عَلِمْتُمُ} بمعنى عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين.
وحكى الأخفش: ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه.
وفي التنزيل: {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. كل هذا بمعنى المعرفة، فاعلم. {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] صلة {الَّذِينَ}. والاعتداء. التجاوز، وقد تقدم.
الثانية: روى النسائي عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال له صاحبه: لا تقل نبي لو سمعك! فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببري إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت». فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي. «قال: فما يمنعكم أن تتبعوني!» قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة سبحان إن شاء الله تعالى.
الثالثة: {فِي السَّبْتِ} معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال.
وروى أشهب عن مالك قال: زعم أبن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الانس، ولا يعرف الانس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وسيأتي في الأعراف قول من قال: إنهم كانوا ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم. والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع، فقيل: إن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
وقيل: هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة. واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين. قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي.
وقال الجمهور: الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قلت: هذا هو الصحيح من القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته». رواه أبو هريرة أخرجه مسلم، وبحديث الضب رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر، قال جابر: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت» فمتأول على ما يأتي. قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث: «قد زنت» وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكان البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحجارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصى ما يبدلون وما يغيرون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون.
قلت: هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه. وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة أجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري. والذي قال البخاري في التاريخ الكبير: قال: لي نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبى بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه: «قد زنت». فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية.
وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد الله معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون. وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها- يعني القردة- فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن، لأن العبادات في الانس والجن دون غيرهما.
وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: «ولا أراها إلا الفأر» وفى الضب: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت» وما كان مثله، فإنما كان ظنا وخوفا لان يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ، وكان هذا حدسا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». وهذا نص صريح صحيح رواه عبد الله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر. وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر، فدل على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} {قِرَدَةً} خبر كان. {خاسِئِينَ} نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أو حالا من الضمير في: {كُونُوا}. ومعناه مبعدين. يقال: خسأته فخسأ وخسئ، وانخسأ أي أبعدته فبعد. وقوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً} [الملك: 4] أي مبعدا. وقوله: {اخْسَؤُا فِيها} [المؤمنون: 108] أي تباعدوا. تباعد سخط. قال الكسائي: خسأ الرجل خسوءا، وخسأته خسأ. ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القمي. يقال: قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا، وهو الصاغر الذليل. وأقمأته: صغرته وذللته، فهو قمي على فعيل.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال