سورة الأنعام / الآية رقم 152 / تفسير التفسير القرآني للقرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}.
التفسير:
بعد أن فضح اللّه سبحانه وتعالى حجة هؤلاء المشركين التي أجازوا بها هذا الضلال الذي هم فيه، من شرك باللّه، وتحريم ما حرموا من الطيبات التي أحلّها اللّه لعباده- أمر الرسول الكريم أن يؤذّن في الناس-
ومن بينهم هؤلاء المشركين- بما شرع اللّه لهم من دين، وما حرّم عليهم من محرّمات، وما أحلّ لهم من طيبات، وتلك هى شهادة الرسول عليهم، بعد أن دعوا إلى أن يأتوا بمن يشهد لهم على هذه المفتريات التي افتروها على اللّه.
وشهادة الرسول، هى مما تلقاه وحيا من ربّه، وليس منها شيء من عنده:
{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
وسواء جاء هؤلاء المدعوون للاستماع إلى تلك الشهادة السماوية أم لم يجيئوا، فإن الرسول مأمور بأن يؤذن بشهادته في الناس، وأن يبلغ ما أنزل إليه من ربه.. فمن كانت له أذنان فليسمع..!
{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} هذا هو رأس المحرمات التي حرّمها اللّه على عباده:
الشرك به، إذ هو كفران بمن خلق ورزق، وعدوان على صاحب الحق في الولاء والخضوع له، من عباده.
وقد اضطرب المفسرون اضطرابا شديدا، واختلفت بهم مذاهب الرأى في توجيه الآية الكريمة وجها يستقيم على فهم يوفق بين أمور تبدو في ظاهر النظم متعارضة، إن هى جرت على قواعد اللغة والنحو.
فأولا: الجمع بين التحريم في قوله سبحانه: {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ثم وقوع هذا التحريم على النهى عن الشرك في قوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
وذلك أنه إذا أخذ بظاهر النظم كان معناه: {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} أي أن الذي حرمه ربكم عليكم هو أن تتركوا الشرك.. وهذا أمر بالشرك ودعوة إليه، وذلك ما ينزه كلام اللّه عنه.
وثانيا: مما وقع تحت حكم التحريم أمور واجبة شرعا، يرغّب الإسلام فيها، ويدعو إليها، وقد جاءت بصيغة الأمر في قوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وقوله سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ}.
.. وقوله جل شأنه: {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}.
وهذه الأشياء المأمور بها، على سبيل الوجوب، في آيات كثيرة من كتاب اللّه- تبدو هنا في ظاهر النظم كأنها دعوة إلى ترك هذه الواجبات، وإلباسها لباس المحرمات.. وهذا ما لا يستقيم أبدا.
وقد ذهب المفسرون- كما قلنا- مذاهب كثيرة مختلفة، من التأويل المتعسف، ومن افتراض الحذف والإضافة، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك، مما يدخل على الآية الكريمة أجساما غريبة فيها، تفسد نظمها، وتحجب وجوه إعجازها.
ولا نعرض هنا لتلك المقولات، فهى مبثوثة في كتب التفاسير ولا محصل منها لفهم سليم نستريح إليه.. وحسبنا أن ندلى بما عندنا من فهم للآية الكريمة وما في نظمها الذي جاءت عليه، من إعجاز، لا يتحقق إلا بالنظر إليها، نظرا مباشرا، من غير أن يدخل عليها ما يغير من صورة نظمها، بحذف أو إضافة، أو تقديم أو تأخير.
فنقول- واللّه أعلم- إن الآية الكريمة والآيتان بعدها تضمنت مجموعة من النواهي والأوامر.
فمن النواهي: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ}.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.
{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ومن الأوامر: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ}.
.. {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}.
.. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}.
ثانيا: إذا لاحظنا أنّ الأمر والنهى هما الصميم من الشريعة الإسلامية، وعليهما تدور أحكام الشريعة ووصاياها- إذا لاحظنا ذلك وجدنا أن لهذا الجمع بين النواهي والأوامر التي حملتها تلك الآيات الثلاث، حكمته، إذ كان الرسول الكريم هنا في مواجهة الناس جميعا، وخاصة المشركين، وهو في هذا الموقف مطالب بأن يكشف أصول الشريعة التي جاء بها، وما أحلّ اللّه للناس وما حرّم عليهم.. وقد جاءت الآيات الثلاث بالأصول العامة لأحكام الشريعة كلها، فيما حرّمت وأحلّت.
عن عبادة بن الصامت رضى اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أيكم يبايعنى على ثلاث..» ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..} حتى فرغ من الآيات قال: «فمن وفى فأجره على اللّه، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه اللّه به في الدنيا كانت عقوبته (أي كانت العقوبة كفارة له) ومن أخر إلى الآخرة، فأمره إلى اللّه، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه».
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما، أن هذه الآيات محكمات، لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وأنهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.
ثالثا: إذا لاحظنا أيضا أن الرسول الكريم لم يكن في هذا الموقف يواجه الناس بأحكام جديدة، يكشف بها عن وجه رسالته، وإنما كانت تلك الأحكام قد تقررت من قبل، فيما جاء به القرآن، وقد كان ذلك معلوما كلّه هؤلاء المخاطبين، من مؤمنين ومشركين.- إذا لاحظنا ذلك وجدنا أنه لم يكن عمل الرسول هنا إلا تلاوة لنصوص أحكام كانت مقررة من قبل، ولهذا فقد أمر الرسول الكريم بأن يدعو الناس إليه، {قُلْ تَعالَوْا}.
ثم يستحضر الدستور الذي بين يديه من كتاب اللّه، ويتلو هذه الأحكام المقررة فيه، من أوامر ونواه: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
خامسا: وإذ كان المشركون قد شرعوا لأنفسهم شريعة مفتراة، حرّموا بها ما أحلّ اللّه من طيبات، فقد كانت المواجهة لهم أولا بما حرّم اللّه من منكرات، وما نهى عنه من خبائث.
وننظر في الآيات الكريمة فنرى:
أولا: قوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} يمثّل الرسول الكريم وقد جاء، وبين يديه، وعلى لسانه، كتاب اللّه الذي معه، يتلو منه ما حرّم اللّه على عباده من منكرات.
ثم ها هو ذا رسول اللّه يتلو عليهم ما حرم اللّه من منكرات، فيبدأ بقوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
فهذا أول ما يجده الرسول الكريم من منكر نهى اللّه عنه في آيات كثيرة أنزلها اللّه عليه، واستودعها قلبه.. مثل قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وقوله سبحانه: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
فهذا هو أول ما يتلوه الرسول من كتاب ربه: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
والرسول في هذه التلاوة غير ملتفت إلى تلك الدعوة التي دعا فيها الناس إلى أن يستمعوا إليه، وهو يتلو ما حرّم ربهم عليهم.. فتلك دعوة موجهة منه للناس أن يجتمعوا إليه، فإذا اجتمعوا، استقبلهم بما أنزل اللّه عليه من آياته، من منهيّات.
وإذن فلا اتصال في النظم من جهة اللغة والنحو بين قوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وبين قوله سبحانه: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
فالأول عمل من أعمال الرسول لدعوة الناس إليه، والثاني تلاوة من كتاب اللّه الذي بين يديه.. ومن هنا نجد أكثر من فاصل يفصل بين المقطعين من الآية:
فهناك فاصل زمنىّ- حسىّ ومعنوى- بين الدعوة، وحضور المدعوّين، وبين إسماعهم ما حرّم اللّه عليهم في كتابه.. وهناك فاصل اعتباري، حيث أن المقطع الأول هو- في ظاهره- من كلام الرسول، ومن عمله، على حين أن الثاني من كتاب اللّه نصّا، يتلوه الرسول من مستودعات اللّه في قلبه.
وثانيا: قوله تعالى {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} بالعطف على النهى قبله:
{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} هو من لوازم هذا النهى ومن مقتضياته.. فإن النهى في حقيقته أمر سلبىّ، يقتضى الوقوف من المنهىّ عنه موقفا مجانبا له، أو منسحبا منه.. ومن تمام الحكمة أن يعقب تجنّب المنهىّ عنه، الخروج به من هذا الموقف السلبىّ إلى ما يقابله من عمل إيجابىّ.. فإذا امتثل الإنسان النهى عن الشرك باللّه، وانخلع عن عبادة من عبدهم من دون اللّه، كان عليه أن يؤمن باللّه، وأن يتقبل أوامره ويعمل بها.
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن يجىء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب النهى عن الشرك باللّه، ليملأ هذا الفراغ الذي وجد بإجلاء الشرك عن قلوب المشركين، أو بغروب شخصه من آفاق المؤمنين.
فالأمر بالإحسان إلى الوالدين هنا، هو في المكان الذي كان من المنتظر أن يحلّ فيه الإيمان باللّه، محلّ الشرك، بعد أخلى مكانه، وزال شخصه.. وفى هذا ما فيه من تعظيم حق الوالدين، وجعل برهما والإحسان إليهما، أشبه بالإيمان باللّه.. أما الإيمان باللّه هنا فهو واقع لا شك فيه بعد أن جلا الشرك، الذي كان هو الحاجز الذي يحول بين المشركين وبين الإيمان باللّه.
ثالثا: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هو استكمال لما حرّمه اللّه من منكرات، مما يتلوا الرسول الكريم على الناس من كتاب ربه.
وفى النهى عن قتل الأولاد خشية الفقر، بعد أمر الأبناء ببرّ الآباء- في هذا ما يكشف عن تلك المفارقة البعيدة بين ما يكون من الأبناء من برهم بآبائهم، وبين ما يأتيه هؤلاء الآباء من قتل أولئك الأبناء.. وفى هذا ما فيه ضلال وسفه، وخروج على مألوف الطبيعة، فيما بين الكائن الحىّ ومواليده.
من حيوان ونبات!! وفى قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} قدّم رزق الآباء على الأبناء، لأن الآباء هنا في فقر واقع بهم، وفى ضيق استولى عليهم، فقتل فيهم مشاعر الإنسانية، حتى طوعت لهم أنفسهم قتل أولادهم، شفقة عليهم، وإراحة لهم من آلام الجوع، وقسوة المسغبة، فجاء قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ليشعر الآباء بأن اللّه متكفل برزقهم ورزق أبنائهم معا، وأن هذا الضيق الذي هم فيه سوف يعقبه فرج، وأن هذا الرزق الضيّق الذي هم فيه فعلا، هو قسمة بينهم وبين أبنائهم، فهم فيه سواء، وأنه ليس للآباء أن يقتلوا أولادهم وهم شركاؤهم في هذا الرزق المحدود الذي في أيديهم.
وقد جاء قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} بتقديم رزق الأبناء على الآباء، لأن الآباء في تلك الحال ليسوا في حال ضيق وفقر، وإنما هم على شعور الخوف من الفقر مستقبلا، فهم يقتلون أولادهم في تلك الحال لا لفقر وقع، وإنما لخشية الفقر المتوقّع، الذي قد يكون وجود الأبناء سببا في التعجيل به- فجاء قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} ليدفع هذا الشعور، وليقيم مكانه شعورا مضادا له، وهو أن الأبناء لهم رزقهم عند اللّه، وأن هذا الرزق مقدم على رزق الآباء، وأن قتلهم حينئذ يكون عدوانا عليهم، وحبسا لهذا الرزق لذى سيرزقهم اللّه إياه.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} نهى عن الفواحش، وهى المنكرات، وعلى رأسها لزنا، إذ كانت الصفة الملازمة له في القرآن هى الفحش.. وما ظهر من الفواحش هو المعالن به منها، وهو فاحشة إلى فاحشة.. إذ كان الزنا في أصله فاحشة، وكان الإعلان به فاحشة أخرى، لما في لمعالنة من إذاعة الفاحشة، والتحريض عليها، واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} فكيف بالجهر بالسوء من الفعل؟.
وما بطن من الفواحش، هو ما كان في ستر وخفاء، فهو منكر في ذاته، ولا يرفع عنه هذا المنكر إتيانه في خفاء، إذ لا تخفى على اللّه خافية، وإن خفيت على الناس.
رابعا: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
هو نهى عن العدوان على مال اليتيم الذي في يد الأوصياء عليه، وفى النهى عن قربانه تحذير من الدنوّ منه بقصد السوء والعدوان، وفى قوله تعالى: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
استثناء من النهى العام بالاقتراب من مال اليتيم، إلا أن يكون ذلك لإصلاحه، واستثماره، أو الأخذ منه بالحق والإحسان، دون جور أو عدوان.. وفى قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.
هو بيان للغاية التي يمتد إليها النهى عن الاقتراب من مال اليتيم، لأنه إلى تلك الحال يكون في يد الوصىّ، فإذا بلغ اليتيم أشده صار المال إلى يده، وخرج من يد الوصىّ، فلا سلطان له حينئذ للتسلط عليه كيتيم.. ويكون العدوان على ماله بعد هذا، هو عدوان على الإنسان من حيث هو إنسان لا ولاية لأحد عليه، الأمر الذي نهى اللّه عنه.
خامسا: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
هو أمر بعد النهى عن العدوان على مال اليتيم، وفى هذا الأمر تكتمل صورة النهى، ويتمّ المقصود منه.
فإذا امتنع الوصىّ عن العدوان على مال اليتيم، وكفّ يده عن الأخذ منه بغير حق، كان عليه أن يتبع هذا السلوك في كل ما بينه وبين الناس من معاملات.. فإذا كان الشيء مكيلا أو موزونا، أوفى الكيل والميزان فيما يكيل أو يزن {بالقسط} أي بالعدل.. فإذا نقص المكيل أو الموزون شيئا ما، من غير قصد، فذلك مما عفى اللّه عنه، ورفع الحرج عن صاحبه.. {لا نكلف نفسا إلا وسعها} إذ ليس مما تتسع له النفس ويقدر عليه الإنسان أن يضبط الكيل والميزان ضبطا مطلقا، بل المطلوب هو تحرّى الحق، وعدم القصد إلى خيانة أو خسران في الكيل والميزان.
وهذا الأمر وإن كان في مواجهة الأوصياء، هو أمر عام لكل من يؤمن باللّه، وإن كان الأوصياء أولى الناس بالاستجابة له، بعد تلك التجربة التي كانوا فيها مع اليتيم ومال اليتيم.
ومما هو من قبيل الأمانة، وتجنب الخيانة، الحكم بالعدل بين الناس، وقول كلمة الحق في أداء الشهادة، وكذلك الوفاء بالعهود والمواثيق التي بين الإنسان وخالقه، أو بينه وبين العباد.
سادسا- قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} هو تعقيب على تلك النواهي والأوامر التي أمر اللّه سبحانه النبىّ الكريم أن يتلوها على الناس. فهذه المأمورات وتلك المنهيّات هى شريعة للّه، وهى الصراط المستقيم الذي دعا للّه عباده إلى الاستقامة عليه، فمن اجتنب المنهيات، وأنى المأمورات، فهو على صراط اللّه، وعلى شريعة اللّه، ومن انحرف عن هذا الصراط، فقد ضلّ وغوى، وكان من الهالكين.
وفى قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} أمر بإتيان الأوامر.. وفى قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} نهى عن إتيان المنهيات.
وفى التعبير عن سبيل اللّه بالصراط والتعبير عن الطرق الخارجة عنه بالسبل- إشارة إلى أن طريق اللّه صراط أي طريق معدّ ومهيأ للسالكين، تقوم عليه منارات هدى، وإشارات هداية.. أما هذه السبل التي لا نستقيم على هذا الصراط، فهى طرق لا معلم فيها، ولا شارة عليها، يركبها الراكب فيتخبط، ويتعثر، ويضلّ.. ولهذا جاء التعبير عن صراط اللّه بلفظ المفرد، لأنه واحد لا غير، إذ الحقّ حقّ.. وجهه واحد، وطريقه واحدة، وأما الباطل، فهو أباطيل.. متعدد الوجوه، مختلف السبل.
عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال: خطّ رسول اللّه خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل اللّه تعالى مستقيما» ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: «وهذه السبل ليس فيها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: {وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال