سورة الأنعام / الآية رقم 155 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


لم ينقطع تدفق السياق في الموضوع الأساسي الذي يعالجه شطر السورة الأخيرة- وهو موضوع الحاكمية والتشريع وعلاقتهما بالدين والعقيدة- وهذا الشوط الجديد هو امتداد في العرض، وامتداد في الحشد، لتقرير هذه الحقيقة.
وهو يتحدث عن المبادئ الأساسية في العقيدة- بصدد التشريع والحاكمية- كما كان الشطر الأول من السورة يتحدث عن هذه المبادئ في صدد قضية الدين والعقيدة. ذلك ليقرر أن قضية التشريع والحاكمية هي كذلك قضية الدين والعقيدة. وعلى ذات المستوى الذي يعرض به المنهج القرآني هذه الحقيقة. ومما يلاحظ أن السياق يستخدم في شطر السورة الثاني ذات المؤثرات والموحيات والمشاهد والتعبيرات التي حشدها في الشطر الأول منها:
* يتحدث عن الكتب والرسل والوحي والآيات التي يطلبونها.
* ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها.
* ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها.
* ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة.
* ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعاً، والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى.
* ويتحدث عن ملكية رب العالمين لكل شيء، وتصريفها لكل شيء، وعن استخلاف الله للناس كيف شاء، وقدرته على الذهاب بمن يشاء منهم عندما يشاء.
وهذه هي ذاتها القضايا والحقائق، والمؤثرات والموحيات التي حشدها في أول السورة عند عرض حقيقة العقيدة في محيطها الشامل. محيط الألوهية والعبودية وما بينهما من علائق.. ولا ريب أن لهذا دلالته التي لا تخفى على من يتعامل مع القرآن الكريم ومع المنهج القرآني.
يبدأ هذا المقطع الأخير في هذا الشطر من السورة بالحديث عن كتاب موسى.. وذلك تكملة للحديث السابق عن صراط الله المستقيم: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} للإيحاء بأن هذا الصراط ممتد من قبل في رسالات الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وشرائعهم. وأقرب شريعة كانت هي شريعة موسى عليه السلام، وقد أعطاه الله كتابا فصل فيه كل شيء، وجعله هدى ورحمة لعل قومه يؤمنون بلقاء الله في الآخرة: {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن، وتفصيلاً لكل شيء، وهدى ورحمة، لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}.
ويستمر فيذكر الكتاب الجديد المبارك، الملتحم بالكتاب الذي أنزل على موسى، المتضمن للعقيدة وللشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها. رجاء أن ينال الناس- حين يتبعونها- رحمة الله في الدنيا والآخرة: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}..
ولقد نزل هذا الكتاب قطعاً لحجة العرب، كي لا يقولوا: إنه لم يتنزل علينا كتاب كالذي تنزل على اليهود والنصارى؛ ولو قد أوتينا الكتاب مثلما أوتوا لكنا أهدى منهم، فها هو ذا كتاب يتنزل عليهم، ويقطع هذه الحجة عليهم، فيستحق الذين يكذبون العذاب الأليم: {أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا.
وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم.. فقد جاءكم بينة من ربكم، وهدى ورحمة، فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
لقد انقطعت المحجة بنزول هذا الكتاب؛ ولكنهم ما يزالون يشركون بالله؛ ويشرعون من عند أنفسهم ويزعمونه شريعة الله، بينما كتاب الله قائم وليس فيه هذا الذي يفترونه. وما يزالون يطلبون الآيات والخوارق ليصدقوا بهذا الكتاب ويتبعوه. ولو جاءتهم الآيات التي يطلبون أو بعضها لكان فيها القضاء الأخير: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا. قل: انتظروا إنا منتظرون}.
وعند هذا الحد يفصل الله- سبحانه- بين نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر الملل المتفرقة التي لا تقوم على توحيد الله عقيدة وشريعة. ويقرر أن أمرهم إليه- سبحانه وتعالى- وأنه هو محاسبهم ومجازيهم وفق عدله ورحمته: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}.
وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا القطاع- وهو الإيقاع الأخير في السورة- في تسبيحة ندية رخية، حازمة كذلك حاسمة، تلخص أعمق أعماق الحقائق العقيدية في هذا الدين: التوحيد المطلق، والعبودية الخالصة، وجدية الآخرة، وفردية التبعة والابتلاء في دار الدنيا. وسلطان الله المتمثل في ربوبيته لكل شي؛ وفي استخلافه للعباد في ملكه كيف شاء بلا شريك ولا معقب.. كما ترسم تلك التسبيحة المديدة صورة باهرة لحقيقة الألوهية، وهي تتجلى في أخلص قلب، وأصفى قلب، وأطهر قلب.. قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وذلك في مستوى من التجلي لا يصوره إلا التعبير القرآني ذاته: {قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين. قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. قل: أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى؛ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم، إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم}..
ونكتفي هنا بهذا القدر من الحديث المجمل، لنأخذ في مواجهة النصوص بالتفصيل:
{ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن، وتفصيلاً لكل شيء، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}..
هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله.. وتأويله: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا..} {وأن هذا صراطي مستقيماً} معطوفة على جملة: ألا تشركوا.. {ثم آتينا موسى الكتاب..} معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم صلى الله عليه وسلم فالسياق مطرد كما أسلفنا.
وقوله {تماماً على الذي أحسن}.. تأويله- كما اختار ابن جرير-: ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده، وأيادينا قبله، تتم به كرامتنا عليه، على إحسانه وطاعته ربه، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه. وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم..
وقوله: وتفصيلا لكل شيء. كما قال قتادة: فيه حلاله وحرامه.
وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه..
.. هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى الكتاب، جاء من أجله كتابكم، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة:
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}..
وإنه لكتاب مبارك حقاً- كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون} [الآية: 92].. وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل؛ وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب! ويؤمرون باتباعه؛ وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع. والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة.
وقد بطلت حجتكم، وسقطت معذرتكم، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم، تفصيلاً لكل شيء. بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه؛ وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم:
{أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا. وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم. فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة. فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم.. حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمداً خاتم النبيين للناس كافة. فهو آخر رسول من الله للبشر، فناسب أن يكون رسولاً إليهم أجمعين.
والله- سبحانه- يقطع الحجة على العرب أن يقولوا: إن كلا من موسى وعيسى إنما أرسلا إلى قومهما. ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم، لا علم لنا به ولا اهتمام. ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب.. فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم- وإن كان رسولاً للناس أجمعين- وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه. وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض. وهو هدى لما هم فيه من ضلالة، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة..
فإذا كان ذلك كذلك، فمن أشد ظلماً ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلماً لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها.. إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه؛ كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف- أي يميل- بجسمه ولا يستقيم! إنهم {يصدفون} عن الحق والاستقامة، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة! وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم:
{سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}..
إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى.. فيستخدم هنا لفظ يصدف وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه! كذلك يستخدم لفظ يصعر خده وهو مأخوذ من داء الصَّعَر الذي يصيب الإبل- كما يصيب الناس- فتعرض صفحة خدها، اضطراراً، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر، ومثله استخدام لفظ {حبطت أعمالهم} من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسموماً فانتفخ بطنها ثم ماتت! ومثلها كثير..
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب.. وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد. وهو يتكرر هنا، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله: فقد جاء في أول السورة: {وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا يُنظرون} وجاء هنا في آخرها:
{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: قل: انتظروا إنا منتظرون}..
إنه التهديد الواضح الحاسم. فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتماً إذا جاءت الخارقة ثم لم يؤمن بها المكذبون.
والله سبحانه يقول لهم: إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده.. وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولاعمل.. لنفس لم تؤمن من قبل، ولم تكسب عملاً صالحاً في إيمانها. فالعمل الصالح هو دائماً قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام.
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك} هو أشراط الساعة وعلاماتها، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل. وعدوا من ذلك أشراطاً بعينها.. ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة الأولى. فقد سبق مثله في أول السورة، وهو قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة، وأن هذا ملحوظ ومقصود، لتقرير حقيقة بعينها. فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية. وهو كاف في التأويل، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول..
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض- بما فيها ملة المشركين العرب-:
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}..
إنه مفرق الطريق بين الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل..
سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا. أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلاً ومعسكرات ودولاً. أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من هؤلاء كلهم في شيء.. إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز.. وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات.. وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام.. إسلامي.. وشيء آخر..!!! إن الإسلام إسلام فحسب. والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب. والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان!
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى.
وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده- وبالتعبير الآخر: ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده- إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى.. قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام!
إن الدين عند الله الإسلام.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام.
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً، وغير شريعة الله شرعا..
الأمر هكذا جملة. وللنظرة الأولى. بدون دخول في التفصيلات!
وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعاً، وبرئ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم من الله تعالى.. أمرهم بعد ذلك إلى الله؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون:
{إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}..
وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده. فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن- فليس مع الكفر من حسنة!- فله عشر أمثالها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها؛ لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه:
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها. وهم لا يظلمون}..
وفي ختام السورة- وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية- تجيء التسبيحة الندية الرخية، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب؛ وفي تقرير كذلك حاسم فاصل.. ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية: قل.. قل.. قل.. ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد.. توحيد الصراط والملة. توحيد المتجه والحركة. توحيد الإله والرب. توحيد العبودية والعبادة.. مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته.
{قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين. قل: أغير الله أبغي ربا، وهو رب كل شيء، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم. إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم}..
هذا التعقيب كله، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحناً رائعاً باهراً متناسقاً، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله.
فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد..
{قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}..
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر، ويشي بالثقة، ويفيض باليقين.. اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية، والثقة بالصلة الهادية.. صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية.. والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي لا التواء فيه ولا عوج: {ديناً قيماً}.. وهو دين الله القديم منذ إبراهيم. أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب: {ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين}.
{قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له. وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}..
إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة. وبالصلاة والاعتكاف. وبالمحيا والممات. بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
إنها تسبيحة التوحيد المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده. لله {رب العالمين}.. القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين.. في إسلام كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في الواقع.. {وبذلك أمرت}.. فسمعت وأطعت: {وأنا أول المسلمين}.
{قل: أغير الله أبغي ربا، وهو رب كل شيء، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون؟}..
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن؛ وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل؛ وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية.. ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل؛ وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة.
ثم تعجب في استنكار:
{أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء}؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن عليَّ ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية؟
أغير الله أبغي ربا. وهذا الكون كله في قبضته؛ وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ {ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟}..
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعاً فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا، وهو الذي استخلف الناس في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق؛ ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا، وهو سريع العقاب، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا، فأجعل شرعه شرعاً، وأمره أمراً، وحكمه حكماً. وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة؛ وكلها شاهدة؛ وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟!
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية؛ يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع.
مشهد الحقيقة الإيمانية، كما هي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد..
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة؛ يجيء متناسقاً مع الإيقاعات الأولى في السورة، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان؛ من ذلك قوله تعالى: {قل: أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين} وغيرها في السورة كثير..
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مراراً من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام. فهي صور متنوعة للحقيقة الواحدة.. الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير. وتبدو مرة في صورة منهج للحياة.. وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين..
ولكننا نتلفت الآن- وقد انتهى سياق السورة- على المدى المتطاول، والمساحة الشاسعة، والأغوار البعيدة.. تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة- ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء- فإذا هو شيء هائل هائل.. وننظر إلى حجم السورة، فإذا هي كذا صفحة، وكذا آية، وكذا عبارة.. ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات؛ في مثل هذه المساحة المحدودة!.. وذلك فضلاً على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك..
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد، عميقة الأغوار، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة.. رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة.. رحلة تكفي وحدها لتحصيل مقومات التصور الإسلامي!
حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها..
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون، ومن قدر مجهول، ومن مشيئة تمحو وتثبت، وتنشئ وتعدم، وتحيي وتميت، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء.
وحقيقة النفس الإنسانية، بأغوارها وأعماقها، ودروبها ومنحنياتها، وظاهرها وخافيها، وأهوائها وشهواتها، وهداها وضلالها، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن.. وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال..
ومشاهد قيامة، ومواقف حشر، ولحظات كربة وضيق، ولحظات أمل واستبشار. ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض؛ ولقطات من تاريخ الكون والحياة.
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة. والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها، في سياقها الفريد، وفي أدائها العجيب.
إنه الكتاب المبارك.. وهذه- بلا شك- واحدة من بركاته الكثيرة.. والحمد لله رب العالمين..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال