سورة الأنعام / الآية رقم 99 / تفسير تفسير الرازي / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَباًّ مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه.
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضاً نعم بالغة، وإحسانات كاملة، والكلام إذا كان دليلاً من بعض الوجوه، وكان إنعاماً وأحساناً من سائر الوجوه. كان تأثيره في القلب عظيماً، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} يقتضي نزول المطر من السماء، وعند هذا اختلف الناس، فقال أبو علي الجبائي في تفسيره: إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
قال لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء، والعدول عن الظاهر إلى التأويل، إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن، وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء، فوجب إجراء اللفظ على ظاهره.
وأما قول من يقول: إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض. ثم تصعد وترتفع إلى الهواء، فينعقد الغيم منها ويتقاطر، وذلك هو المطر، فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه:
الأول: أن البرد قد يوجد في وقت الحر، بل في صميم الصيف، ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد، وذلك يبطل قولهم.
ولقائل أن يقول: إن القوم يجيبون عنه فيقولون: لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد، ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب، فيهرب البرد إلى باطنه، فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع، فيحدث البرد، وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب، فلا يقوى البرد في باطنه، فلا جرم لا ينعقد جمداً بل ينزل ماء، هذا ما قالوه. ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جداً عندكم، فإذا كان اليوم يوماً بارداً شديد البرد في صميم الشتاء، فتلك الطبقة باردة جداً، والهواء المحيط بالأرض أيضاً بارد جداً، فوجب أن يشتد البرد، وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة، وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم، والله أعلم.
الحجة الثانية: مما ذكره الجبائي أنه قال: إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء، بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة.
أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير، فإذا تصاعدت البخارات في الهواء، وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات، وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء.
ولقائل أن يقول: القوم يجيبون عنه: بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت، فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، والبرد يوجب الثقل والنزول، فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول، والعالم كروي الشكل، فلما رجعت من الصعود إلى النزول، فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت، فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار.
الحجة الثالثة: ما ذكره الجبائي قال: لو كان تولد المطر من صعود البخارات، فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار، فوجب أن يدوم هناك نزول المطر، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا فساد قولهم. قال: فثبت بهذه الوجوه، أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض، ثم قال: والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول، لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة، وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها، وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى، فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة، وأما المسلمون.
فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة، وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد، فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات، فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء، ولا دليل على امتناع هذا الظاهر، فوجب القول بحمله على ظاهره، ومما يؤكد ما قلناه: أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً} [الفرقان: 48] وقال: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وقال: {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فثبت أن الحق، أنه تعالى ينزل المطر من السماء بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء. ثم ينزلها إلى السحاب. ثم من السحاب إلى الأرض.
والقول الثاني: المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء.
والقول الثالث: أنزل من السحاب ماء وسمى الله تعالى السحاب سماء، لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت، فهذا ما قيل في هذا الباب.
المسألة الثانية: نقل الواحدي في البسيط عن ابن عباس: يريد بالماء هاهنا المطر ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك، والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول، فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السموات، فالقول به مشكل والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيء} فيه أبحاث:
البحث الأول: ظاهر قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيء} يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء، وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه، وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] فلا فائدة في الإعادة.
البحث الثاني: قال الفراء: قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيء} ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات. وليس الأمر كذلك، فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات، فإذا كان كذلك، فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه.
البحث الثالث: قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بعد قوله: {أَنَزلَ} يسمى التفاتاً. ويعد ذلك من الفصاحة.
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة. وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب؟ وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} [يونس: 22] فلا فائدة في الإعادة.
والبحث الرابع: قوله: {فَأَخْرَجْنَا} صيغة الجمع. والله واحد فرد لا شريك له، إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه، فإنما يكنى بصيغة الجمع، فكذلك هاهنا. ونظيره قوله: {إِنَّا أنزلناه} [الدخان: 3]. {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح: 1]. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9].
أما قوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} فقال الزجاج: معنى خضر، كمعنى أخضر، يقال أخضر فهو أخضر وخضر، مثل أعور فهو أعور وعور.
وقال الليث: الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر، وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين: حيث قال: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} فالذي ينبت من الحب هو الزرع، والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضاً في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع، وهو المراد بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} وهو الزرع، كما رويناه عن الليث.
وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولاً ويكون السنبل في أعلاه وقوله: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} يعني يخرج من ذلك الخضر حباً متراكباً بعضه على بعض في سنبلة واحدة، وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض، ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى، وهو القسم الثاني فقال: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان دَانِيَةٌ} وهاهنا مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل، وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل.
وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفاً مطولاً.
البحث الثاني: روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال: أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض، والأغريض يسمى طلعاً أيضاً.
قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة، الواحدة طلعة.
وأما {قِنْوانٌ} فقال الزجاج: القنوان جمع قنو. مثل صنوان وصنو. وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون، فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع.
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول: قوله: {قنوان دَانِيَةٌ} قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها.
وروي عنه أيضاً أنه قال: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج: ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ولم يقل سرابيل تقيكم البرد، لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني، فكذا هاهنا وقيل أيضاً: ذكر الدانية في القريبة، وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر.
والبحث الثالث: قال صاحب الكشاف {قِنْوانٌ} رفع بالابتداء {وَمِنَ النخل} خبره {وَمِنْ طَلْعِهَا} بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره، ومخرجه من طلع النخل قنوان. ومن قرأ يخرج منه {حب متراكب} كان {قِنْوانٌ} عنده معطوفاً على قوله: {حُبَّ} وقرئ {قنوان} بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير.
ثم قال تعالى: {وجنات مّنْ أعناب والزيتون والرمان} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ عاصم: {جنات} بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه: والباقون {جنات} بكسر التاء.
أما القراءة الأولى فلها وجهان:
الأول: أن يراد، وثم وجنات من أعناب أي مع النخل والثاني: أن يعطف على {قِنْوانٌ} على معنى وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله: {نَبَاتَ كُلّ شَيء} والتقدير: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: {والزيتون والرمان} [الأنعام: 141] قال صاحب الكشاف: والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] لفضل هذين الصنفين.
والبحث الثاني: قال الفراء: قوله: {والزيتون والرمان} يريد شجر الزيتون، وشجر الرمان كما قال: {واسئل القرية} [يوسف: 82] يريد أهلها.
البحث الثالث: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار. النخل والعنب والزيتون والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من بقية طينة آدم» وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعده يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة. ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخمر والخل، ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلى في المجلدات، والخمر، وإن كان الشرع قد حرمها، ولكنه تعالى قال في صفتها: {ومنافع لِلنَّاسِ} ثم قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فأحسن ما في العنب عجمه. والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة، فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه، وأما الزيتون فهو أيضاً كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل أيضاً عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال.
وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه.
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي: القشر والشحم والعجم، فكلها باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان، فبالضد من هذه الصفات. فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفاً باللطافة والاعتدال فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم.
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفي بذكرها تنبيهاً على البواقي، ولما ذكرها قال تعالى: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} وفيه مباحث: الأول: في تفسير {مُشْتَبِهاً} وجوه:
الأول: أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل، مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل، مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل. ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس.
الثاني: أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية.
وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفاً في الطعم، والثالث: قال قتادة: أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه.
أما ثمارها فتكون مختلفة، ومنهم من يقول: الأشجار متشابهة والثمار مختلفة، والرابع: أقول إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة. وعلى هذا التقدير: فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه.
والبحث الثاني: يقال: اشتبه الشيآن وتشابها كقولك استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، وقرئ {متشابها وَغَيْرَ متشابه}.
والبحث الثالث: إنما قال مشتبهاً ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير: والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريا ومن أجل الطوى رماني
ثم قال تعالى: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي {ثَمَرِهِ} بضم الثاء والميم، وقرأ أبو عمرو {ثَمَرِهِ} بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم.
أما قراءة حمزة والكسائي: فلها وجهان:
الوجه الأول: وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا: خشبة وخشب.
قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] وكذلك أكمة وأكم. ثم يخففون فيقولون أكم.
قال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ***
والوجه الثاني: أن يكون جمع ثمرة على ثمار. ثم جمع ثماراً على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع، وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم: رسل ورسل.
وأما قراءة الباقين فوجهها: أن الثمر جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر، وشجرة وشجر، وخرزة وخرز.
والبحث الثاني: قال الواحدي: الينع النضج.
قال أبو عبيدة: يقال ينع يينع، بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل.
وقال الليث: ينعت الثمرة بالكسر، وأينعت فهي تينع وتونع إيناعاً وينعاً بفتح الياء، وينعاً بضم الياء، والنعت يانع ومونع.
قال صاحب الكشاف: وقرئ {وَيَنْعِهِ} بضم الياء، وقرأ ابن محيصن {ويانعه}.
والبحث الثالث: قوله: {متشابه انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها. وقوله: {وَيَنْعِهِ} أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها، وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية. ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة، وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى، بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة، مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة، وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة، فحصول هذه التبدلات والتغيرات لابد له من سبب، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة، ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة. ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال: {إِنَّ فِي ذلكم لأيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال القاضي: المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى، لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يكون وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}.
ولقائل أن يقول: بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية، فكأن قائلاً قال: لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية؟ فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل: هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان، فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلاً، فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه. والله أعلم.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال