سورة الأنعام / الآية رقم 32 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ المُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه الجولة- أو هذه الموجة- عودة إلى مواجهة المشركين المكذبين بالقرآن الكريم، المكذبين بالبعث والآخرة.. ولكنها لا تواجههم بتصوير تعنتهم وعنادهم؛ ولا تواجههم بمصارع الغابرين من المكذبين من أسلافهم- كما سبق في سياق السورة- إنما تواجههم بمصيرهم في يوم البعث الذي يكذبون به؛ وبجزائهم في الآخرة التي ينكرونها.. تواجههم بهذا الجزاء وبذلك المصير في مشاهد حية شاخصة.. تواجههم به وهم محشورون جميعاً، مسؤولون سؤال التبكيت والتأنيب، وسؤال التشهير والتعجيب: {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟} وهم في رعب وفزع، وفي تضعضع وذهول يقسمون بالله ويعترفون له وحده بالربوبية: {والله ربنا ما كنا مشركين}!.. وتواجههم به وهم موقوفون على النار، محبوسون عليها، وهم في رعب وفزع، وفي ندم وحسرة يقولون: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}!.. وتواجههم به وهم موقوفون على ربهم، وهم يتذاوبون من الخجل والندم، ومن الروع والهول؛ وهو- جل جلاله- يسألهم سبحانه: {أليس هذا بالحق؟} فيجيبون في استخذاء وتذاوب: {بلى وربنا}. فلا يجديهم هذا الاعتراف شيئاً: {قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.. ويواجهون به وهم قد خسروا أنفسهم وخسروا كل شيء إذن؛ وجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم؛ وهم يجأرون بالحسرة على تفريطهم في الآخرة، وأخذهم للصفقة الخاسرة!
مشهد وراء مشهد، وكل مشهد يزلزل القلوب، ويخلخل المفاصل، ويهز الكيان، ويفتح العين والقلب- عند من يشاء الله أن يفتح عينه وقلبه- على الحق الذي يواجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم- والكتاب الذي يكذبون به؛ بينما الذين أوتوا الكتاب من قبلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم!
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}..
لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- لهذا القرآن؛ أو لصحة رساله محمد صلى الله عليه وسلم وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله.. تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم، عندما كانوا يقفون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء (وكان هذا غالباً في المدينة) أو في مواجهة المشركين من العرب؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية، يعرفون هذا القرآن، ويعرفون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله.
وهذا الآية- كما رجحنا- مكية. وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو- إذن- يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم، فهم لا يؤمنون.
شأنهم في هذا شأن المشركين، الذين خسروا أنفسهم، فلم يدخلوا في هذا الدين! والسياق قبل هذه الآية وبعدها كله عن المشركين. مما يرجح مكيتها كما قلنا من قبل في التعريف بالسورة..
وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}..
على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقاً؛ أو على أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول من عندالله حقاً، يوحى إليه بهذا القرآن..
وهذا جانب من مدلول النص فعلاً، ولكنا نلمح- باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذا الدين فيه- أن هناك جانباً آخر من مدلول النص؛ لعل الله- سبحانه- أراد أن يعلمه للجماعة المسلمة، ليستقر في وعيها على مدار التاريخ، وهي تواجه أهل الكتاب بهذا الدين..
إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله؛ ويعرفون- من ثم- ما فيه من سلطان وقوة؛ ومن خير وصلاح؛ ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها؛ وبالأخلاق التي تنبثق منها؛ وبالنظام الذي يقوم عليها. ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله؛ ويعلمون جيداً أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين!.. إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل.. ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين، أو يبقي عليها.. وأنها- من ثم- معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض، ويستعلي هذا الدين، ويكون الدين كله لله.. أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله؛ وأن يطارد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها. وبذلك وحده يكون الدين كله لله..
إن أهل الكتاب يعلمون جيداً هذه الحقيقة في هذا الدين.. ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.. وهم جيلاً بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة؛ وينقبون عن أسرار قوته؛ وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها؛ ويبحثون بجد: كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان الله في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله لله.. إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟!
إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة؛ لا لأنهم يبحثون عن الحقيقية- كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين!- ولا لينصفوا هذا الدين وأصله- كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافاً من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين!- كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها!
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك.
وأن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا!
إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرناً ينطق بحقيقة واحدة.. هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}.. ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة.. إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع؛ بلغة من اللغات الأجنبية.. وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم- بطبيعة الحال- لا يفصح عن نيته هذه؛ فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين- الممثل في الاستعمار- إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية؛ وأن استمرار الهجوم على الإسلام- ولو في الصورة الفكرية- سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث.. يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه.. ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة.. هذا الدين نعم عظيم.. ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة الإنسانية الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق! وينبغي- في النهاية- أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة الإنسانية الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب.. وبذلك يظل ديناً عظيماً..!!!
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين- وهي ظاهرياً تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر- يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب؛ لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوته؛ ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف.
وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم!
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه؛ جديدة دائماً؛ كلما عاشوا في ظلاله؛ وهم يخوضون معركة العقيدة؛ ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ؛ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر. ويرون بنور الله. الذي يكشف الحق، وينير الطريق..
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح الظالمون. ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
هذا استطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه، ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه.. مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله؛ وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به إبراهيم عليه السلام؛ ومن زعمهم أن ما يحلونه وما يحرمونه من الأنعام والمطاعم والشعائر- كالذي سيجيء في آخر السورة مشفوعاً بقوله تعالى: {بزعمهم}- هو من أمر الله.. وليس من أمره. وذلك كالذي يزعمه بعض من يدعون اليوم أنهم على دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقولون عن أنفسهم إنهم مسلمون! وهو من الكذب المفترى على الله. ذلك أنهم يصدرون أحكاماً وينشئون أوضاعاً، ويبتدعون قيماً من عند أنفسهم يغتصبون فيها سلطان الله ويدعونه لأنفسهم، ويزعمون أنها هي دين الله؛ ويزعم لهم بعض من باعوا دينهم ليشتروا به مثوى في دركات الجحيم، أنه هو دين الله!.. وباستنكار تكذيبهم كذلك بآيات الله، التي جاءهم بها النبي صلى الله عليه وسلم فردوها وعارضوها وجحدوها. وقالوا: إنها ليست من عند الله. بينما هم يزعمون أن ما يزاولونه في جاهليتهم هو الذي من عند الله! وذلك كالذي يحدث من أهل الجاهلية اليوم.. حذوك النعل بالنعل..
يواجههم باستنكار هذا كله؛ ووصفه بأنه أظلم الظلم:
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته!}..
والظلم هنا كناية عن الشرك. في صورة التفظيع له والتقبيح. وهو التعبير الغالب في السياق القرآني عن الشرك. وذلك حين يريد أن يبشع الشرك وينفر منه. ذلك أن الشرك ظلم للحق، وظلم للنفس، وظلم للناس. هو اعتداء على حق الله- سبحانه- في أن يوحد ويعبد بلا شريك. واعتداء على النفس بإيرادها موارد الخسارة والبوار. واعتداء على الناس بتعبيدهم لغير ربهم الحق، وإفساد حياتهم بالأحكام والأوضاع التي تقوم على أساس هذا الاعتداء.
ومن ثم فالشرك ظلم عظيم، كما يقول عنه رب العالمين. ولن يفلح الشرك ولا المشركون:
{إنه لا يفلح الظالمون}..
والله- سبحانه- يقرر الحقيقة الكلية؛ ويصف الحصيلة النهائية للشرك والمشركين- أو للظلم والظالمين- فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر، في الأمد القريب، فلاحاً ونجاحاً.. فهذا هو الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار.. ومن أصدق من الله حديثاً؟..
وهنا يصور من عدم فلاحهم موقفهم يوم الحشر والحساب، في هذا المشهد الحي الشاخص الموحي:
{ويوم نحشرهم جميعاً، ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
إن الشرك ألوان، والشركاء ألوان، والمشركين ألوان.. وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين: من أن هناك ناساً كانوا يعبدون أصناماً أو أحجاراً، أو أشجاراً، أو نجوماً، أو ناراً.. الخ.. هي الصورة الوحيدة للشرك!
إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله- سبحانه- بإحدى خصائص الألوهية.. سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات. أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها. أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة.. كلها ألوان من الشرك، يزاولها ألوان من المشركين، يتخذون ألواناً من الشركاء!
والقرآن الكريم يعبر عن هذا كله بالشرك؛ ويعرض مشاهد يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء؛ ولا يقتصر على لون منها، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها؛ ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء..
ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعاً:
كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله، لها مشاركة- عن طريق الشفاعة الملزمة عندالله- في تسيير الأحداث والأقدار. كالملائكة. أو عن طريق قدرتها على الأذى- كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم- أو عن طريق هذه وتلك- كأرواح الآباء والأجداد- وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات؛ ويستنطقها الكهان؛ فتحل لهم ما تحل، وتحرم عليهم ما تحرم.. وإنما هم الكهان في الحقيقة.. هم الشركاء!
وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام؛ وتقديم القربان لها والنذور- وفي الحقيقة للكهان- كما أن بعضهم- نقلاً عن الفرس- كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث- عن طريق المشاركة لله- ويتقدمون لها كذلك بالشعائر (ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه السلام بموضوع السورة كما سيأتي).
وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم- عن طريق الكهان والشيوخ- شرائع وقيماً وتقاليد، لم يأذن بها الله.. وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله!
وفي هذا المشهد- مشهد الحشر والمواجهة- يواجه المشركين- كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك- بسؤالهم عن الشركاء- كل أصناف الشركاء- أين هم؟ فإنه لا يبدو لهم أثر؛ ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب:
{ويوم نحشرهم جميعاً، ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟}..
والمشهد شاخص، والحشر واقع، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم.. الأليم: {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟}..
وهنا يفعل الهول فعله.. هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا.. هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة- كما هو منعدم في الواقع والحقيقة- وجود الشركاء؛ فيشعرون أنه لم يكن شرك، ولم يكن شركاء.. لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع.. هنا يفتنون فيذهب الخبث، ويسقط الركام- من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد-:
{ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين}..
إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنة، أو التي تبلورت فيها الفتنة، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده؛ وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا.. ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل.. فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة.. لقد فات الأوان.. فاليوم للجزاء لا للعمل.. واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان..
لذلك يقرر الله سبحانه، معجباً رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر القوم، أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء، حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة. وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه، فاعترفوا بالحق بعد ما غاب عنهم الافتراء:
{انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
فالكذب منهم كان على أنفسهم؛ فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكاً، وافتروا على الله هذا الافتراء. وقد ضل عنهم ما كانوا يفترون وغاب، في يوم الحشر والحساب!
هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته: أنهم ما كانوا مشركين. وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك. فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله، وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله- كما تقول بعض التفاسير- فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثاً.. إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب؛ وأنمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك.
ثم تعجيب الله- سبحانه- من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا؛ والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة!
.. والله أعلم بمراده على كل حال.. إنما هو احتمال..
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة.. يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك، مطموسي الفطرة، معاندين مكابرين، يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين؛ وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضاً.. يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهداً كئيباً مكروباً؛ وهم موقوفون على النار محبوسون عليها، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب؛ وهم يتهافتون متخاذلين؛ ويتهاوون متحسرين؛ يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير. فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير:
{ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين. وهم ينهون عنه وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين! بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون}..
إنهما صفحتان متقابلتان: صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة.. يرسمها السياق القرآني، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية؛ ويهز بها هذه الفطر هزاً، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان.
{ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها}..
والأكنة: الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه؛ والوقر: الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع..
وهذه النماذج البشرية التي تستمع؛ ولكنها لا تفقه، كأن ليس لها قلوب تدرك؛ وكأن ليس لها آذان تسمع.. نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل، في كل زمان وفي كل مكان.. إنهم أناسي من بني آدم.. ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه. كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها. وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان!
{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. حتى إذا جاءوك يجادلونك. يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين}.
فأعينهم ترى كذلك. ولكن كأنها لا تبصر. أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم!
فما الذي أصاب القوم يا ترى؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة. بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول؟ يقول الله- سبحانه-:
{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها}..
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان.
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء.. إنه سبحانه يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} ويقول: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}. فشأن الله- سبحانه- أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها.. فأما هؤلاء فلم يتجهوا إلى الهدى ليهديهم الله؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم، فييسر الله لهم الاستجابة.. هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى.. وكل شيء إنما يكون بأمر الله. ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، وأن يفلح من يتزكى. ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.. والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم، وعلى قضائه فيهم، إنما يغالطون في هذه الإحالة. والله سبحانه يجبههم بالحق، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها: {وقال الذين أشركوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دونه من شيء. كذلك فعل الذين من قبلهم. فهل على الرسل إلا البلاغ المبين؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}. فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم- بعد النذارة- بفعلهم..
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر، والجبر والاختيار، وإرادة العبد وكسبه.. ليجعلوا منها مباحث لاهوتية، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضاً، فتكون.
وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله.. ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به.. وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء!
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان، في هذا القرآن، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق؛ وهي وحدها كانت كفيلة- لو اتجهت إليها قلوبهم- أن توقع على أوتار هذه القلوب، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها، لتتلقى وتستجيب.. إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجاباً؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب:
{حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين}..
والأساطير جمع أسطورة. وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات. وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها.
وهم كانوا يعلمون جيداً أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين. ولكنهم إنما كانوا يجادلون؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة.. وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصاً عن الرسل وأقوامهم؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين. فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله: {إن هذا إلا أساطير الأولين}!
وإمعاناً في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن، وتثبيت هذه الفرية.. فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين.. كان مالك بن النضر، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين، يجلس مجلساً قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن. فيقول للناس: إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين، فعندي أحسن منها! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم!
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه- وهم كبراؤهم- وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة:
{وهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون}..
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين. وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم. فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي، والباطل الواهن المتداعي، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم- خوفاً عليها أن تتأثر وتستجيب- وحكاية الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شداً إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة.
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن؛ ومن التأثر به والاستجابة له.. هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم- كما يقرر الله- سبحانه-:
{وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون}!
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة، في الدنيا والآخرة؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله! مساكين! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة. وإن بدا لهم حيناً من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون.
ومن شاء أن يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى:
{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد، ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين}!
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا.. مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة. في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض!
{ولو ترى إذ وقفوا على النار}..
لو ترى ذلك المشهد! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي! ولا يملكون الجدل والمغالطة!
لو ترى لرأيت ما يهول! ولرأيتهم يقولون:
{يا ليتنا نرد، ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين}..
فهم يعلمون الآن أنها كانت آيات ربنا! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا. وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات، وعندئذ سيكونون من المؤمنين!
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون!
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم. فهي جبلة لا تؤمن. وقولهم هذا عن أنفسهم: إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون، وأنهم ناجون، وأنهم مفلحون.
{بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل. ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وإنهم لكاذبون}..
إن الله يعلم طبيعتهم؛ ويعلم إصرارهم على باطلهم؛ ويعلم أن رجفة الموقف الرعيب على النار هي التي أنطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود.. {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}..
ويدعهم السياق في هذا المشهد البائس، وهذا الرد يصفع وجوههم بالمهانة والتكذيب!
يدعهم ليفتح صفحتين جديدتين متقابلتين كذلك؛ ويرسم لهما مشهدين متقابلين: أحدهما في الدنيا وهم يجزمون بأن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء.
وثانيهما في الآخرة وهم موقوفون على ربهم يسألهم عما هم فيه: {أليس هذا بالحق؟}.. السؤال الذي يزلزل ويذيب.. فيجيبون إجابة المهين الذليل: {بلى! وربنا}.. فيجبهون عندئذ بالجزاء الأليم بما كانوا يكفرون.. ثم يمضي السياق يرسم مشهدهم والساعة تأخذهم بغتة، بعدما كذبوا بلقاء الله، فتنتابهم الحسرة؛ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم! وفي النهاية يقرر حقيقة وزن الدنيا والآخرة في ميزان الله الصحيح:
{وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين. ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال: أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون. وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وللدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟}
وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية، التي جاء بها الإسلام؛ والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية. والتي لا يقوم هذا الدين- عقيدة وتصوراً، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة ونظاماً- إلا عليها.. وبها..
إن هذا الدين الذي أكمله الله، وأتم به نعمته على المؤمنين به، ورضيه لهم ديناً- كما قال لهم في كتابه الكريم- هو منهج للحياة كامل في حقيقته، متكامل متناسق في تكوينه.. يتكامل ويتناسق فيه تصوره الاعتقادي مع قيمه الخلقية، مع شرائعه التنظيمية.. وتقوم كلها على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية فيه وحقيقة الحياة الآخرة.
فالحياة- في التصور الإسلامي- ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.
إن الحياة في- التصور الإسلامي- تمتد طولاً في الزمان، وتمتد عرضاً في الآفاق، وتمتد عمقاً في العوالم، وتمتد تنوعاً في الحقيقة.. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.
إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة- فترة الحياة الدنيا- وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!
وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض؛ وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين!
وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله.
وجود يبدأ من لحظة الموت، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله.
وتمتد الحياة في حقيقتها؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى.. في الجنة وفي النار سواء.. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا.. ولا تساوي الدنيا- بالقياس إليها- جناح بعوضة!
والشخصية الإنسانية- في التصور الإسلامي- يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان، وفي هذه الآفاق من المكان، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات.. ويتسع تصورها للوجود كله؛ وتصورها للوجود الإنساني؛ ويتعمق تذوقها للحياة؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات.. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا!
ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النظم.. ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصوراً واعتقاداً، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة ونظاماً..
إن إنساناً يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق، ويصارع الآخرين عليه، بلا انتظار لعوض عما يفوته، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به.. إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس!
إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس وكبراً في الاهتمامات ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم! فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه، طبيعة هذا التصور، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته؛ استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله، وأنه مناط العوض والجزاء؛ وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه- متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي- وصلحت الأوضاع والأنظمة، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة، فيخسرون الدنيا والآخرة!
والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا؛ وإلى إهمال هذه الحياة؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة.. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة- كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة- وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم.
فالدنيا- في التصور الإسلامي- هي مزرعة الآخرة. والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعاً.. كل أولئك هو زاد الآخرة؛ وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى..
فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن، أو تفسد وتختل، أو يشيع فيها الظلم والطغيان، أو تتخلف في الصلاح والعمران.. وهم يرجون الآخرة، وينتظرون فيها الجزاء من الله؟
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين؛ ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا- مع ادعائهم الإسلام- فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة. فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبياً، أو متخلفاً، أو راضياً بالشر والفساد والطغيان.
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة. ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة.. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة؛ وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا؛ وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى..
وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقية الحياة الآخرة؛ وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع؛ وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى؛ وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم.
من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة. ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة..
وكان العرب في جاهليتهم- وبسبب من هذه الجاهلية- لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا؛ ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر: ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة.. مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته.
شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة.. العلمية كما يصر أهلها على تسميتها!
{وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}..
وكان الله- سبحانه- يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة.. هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور، التي تلصق الإنسان بالأرض، وتلصق تصوره بالمحسوس منها كالبهيمة.. وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان، التي تطلق السعار في النفس، والتكالب على المتاع المحدود، والعبودية لهذا المتاع الصغير، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح، ولا هدنة، ولا أمل في عوض، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة!.. وهذه الأنظمة والأوضاع، التي تنشأ في الأرض منظوراً فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان؛ بلا عدل ولا رحمة، ولا قسط ولا ميزان.. إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضاً، وتصارع الطبقات بعضها بعضاً، وتصارع الأجناس بعضها بعضاً.. وينطلق الكل في الغابة انطلاقاً لا يرتفع كثيراً على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم الحضارة.. في كل مكان..
كان الله- سبحانه- يعلم هذا كله؛ ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية.. أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة.. من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة..
ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة.. أولاً لأنها حقيقة. والله يقص الحق. وثانياً لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان: تصوراً واعتقاداً، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة ونظاماً.
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق.. الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتز لها وترجف؛ فتتفتح نوافذها، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها، وتتحرك وتحيا، وتتأهب للتلقي والاستجابة.. ذلك كله فضلاً على أنها تمثل الحقيقة:
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم. قال: أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}..
هذا مصير الذين قالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}.. وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين؛ وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه، لا يبرحون الموقف. وكأنما أُخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب:
{قال: أليس هذا بالحق؟}..
وهو سؤال يخزي ويذيب!
{قالوا: بلى وربنا}..
الآن. وهم موقوفون على ربهم. في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون!
وفي اختصار يناسب جلال الموقف، ورهبة المشهد، وهول المصير، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير:
{قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم، وأخلدت إلى الأرض، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب؛ الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة؛ الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة! بذلك التصور الهابط الهزيل!
ويستكمل السياق المشهد الذي ختمه هناك بهذا القضاء العلوي تنسيقاً له مع الجلال والروعة والهول.. يستكمله بتقرير حقيقته:
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله. حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها!}.. فهي الخسارة المحققة المطلقة.. خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى.. وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا.. والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حساباً:
{حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها!}..
ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال:
{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}..
بل الدواب أحسن حالاً. فهي تحمل أوزاراً من الأثقال. ولكن هؤلاء يحملون أوزاراً من الآثام! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح. وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم. مشيعين بالتأثيم:
{ألا ساء ما يزرون!}..
وفي ظلال هذا المشهد الناطق بالخسارة والضياع، بعد ذلك المشهد الناطق بالهول والرهبة.. يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع؛ بحقيقة وزن الدنيا ووزن الآخرة في ميزان الله؛ وقيمة هذه الدنيا وقيمة الآخرة في هذا الميزان الصحيح:
{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وللدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟}..
هذه هي القيمة المطلقة الأخيرة في ميزان الله للحياة الدنيا وللدار الآخرة.. وما يمكن أن يكون وزن ساعة من نهار، على هذا الكوكب الصغير، إلا على هذا النحو، حين توازن بذلك الأبد الأبيد في ذلك الملك العريض. وما يمكن أن تكون قيمة نشاط ساعة في هذه العبادة إلا لعباً ولهواً حين تقاس إلى الجد الرزين في ذلك العالم الآخر العظيم..
هذا تقييم مطلق.. ولكنه في التصور الإسلامي لا ينشئ- كما قلنا- إهمالاً للحياة الدنيا ولا سلبية فيها ولا انعزالاً عنها.. وليس ما وقع من هذا الإهمال والسلبية والانعزال وبخاصة في بعض حركات التصوف والزهد بنابع من التصور الإسلامي أصلاً. إنما هو عدوى من التصورات الكنسية الرهبانية؛ ومن التصورات الفارسية، ومن بعض التصورات الإشراقية الإغريقية المعروفة بعد انتقالها للمجتمع الإسلامي!
والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة، لم تكن سلبية ولا انعزالية.. فهذا جيل الصحابة كله؛ الذين قهروا الشيطان في نفوسهم، كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض؛ حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات.
هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله، هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة، وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة، وطاقة فائضة، في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة.
إنما أفادهم هذا التقييم الرباني للحياة الدنيا وللدار الآخرة، أنهم لم يصبحوا عبيداً للدنيا. لقد ركبوها ولم تركبهم! وعبدوها فذللوها لله ولسلطانه ولم تستعبدهم! ولقد قاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة. فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة!
والآخرة غيب. فالأيمان بها سعة في التصور. وارتقاء في العقل. والعمل لها خير للمتقين يعرفه الذين يعقلون:
{وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}..
والذين ينكرون الآخرة اليوم لأنها غيب إنما هم الجهال الذين يدعون العلم.. فالعلم علم الناس- (كما سنذكر فيما بعد) لم يعد لديه اليوم حقيقة واحدة مستيقنة له إلا حقيقة الغيب وحقيقة المجهول!!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال