سورة المائدة / الآية رقم 38 / تفسير تفسير الرازي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

المائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدةالمائدة




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
في اتصال الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً، والثاني: أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام، فذكر أولاً: قطع الطريق، وثانياً: أمر السرقة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف النحويون في الرفع في قوله: {والسارق والسارقة} على وجوه:
الأول: وهو قول سيبويه والأخفش: أن قوله: {والسارق والسارقة} مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف والتقدير: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، أي حكمهما كذا، وكذا القول في قوله: {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما} [النور: 2] وفي قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا} [النساء: 16] وقرأ عيسى بن عمر {والسارق والسارقة} بالنصب، ومثله {الزانية والزانى} والاختيار عند سيبويه النصب في هذا.
قال لأن قول القائل: زيداً فاضربه أحسن من قولك: زيد فاضربه، وأيضاً لا يجوز أن يكون {فاطعوا} خبر المبتدأ، لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء.
والقول الثاني: وهو اختيار الفراء: أن الرفع أولى من النصب، لأن الألف واللام في قوله: {والسارق والسارقة} يقومان مقام الذي فصار التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء، وأيضاً النصب إنما يحسن إذا أردت سارقاً بعينه أو سارقة بعينها، فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد.
ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه:
الأول: أن الله تعالى صرّح بذلك وهو قوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة، فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط، والثاني: أن السرقة جناية، والقطع عقوبة، وربط العقوبة بالجناية مناسب، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم، والثالث: أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة، ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة، فكان الأول أولى.
وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه طعن في القرآن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة، وذلك باطل قطعاً، فإن قال لا أقول: إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى، فنقول: وهذا أيضاً رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود.
والثاني: أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ (واللذين يأتيانها منكم) بالنصب، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول.
الوجه الثالث: أنا إذا قلنا: {والسارق والسارقة} مبتدأ، وخبره هو الذي نضمره، وهو قولنا فيما يتلى عليكم، فحينئذٍ قد تمت هذه الجملة بمتداها وخبرها، فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} فإن قال: الفاء تتعلق بالفعل الذي دلّ عليه قوله: {والسارق والسارقة} يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول: السارق والسارقة تقديره: من سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته.
والرابع: أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم هذا المعنى متأكد بقوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} فثبت أن القراءة بالرفع أولى.
الخامس: أن سيبويه قال: هم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى، فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتلعق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقاً، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً والله أعلم.
المسألة الثانية: قال كثير من المفسرين الأصوليين: هذه الآية مجملة من وجوه:
أحدها: أن الحكم معلق على السرقة، ومطلق السرقة غير موجب للقطع، بل لابد وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال، وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة.
وثانيها: أنه تعالى أوجب قطع الأيدي، وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل، وبالاجماع لا يجب قطعهما معاً فكانت الآية مجملة.
وثالثها: أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط، ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلاناً بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه، فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها، ويقع على الأصابع مع الكف، ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين، ويقع على كل ذلك إلى المنكبين، وإذا كان لفظ اليد محتملاً لكل هذه الأقسام، والتعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة.
ورابعها: أن قوله: {فاقطعوا} خطاب مع قوم، فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعاً على مجموع الأمة، وأن يكون واقعاً على طائفة مخصوصة منهم، وأن يكون واقعاً على شخص معين منهم، وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون، ولما لم يكن التعيين مذكوراً في الآية كانت الآية مجملة، فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق، هذا تقرير هذا المذهب.
وقال قوم من المحققين: الآية ليست مجملة ألبتة، وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله: {والسارق والسارقة} قائم مقام الذي والفاء في قوله: {فاقطعوا} للجزاء، فكان التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، ثم تأكد هذا بقوله تعالى: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} وذلك الكسب لابد وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة، فصار هذا دليلاً على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط، اللهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام، وأما قوله الأيدي عامة فنقول: مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً، ولا الاتبداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم.
وأما قوله: لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول: لا نسلم، بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب، ولهذا السبب قال تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6] فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله: {إِلَى المرافق} فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج، إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل.
وأما قوله: رابعا: يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد، وأن يكون مع واحد معين.
قلنا: ظاهره أنه خطاب مع كل أحد، ترك العمل به فيما صار مخصوصاً بدليل منفصل فيبقى معمولاً به في الباقي.
والحاصل أنا نقول: الآية عامة، فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها، ومعلوم أن هذا القول أولى من قول من قال: إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلاً.
المسألة الثالثة: قال جمهور الفقهاء: القطع لا يجب إلا عند شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز، وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري: القدر غير معتبر، فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير، والحرز أيضاً غير معتبر، وهو قول داود الأصفهاني، وقول الخوارج، وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه، فإن قوله: {والسارق والسارقة} يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من الحرز أو من غير الحرز.
إذا ثبت هذا فنقول: لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد، أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز، وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص، بل نقول: إن لفظ السرقة لفظة عربية، ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير، أو تبنة واحدة، أو كسرة صغيرة من خبز: إنه سرق ماله، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة، وأيضاً السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمراً يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل، لأن ما لا يكون موضوعاً في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة.
وقال داود: نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة، ولا في سرقة التبنة الواحدة، بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة، وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فربما استحقر الملك الكبير آلافاً مؤلفة، وربما استعظم الفقير طسوجاً، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو قال لفلان على مال عظيم، ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيماً عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه، ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالاً، وليس لقائل أن يستبعد ويقول: كيف يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة، لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعناً في الشريعة، فقالوا: اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، فكيف تقطع لأجل القليل من المال؟ ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة، وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن أيضاً مقبولاً منا في إيجاب القطع في القليل والكثير. قال: ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن هاهنا بخبر الواحد، وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه، فقال الشافعي رحمه لله: يجب القطع في ربع دينار، وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
لا قطع إلا ربع دينار وقال أو حنيفة رحمه الله: لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع إلا في ثمن المجن».
والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار.
وقال ابن أبي ليلى: مقدر بخمسة دراهم، وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر، وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة، فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها، ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن. قال: وليس لأحد أن يقول: إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين. قال: لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة، وكان يقول: احذر من قطع يدك بدرهم، ولو كان الاجماع منعقداً لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين، فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني.
وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لابد في وجوب القطع من القدر، ثم قال الشافعي رحمه الله: القطع في ربع دينار فصاعداً وهو نصاب السرقة، وسائر الأشياء تقوم به.
وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجب القطع في أقل من عشرة دارهم مضروبة، ويقوم غيرها بها.
وقال مالك رحمه الله: ربع دينار أو ثلاثة دراهم.
وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم.
حجة الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} يوجب القطع في القليل والكثير، إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار، فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعداً على ظاهر النص، ثم أكد هذا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: لا قطع إلا في ربع دينار.
وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع إلا في ثمن المجن» فهو ضعيف لوجهين:
الأول: أن ثمن المجن مجهول، فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز.
الثاني: أنه إن كان ثمن المجن مقدراً بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع إلا في ربع دينار» فكان الترجيح لهذا الجانب.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى، وفي الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة.
واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين:
الأول: أن السرقة علة لوجوب القطع، وقد وجدت في المرة الثالثة، فوجب القطع في المرة الثالثة أيضاً، إنما قلنا: إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} وقد بيّنا أن المعنى: الذي سرق فاقطعوا يده، وأيضاً الفاء في قوله: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة، فالسرقة علة لوجوب القطع، ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة، فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة، فلابد وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة، وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعاً آخر وهو المطلوب، والثاني: أنه تعالى قال: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} ولفظ الأيدي لفظ جمع، وأقله ثلاثة، والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة، ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولاً به عند السرقة الثالثة.
فإن قالوا: إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما، فكان هذا الحكم مختصاً باليمين لا في مطلق الأيدي، والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد.
قلنا: القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة، فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضاً القراءة الشاذة ليست بحجة عندنا، لأنا نقطع أنها ليست قرآناً، إذ لو كانت قرآناً لكانت متواترة، فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن، ولعلّه كان في القرآن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصاً، وما نقلت إلينا، ولعلّه كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلاً بأنه لو كان قرآناً لكان متواتراً، فلما لم يكن متواتراً قطعنا أنه ليس بقرآن، فثبت أن القراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: أغرم السارق ما سرق.
وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق: لا يجمع بين القطع والغرم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم.
وقال مالك رحمه لله: يقطع بكل حال، وأما الغرم فليزمه إن كان غنياً، ولا يلزمه إن كان فقيراً.
حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع، وقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» يوجب الضمان، وقد اجتمع الأمران في هذه السرقة فوجب أن يجب القطع والضمان، فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة، وعليه الدليل، على أنا نقول: إن حد الله لا يمنع حق العباد، بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، وبدليل أنه لو كان المسروق باقياً وجب رده بالإجماع، ويدل عليه أيضاً أن المسروق كان باقياً على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق، فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصراً على وقت القطع، أو مسنداً إلى أول زمان السرقة، والأول: لا يقول به الخصم، والثاني: يقتضي أن يقال: إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقاً على ذلك الوقت، وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي.
وهذا محال.
حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء، والجزاء هو الكافي، فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة، وإذا كان كافياً وجب أن لا يضم الغرم إليه.
والجواب: لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائماً، والله أعلم بالصواب.
المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه الله: السيد يملك إقامة الحد على المماليك.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يملك.
حجة الشافعي أن قوله: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} عام في حق الكل، لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصاً بالبعض دون البعض، ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضاً، ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى، فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإمام والمولى.
المسألة السابعة: احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماماً معيناً والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة، فلابد من شخص يكون مخاطباً بهذا الخطاب، وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام، فلما كان هذا التكليف تكليفاً جازماً ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام، وما لا يتأتى الواجب إلا به، وكان مقدوراً للمكلف، فهو واجب، فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذٍ.
المسألة الثامنة: قال المعتزلة: قوله: {نكالا مّنَ الله} يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقاً للاستخفاف والذم والإهانة، ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال: إنه بقي مستحقاً للمدح والتعظيم، لأنهما ضدان والجمع بينهما محال، وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات.
وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] فلا نعيدها هاهنا.
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة، فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو.
المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: قوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا نكالا مّنَ الله} يدل على تعليل أحكام الله، فإن الباء في قوله: {بِمَا كَسَبَا} صريح في أن القطع إنما وجب معللاً بالسرقة.
وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32].
المسألة العاشرة: قوله: {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} قال الزجاج: جزاء نصب لأنه مفعول له، والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم، وكذلك {نكالا مّنَ الله} فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه {فاقطعوا} والتقدير: جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله.
أما قوله: {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} فالمعنى: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه.
قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سهواً، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله.
قال أعد، فأعدت: والله غفورٌ رحيم، ثم تنبهت فقلت {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} فقال: الآن أصبت، فقلت كيف عرفت؟ قال: يا هذا عزيزٌ حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى:




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال