سورة الأنعام / الآية رقم 38 / تفسير تفسير الرازي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم، فنقول فيه وجهان:
الأول: أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين، لا جرم ما أظهرها.
وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبيّن أن الأمر كذلك، وقرره بأن قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات؛ فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات، لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين. فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم.
الوجه الثاني في كيفية النظم: قال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضاً بعده بقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} في أنهم يحشرون، والمقصود: بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضاً حاصل في حق البهائم.
المسألة الثانية: الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات، فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين، إما أن يدب، وإما أن يطير. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه.
والجواب: لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير، لأنها تسبح في الماء، كما أن الطير يسبح في الهواء، إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران.
السؤال الثاني: ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض؟
والجواب من وجهين:
الأول: أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجاً بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقاً مثلنا فغير ظاهر، والثاني: أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها.
وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض.
السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}؟ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه.
والجواب فيه من وجوه:
الأول: أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال: كلمته بفي ومشيت إليه برجلي.
الثاني: أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير: فقد يحصل الطيران لا بالجناح.
قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا ***
فذكر الجناح ليتمحض هذا الكلام في الطير.
والثالث: أنه تعالى قال في صفة الملائكة {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مثنى وثلاث ورباع} [فاطر: 1] فذكر هاهنا قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالاً من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه.
السؤال الرابع: كيف قال: {إِلاَّ أُمَمٌ} مع إفراد الدابة والطائر؟
والجواب: لما كان قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ وَلاَ طَائِرٍ} دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقول: وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} على المعنى.
السؤال الخامس: قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} قال الفرّاء: يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» فجعل الكلاب أمة.
إذا ثبت هذا فنقول: الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا، وليس فيها ما يدل على أن هذه المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال: المراد حصول المماثلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالاً لنا في الصورة والصفة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة في الآية على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك.
والجواب: اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالاً:
القول الأول: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يريد، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني. وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ مِمَّنْ شَيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وبقوله في صفة الحيوانات {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات.
وعن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثاً لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض».
والقول الثاني: المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمماً وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً، ويأنس بعضها ببعض، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها.
القول الثالث: المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة.
القول الرابع: المراد أنه تعالى كما أحصى في الكتاب كل ما يتعلق بأحوال البشر، من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة فكذلك أحصى في الكتاب جميع هذه الأحوال في كل الحيوانات.
قالوا: والدليل عليه قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ} وليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله: {إلا أممٌ أمثالُكُمْ} فائدةً إلا ما ذكرناه.
القول الخامس: أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقص للجماء من القرناء».
القول السادس: ما اخترناه في نظم الآية، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان. ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم.
القول السابع: ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة، أنه لما قرأ هذه الآية قال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه. فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلساً إلا رواه عنه.
ثم قال: فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع.
المسألة الثالثة: ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة وبالأخلاق الطاهرة، فإنها بعد موتها تنقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تنقل إلى مخالطة عالم الملائكة، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقاً للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعباً، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا: صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة. ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا: قد ثبت بهذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم. ثم إنه تعالى قال: {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولاً أرسله الله إليها. ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن.
واعلم أن القول بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمور المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم.
ثم قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} وفي المراد بالكتاب قولان:
القول الأول: المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السموات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال عليه السلام: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».
والقول الثاني: أن المراد منه القرآن، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن.
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟
والجواب: أن قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها وبيانه من وجهين:
الأول: أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه.
الثاني: أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هاهنا محمولاً على ذلك المقيد.
أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع.
فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه: فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها، وأما تفاصيل علم الفروع فنقول: للعلماء هاهنا قولان: الأول: أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن، وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة:
المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان يقول: مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والمستوصلة، وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن، ثم أتته فقالت: يا ابن أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال: «لعن الله الواشمة والمستوشمة» وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً لَّعَنَهُ الله} [النساء: 117، 118] فحكم عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله: {وَلاَمُرَنَّهُمْ فليغيرن خَلَقَ الله} [النساء: 119] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن.
المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ} ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور.
قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات، وأقول: هاهنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة.
قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وقال: {وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم} [محمد: 36] وقال: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} [النساء: 29] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة.
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي: فهو تمسك بالعموم على أربع درجات: أولها: التمسك بعموم قوله: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين.
وثانيها: التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
وثالثها: بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين.
ورابعها: الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً، فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب.
المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت.
قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله.
وأقول: هذا المثال حق، لأنه تعالى قال: {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة، وأن خبر الواحد حجة، وأن القياس حجة، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة، كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن، فعند هذا يصح قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} هذا تقرير هذا القول، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء.
ولقائل أن يقول: حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول: حمل قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة في مدحه والثناء عليه، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم، وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال: اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس، كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن، فوجب أن يقال، إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول.
والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول من يقول: القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لابد فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف إلى العباد. ثم قال بعده {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ} فكان معناه أنه ليس لله على الخلق بعد ذلك الألف تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وبقوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} [الانعام: 59] فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه، والله أعلم.
ولنرجع الآن إلى التفسير، فنقول: قوله: {مِن شَيء} قال الواحدي {مِنْ} زائدة كقوله: ما جاء لي من أحد. وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئاً لم نبينه.
وأقول: كلمة {مِنْ} للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب.
أما قوله: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة. ويتأكد هذا بقوله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للجماء من القرناء» وللعقلاء فيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة. وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض، ولما كان إيصال العوض إليها واجباً، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها.
والقول الثاني: قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية.
واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور:
الحجة الأولى: أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزماً للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزماً للذم محال، لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزماً للذم بسبب أمر منفصل، لأن ما بالذات لا يبطل عند عروض أمر من الخارج.
والحجة الثانية: أنه تعالى مالك لكل المحدثات، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض.
والحجة الثالثة: أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض، لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل، فثبت أن القول بالعوض باطل. والله أعلم.
إذا عرفت هذا: فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب.
الفرع الأول: قال القاضي: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام، وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا، فإنه يجب على الله حشره عقلاً في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً، إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل، فمن حيث السمع يقطع بذلك.
وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة، لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلاً. فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لابد وأن يحصل معه شيء من الإيلام، وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة.
الفرع الثاني: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله. وهي أقسام: منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية، مثل السباع العادية والحشرات المؤذية، ومنها آلمها بالأمراض، ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضاً فذلك العوض على ذلك الظالم.
فإن قيل: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض؟
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة.
الفرع الثالث: المراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به، فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار.
الفرع الرابع: مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع.
قال القاضي: وهو قول أكثر المفسرين، لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها تراباً، وعند هذا يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
قال أبو القاسم البخلي: يجب أن يكون العوض دائماً واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملاً شاقاً والأجرة منقطعة، فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة.
واحتج البلخي على قوله، بأن قال: إنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضاً آخر، وهكذا إلى ما لا آخر له.
والجواب عنه: أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام. والله أعلم.
الفرع الخامس: أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضاً، فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه تعالى ينقل ذلك العوض إلى المظلوم. وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض، فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة. والله أعلم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال