سورة الأعراف / الآية رقم 1 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الـمص‌ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ

الأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعراف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


{المص}.. ألف. لام. ميم. صاد..
هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة وفي أول سورة آل عمران. وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلاماً كهذا القرآن، وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله. فلا بد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات.. وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم. والله أعلم بمراده.
وعلى ذلك يصح القول بأن {المص} مبتدأ خبره: {كتاب أنزل إليك}.. بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب.. كما يصح القول بأن {المص} مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه. و{كتاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو كتاب: أو هذا كتاب..
{كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين}..
كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير.. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة.. لا يدرك ذلك- كما قلنا في التعريف بالسورة- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة صلى الله عليه وسلم ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها..
وهذا الموقف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك، وما كان في الأرض من حولها.. إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه!.. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة.. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة!.. إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها- وهذه هي الرجعية البائسة المرذولة- وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه الرجعية مرة أخرى كذلك؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأولى صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات.
وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضاً! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم:
{كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..
ويعلم- من طبيعة الواقع- من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً..
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر؛ وألا يكون في صدره حرج منه، وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق!.
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء- حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين، المسلمين لله المخلصين له الدين- فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالماً آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت. عالماً يعبد فيه الله وحده- بمعنى العبادة الشامل- ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالماً يخرج الله فيه- من شاء- من عبادة العباد إلى عبادةِ الله وحده. عالماً يولد فيه الإنسان الحر الكريم النظيف.. المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير الله.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري- كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم- وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته.. وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه؛ ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده. ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله.
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد.. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية.
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلاً وهم الملحدون.
فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان!
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة. كما في الهند، وفي أواساط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.
وشيعة أهل كتاب من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله- لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع. وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً!.. ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها الرأسمالية والاشتراكية.. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها الديمقراطية والديكتاتورية... وما إليها. ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.
وشيعة تسمي نفسها مسلمة! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه- حذوك النعل بالنعل!- خارجة من دين الله إلى دين العباد. فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم!
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية.. شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً.. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه!.. وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد. يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه!
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه.. إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة، في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد... التي واجهها أول مرة.
إن الجاهلية حالة ووضع؛ وليست فترة تاريخية زمنية.. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع.. إنها تقوم ابتداء على قاعدة: حاكمية العباد للعباد، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد. تقوم على أساس أن يكون هوى الإنسان في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون شريعة الله هي القانون المحكم.
ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها.. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وأن الإسلام اليوم متوقف عن الوجود مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً؛ ويواجهون ما كان يواجهه صلى الله عليه وسلم تماماً، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله- سبحانه- له:
{كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم- بجملتها- مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات متخلفة أو رجعية! بمعنى أنها رجعت إلى الجاهلية، بعد أَن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية، وقيادتها في طريق التقدم والحضارة بقيمها وموازينها الربانية.
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع- متمثلة في سيادة شريعته الربانية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد. وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة- كما هي في ميزان الله- لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد.. لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد.. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين!.. ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمع جاهلي مشرك!
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادراً من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً. أَو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً ربانياً مسلماً.. لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في الإنسان من خصائص- خصائص الروح والفكر- فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض.. وما إلى ذلك من الروابط.. فإنه يكون مجتمعاً رجعيا متخلفا.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً جاهلياً مشركاً.. ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض.
وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في الإنسان. فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر!
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة- وهي أسمى ما أكرمه الله به- أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض.. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها!
وحين تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع؛ وتكون الخصائص الإنسانية فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضراً متقدما.. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانياً مسلماً.. فأما حين تكون المادة- في أية صورة من صورها- هي القيمة العليا.. سواء في صورة النظرية كما في الماركسية، أو في صورة الإنتاج المادي كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية- وفي أولها القيم الأخلاقية- فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً جاهلياً مشركاً..
.. إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة؛ لا في صورة النظرية باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه؛ ولا في صورة الإنتاج المادي والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه- كما سنرى في سياق هذه السورة- ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية.. الملحدة أو المشركة..
وحين تكون القيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية- كما هي في ميزان الله- هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً.. أو بالاصطلاح الإسلامي.. ربانياً مسلماً.. والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة ولا مائعة؛ وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال- كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم.. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص الإنسان التي ينفرد بها دون الحيوان. وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً.
وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان.. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها التطوريون! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية. ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية. ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها. إنما تكون هناك فقط قيم وأخلاق إنسانية يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر. وقيم وأخلاق حيوانية- إذا صح هذا التعبير- يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية!
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية- ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة- رذيلة أخلاقية! إن المفهوم الأخلاقي ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية- أحيانا في حدود مصلحة الدولة!- والكتّاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية!
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة- من وجهة النظر الإنسانية. وبمقياس خط التقدم الإنساني.. وهي كذلك غير إسلامية.. لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية..
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة، وإغراقها في الجاهلية.. من العقيدة إلى الخلق. ومن التصور إلى أوضاع الحياة.. ونحسب أن هذه الإشارة المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة. ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله.. إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقاً ونظاماً.. إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة. وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه؛ وربه- سبحانه- يخاطبه:
{كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..
وفي الوقت الذي وجه الله- سبحانه- هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة- وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية- الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله.
ذلك أن القضية في صميمها هي قضية الاتباع.. من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان:
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء. قليلاً ما تذكرون}.
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية.. إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه.. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة.. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟!
وفي الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه: {كتاب أنزل إليك}.. وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}. فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره.. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتاباً، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر.
ولأن المحاولة ضخمة.. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها بالله، وبالكون، وبالناس..
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً.. وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا، ومصائرهم كذلك في الآخرة:
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين.. فلنسألن الذين أرسل إليهم، ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم، وما كنا غائبين. والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن مصارع الغابرين خير مذكر، وخير منذر.. والقرآن يستصحب هذه الحقائق، فيجعلها مؤثرات موحية، ومطارق موقظة، للقلوب البشرية الغافلة.
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها. أهلكت وهي غارة غافلة. في الليل وفي ساعة القيلولة، حيث يسترخي الناس للنوم، ويستسلمون للأمن:
{وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون}.
وكلتاهما.
البيات والقيلولة.. ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا. وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط!
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار!
{فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين}..
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! {إنا كنا ظالمين}.. فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك!
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!
وبينما المشهد معروض في الدنيا، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة. فإن الندم قد فات موعده، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب..
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة. بلا توقف ولا فاصل. فالشريط المعروض موصول المشاهد، والنقلة تتخطى الزمان والمكان، وتصل الدنيا بالآخرة، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم، وما كنا غائبين. والوزن يومئذ الحق. فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي، خاصية من خواص القرآن.. إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة. وفي سطر من كتاب. لتلتحم الدنيا بالآخرة؛ ويتصل البدء بالختام!
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون: {إنا كنا ظالمين}..
ولكنه السؤال الجديد، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم، ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم- وما كنا غائبين}.
فهو السؤال الدقيق الوافي، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين.. وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق!.. يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون. ويسأل الرسل فيجيبون. ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه! يقصه عليهم- سبحانه- بعلم فقد كان حاضراً كل شيء. وما كان- سبحانه- غائباً عن شيء.. وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير!
{والوزن يومئذ الحق}..
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين.
{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}..
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق. وجزاؤها إذن هو الفلاح.. وأي فلاح بعد النجاة من النار، والعودة إلى الجنة، في نهاية الرحلة المديدة، وفي ختام المطاف الطويل؟
{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ. وقد خسروا أنفسهم. فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه. فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله: {بما كانوا بآياتنا يظلمون} والظلم- كما أسلفنا- يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر: {إن الشرك لظلم عظيم} ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان- كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر الإسلامي!.. فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل. مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء.. وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق.. من أن الحساب يومئذ بالحق، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال