سورة الأنعام / الآية رقم 37 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}.
التفسير:
فى قوله تعالى في الآية (35) {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين المعاندين، قد أضلّهم اللّه لعنادهم وكفرهم، وتركهم وما اختاروا من ضلال وشرك.. ذلك لأنهم عموا عن آيات اللّه، وأبوا أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} بيان لحال هؤلاء الكافرين المعاندين، وأنهم لن يسمعوا كلمة الحق، ولن يعطوها آذانا واعية، ولهذا كان من الحكمة ألا يلحّ عليهم أحد بما يدعوهم إليه من حقّ وهدى، فإنهم لن يسمعوا، ولو سمعوا ما استجابوا.. {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي الذين يسمعون سمعا عاقلا متدبرا.. يصغى، ويفكر، ويعقل.. أما هؤلاء وإن كانت لهم آذان يسمعون بها فإنها تصبح ثقيلة عند سماع الحق، كأن بها وقرا، لأن قلوبهم مريضة، وعقولهم سفيهة، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [23: الأنفال].
وقوله تعالى: {وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} معطوف على قوله سبحانه: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي أن هذين الأمرين من واد واحد، إذ هما ممكنان واقعان في قدرة اللّه: استجابة الذين يسمعون ويعقلون، لما يسمعونه ويعقلونه، وبعث لأموات من قبورهم يوم القيامة.
وفى الجمع بين الأمرين دلالتان:
أولاهما: أن الناس لهم كسب ولهم إرادة، وقدرة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} وأن اللّه سبحانه وتعالى لم يكلّف الناس إلّا ما هو ملائم لطبيعتهم، مناسب لقدرتهم، أما ما فوق ذلك فلم يكلّفوا به، ولم يحاسبوا عليه، كبعث الموتى، الذي هو مما للّه وحده {والموتى يبعثهم اللّه}.
وثانيتهما: أن الضّالين المعاندين من الناس، الذين لم يستمعوا للحق، ولم يستجيبوا له، قد وضعوا بذلك أنفسهم موضع العجز المطلق، أمام هذا الأمر الممكن الذي دعوا إليه، فكأنهم والأموات سواء.. فكما يستحيل على الأموات أن يبعثوا من تلقاء أنفسهم، كذلك يستحيل على هؤلاء الضالين المعاندين أن يستمعوا للهدى وأن يستجيبوا له بطبيعتهم.. والأموات يبعثون حين يريد اللّه بعثهم ودعوتهم إليه، والضالون الشاردون عن اللّه، يهديهم اللّه، إذا أراد لهم الهداية، ودعاهم إلى طريقه.. ولكن هؤلاء الضالين المعاندين لن يدعوهم اللّه إليه، ولن يهديهم إلى الحق، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}.
فهم وقد كان الإيمان باللّه من الممكنات لهم، قد جعلوه بعنادهم وضلالهم مستحيلا يحتاج إلى قدرة فوق قدرتهم، هى قدرة اللّه تعالى، وإذ تخلّى اللّه عنهم وأخلاهم لقدرتهم، فلن يهتدوا إذن أبدا.. وإن اللّه- سبحانه- يبعث الموتى، ولكنه لا يهدى هؤلاء الضالين العاندين.
وفى هذا تيئيس لهم، وخذلان مبين، وخزى فاضح، ووعيد بالحساب الشديد، والعذاب الأليم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} الضمير في {يرجعون}، يعود إلى هؤلاء المعاندين، الذين لن يهتدوا أبدا، إلى أن يموتوا، ثم يبعثوا مع الموتى.
ثم يرجعون إلى اللّه، للحساب والجزاء.. وهذا هو سرّ العطف بثم الذي يفيد التراخي الزمنيّ.. فهم إذ خوطبوا كانوا أحياء.. ثم يبعثون، ثم يحشرون قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو بيان لموقف هؤلاء الضالين المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا للّه ولرسوله، وأصبح قبولهم الإيمان أمرا مستحيلا في مواجهة ما جاءهم به النبىّ، ولن يكون لهم نظر وكسب فيما كان يدعوهم إليه من إيمان، بعد أن تأتيهم الآيات التي يقترحونها.
{وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} والآية التي يقترحونها هى معجزة مادية، يرونها بأعينهم. كما يقول اللّه تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} (الإسراء: 90- 91- 92) وفى قولهم {من ربّه} كفر صريح باللّه، واتهام للنبىّ بأن له ربّا غير الرّبّ الذي يعرفونه، ويتقربون بالأوثان إليه.
وفى قوله تعالى {نُزِّلَ} إشارة إلى أن الآية التي يطلبونها هى آية حسّية، تتحرك بين الناس، ويتحرك الناس بين يديها.. فهى- والأمر كذلك- شيء مغاير للآيات القرآنية التي تنزل على النبىّ، فلا يكون لها هذا الأثر الحسّى، الذي يبعث في الحياة هزّة، وثورة ظاهرتين للعيان! وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} فليس أمام قدرة اللّه ما يعجز، وقد نزّل اللّه كثيرا من الآيات الحسّية كهذه الآيات التي يقترحونها، ولكن كثيرا من الناس كفر بها، وخادع حواسه وخان عقله فيها.
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى جهل هؤلاء المكذبين، فوق ما هم فيه من ضلال وكفر.. ولو علموا لرأوا أن هذا المقترح الذي يقترحونه. فيه هلاكهم ودمارهم.. حيث ذلك هو الجزاء الذي يعقب التكذيب بالمعجزات الحسيّة، التي هلك المكذبون بها، حين جاءتهم على يد الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وعيسى.
قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} إشارة إلى أن عالم الأحياء، من إنسان، وحيوان، وطير، يرجع إلى أصل واحد، كانت منه جميع هذه المخلوقات، في أنواعها وأجناسها.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} تسوية بين عالم الإنسان، وعالم الحيوان، في إقامة كل جنس من أجناس الحيوان، على نظام في حياته، وفى أسلوب معيشته، وتوالده، وصلات أفراده بعضها ببعض أو صلاته بالقريب والبعيد منه من أجناس الحيوان- أشبه بنظام المجتمع الإنسانى.
فكما أن الناس يمسكهم نظام، ويضبط حياتهم سلوك، وتربط بينهم عادات، وتحكمهم قوانين، فكذلك كل جنس من أجناس الحيوان، وكل نوع من أنواعه.. له عالمه الذي يعيش فيه، وله تقاليده، وعادانه، ولغته التي يتفاهم بها، وله سلطانه الذي يأخذ به الخارجين على نظام الجماعة، المتمردين على أوضاعها المستقرة فيها.
وفى قوله تعالى: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} ما يسأل عنه:
لما ذا كان ذكر الجناحين هنا، مع أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ وهل هناك طائر يطير بغير جناحين؟ وإذا كان من الطير ما يطير بلا جناحين، فهل يخرج من هذا الحكم الذي قضى اللّه به على الدواب والطير؟
والجواب على هذا، هو أن أجناس الطير كثيرة، متفاوتة القدر، مختلفة الحجم والصورة، من النّسر، والصقر، إلى البعوضة، والذرّة.. وكلها ذات جناحين تطير بهما، ومن هذه الطيور ما لا ترى العين جناحيه، ولا يكاد يتصور العقل أنه يحمل أجنحة، وفى ذكر القرآن للأجنحة التي لكل طائر، ما يدعو الإنسان إلى إعادة النظر وإمعانه في هذه المخلوقات الضئيلة، وفى دقة تركيبها، وروعة بنائها، وأنها- على صغر جرمها- عالم متكامل، في تكوينه، قد أودعت يد القدرة فيه من الأجهزة، والحواس، ما أودعته في أرقى الكائنات الحية، من قوى، ومشاعر، ومدركات.
وفى القرآن الكريم كشوف رائدة، رائعة، عن عالم الحيوان، وما أودع الخالق العظيم فيه من قوّى وأسرار، لا تقلّ روعة وإحكاما، عما في الإنسان، الذي ينظر إلى وجوده بين هذه المخلوقات وكأنه إله، وكأنها هى من نافلة الحياة، أو من نفاياتها بالنسبة له!! فهذه النملة- على صغر جرمها، وضآلة شأنها.. تقف من سليمان موقف الندّ للندّ، وتتصدى له، وهو في بهاء ملكه، ومظاهر عظمته، وقد حشر له الجنّ والإنس والطير، في مظاهرة ولاء، واستعراض انقياد وخضوع، وإذا النملة التي يمرّ بها سليمان، فلا يأبه لها، ولا يحفل بها، بل ولا يكاد يذكر عن أمرها شيئا، وهو متخم بهذا السلطان العظيم الذي بين يديه- إذا هذه النملة تلقى سليمان لقاء مثيرا، وتحاجّه في منطق قاهر، لا يقلّ عن منطق سلطانه القوى المبين، فيعجب لهذا الذي يأتيه من قبل أضعف المخلوقات شأنا، وأهونها قدرا، وإذا سلطانه الذي بين يديه يهتزّ، ثم يتهاوى، وإذا هو والنملة على سواء.
إنها تقوم على دولة لا تقلّ عن دولته، نظاما وإحكاما وروعة، وإنها لتقوم على رعية تسوسها بالرأفة والحكمة، وتحوطها بالرّعاية والعناية، وتوفر لها الأمن والسلامة، بما لا يكون إلا من القلّة القليلة من أصحاب الحكم والسلطان..!
ونستمع إلى قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [17- 19: النمل] وإذا نستمع إلى كلمات اللّه هذه، نكاد ننصرف بأبصارنا ومشاعرنا عن سليمان، عليه السلام، وحشوده الحاشدة، من الجنّ والإنس والطير، إلى هذا المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره.
بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى اللّه، ضارعا بالحمد والشكر: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ}.
وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد اللّه الصالحين، الذين دعا اللّه أن يلحقه بهم، ويدخله في زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو في أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر اللّه له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو في هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه في صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ}!! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، في غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه في السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هى أمم مثل الأمة الإنسانية، في وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك، وغيرها، من تلك التي لا تكون الأمة أمة إلا بها.
فالأمة لا تسمى أمة، إلا إذا كان بناؤها الذي تقوم عليه ينتظم جميع الأفراد الذين يدخلون في حسابها، وينتسبون إليها، بمعنى أن يكون بين أفراد الأمة من قوى التلاحم والترابط ما يجمع بعضهم إلى بعض، ويؤلّف منهم جسدا اجتماعيا أشبه بجسد الكائن الحىّ وما بين أعضائه، من ترابط، وتساند، وانسجام! ومن هنا يمكن أن تتغير نظرة الإنسان إلى عالم الحيوان، وأن يفتح له العلم الحديث آفاقا جديدة في دراسة علم الحيوان، فلا يقف عند حدود دراسة جسدية له، تدور حول الوظائف العضوية وما يتصل بها، بل ينبغى أن يتجاوز العلم هذه الدراسة إلى دراسات نفسية، وعقلية أيضا.. بحيث يكون من موضوعات هذه الدراسات: لغة الحيوان.. بجميع أجناسه وأنواعه، وعن طريق التعرف إلى هذه اللغة يمكن التعرّف على معارف عالم الحيوان، ونظرته إلى الكون، وصراعه مع الطبيعة، ووسائله التي بلغها في التغلب عليها.
ولربما يقع للعلم في هذه الدراسات، من أسرار وعجائب، ما لم يقع له إلى اليوم من أسرار وعجائب!.
وإنّ عجزا من الإنسان، وقصورا في علمه، هو الذي وقف به على شاطىء هذا المحيط العظيم من عالم الحيوان، فلم يعرف كيف يتفاهم مع الحيوانات، ويترجم مشاعرها وإحساسها، ويفسّر حركاتها وسكناتها.. وليس بغير العلم تنفتح مغالق هذه العوالم.. ويوم يبلغ الإنسان من العلم ما يستطيع به الالتحام مع عالم الحيوان والتفاهم معه، يومئذ يكون الإنسان بحق هو سيد هذا العالم الأرضى، وخليفة اللّه فيه، وإلا فهو ليس بالسيد ولا بالخليفة، إذ لا سيادة لمن لا يعرف كيف يخاطب المسودين له، ولا خلافة لمن لا يحسن الفهم عمن هو خليفة عليهم.. وإنه ما انقادت تلك الجماعات من الجن والإنس والطير لسليمان، إلا بعد أن أوتى من العلم ما أقدره على فهم هذه الجماعات، والتفاهم معها.
وقوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}.
اختلف في الكتاب هنا: أهو اللوح المحفوظ، أم هو القرآن الكريم..؟
ولعل الأقرب إلى مفهوم الآية الكريمة هنا، هو القرآن الكريم حيث يبيّن في آياته هذه أصولا، وأحكاما، ومقررات تندرج تحتها جميع المعارف الإنسانية، التي بلغها العقل، والتي في مقدوره أن يبلغها يوما ما.
وإذا لم يكن القرآن الكريم قد كشف الغطاء عن هذه المعارف، فإنما ذلك ليثير في الإنسان دوافع النظر والبحث، وليترك لعقله مجال الحركة والصراع، فينتصر حينا، وينهزم حينا، وهو في انتصاراته وهزائمه، سيّد نفسه، وقائد سفينة حياته، وحسب القرآن الكريم في هذا أن يومىء إليه من بعيد إلى مواطن الصيد، التي يلقى بشباكه فيها، فتجىء إليه بصيد وفير.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الضمير في ربهم يعود إلى هذه المخلوقات كلها، من دواب الأرض، وطيور السماء.
وقد اختلف في حشر هذه الكائنات من حيوان ووحش وطير.. وهل تحاسب؟ وإذا حوسبت فهل تعذّب أو تنعّم، كما يحاسب الإنسان ويعذب أو ينعم؟
ولا شك في أنها ستحشر إلى اللّه، فهذا صريح بنص القرآن في هذه الآية، وفى قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [5: التكرير].. أما ما وراء هذا فأمره إلى اللّه، وعلمه عند علام الغيوب.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال