فصل: الباب السادس في انقسام الكلام إلى فَنَّيْ النظم والنثر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم **


 الباب السادس في انقسام الكلام إلى فَنَّيْ النظم والنثر

وفيه‏:‏ مطالب

 مطلب

اعلم‏:‏ أن لسان العرب وكلامهم على فنين‏:‏

فن الشعر المنظوم‏:‏ وهو الكلام الموزون المقفى، ومعناه‏:‏ الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد، وهو القافية‏.‏

وفن النثر‏:‏ وهو الكلام غير الموزون‏.‏

وكل واحد من الفنين‏:‏ يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام‏.‏

فأما الشعر‏:‏ فمنه المدح، والهجاء، والرثاء‏.‏

وأما النثر‏:‏ فمنه‏:‏

السجع‏:‏ الذي يؤتى به قطعا، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، يسمى‏:‏ سجعاً‏.‏

ومنه‏:‏ المرسل‏:‏ وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا، ولا يقطّع أجزاء، بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها، ويستعمل في‏:‏ الخطب، والدعاء، وترغيب الجمهور، وترهيبهم‏.‏

وأما القرآن، فهو وإن كان من المنثور، إلا أنه خارج عن الوصفين، وليس يسمى مرسلا مطلقا، ولا مسجعا، بل تفصيل آيات، ينتهي إلى مقاطع، يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية ‏(‏1/ 287‏)‏ الأخرى بعدها، ويثني من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ أنْزَلَ أَحْسَنَ الحَديثِ كِتاباً مُتَشابهاً، مَثانيَ تقْشَعِرُّ منهُ جُلودُ الذين يخْشَونَ ربهم‏}‏؛ وقال‏:‏ ‏{‏قد فصَّلنا الآياتِ‏}‏؛ ويسمى آخر الآيات منها‏:‏ فواصل؛ إذ ليست أسجاعا، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف‏.‏

وأطلق اسم المثاني‏:‏ على آيات القرآن كلها على - العموم لما ذكرناه -؛ واختصت بأم القرآن، للغلبة فيها، كالنجم للثريا، ولهذا سميت‏:‏ ‏(‏السبع المثاني‏)‏‏.‏

وانظر هذا مع ما قاله المفسرون، في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برجحان ما قلناه‏.‏

واعلم‏:‏ أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله، لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل‏:‏ النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات، وأمثال ذلك‏.‏

وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النسيب بين يدي الأغراض؛ وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن‏.‏

واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة، واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه - وخصوصا أهل المشرق -، وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد، عند الكتاب الغفّل، جاريةً على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صواب من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطِب والمخاطَب‏.‏

وهذا ‏(‏1/ 288‏)‏ الفن المنثور المقفى، أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر؛ فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تناسبها اللوذعية، وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف، وضرب الأمثال، وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب؛ والتزام التقفية أيضا من اللوذعية والتزيين، وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه‏.‏

والمحمود في المخاطبات السلطانية‏:‏ الترسُّل، وهو‏:‏ إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع، إلا في الأقل النادر؛ وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه، في مطابقته لمقتضى الحال؛ فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من‏:‏ إطناب، أو إيجاز، أو حذف، أو إثبات، أو تصريح، أو إشارة، أو كناية، أو استعارة‏.‏

وأما إجراء المخاطبات السلطانية، على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم؛ وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه، في مطابقته لمقتضى الحال؛ فعجزوا عن الكلام المرسل، لبعد أمده في البلاغة، وانفساح خطوبه؛ وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام، على المقصود، ومقتضى الحال فيه؛ ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك‏.‏

وأكثر من أخذ بهذا الفن، وبالغ فيه، في سائر أنحاء كلامهم‏:‏ كتّاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليُخِلُّون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها؛ فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس، ويدعون الإعراب، ويفسدون بنية الكلمة، عساها تصادف التجنيس؛ فتأمل ذلك بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه‏.‏ - والله الموفق للصواب بمنه وكرمه -‏.‏ ‏(‏1/ 289‏)‏

 مطلب في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنثور والمنظوم معا إلا للأقل

والسبب في ذلك‏:‏ أنه كما بيناه ملكة في اللسان؛ فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة، لأن تمام الملكات، وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى، أسهل وأيسر؛ وإذا تقدمتها ملكة أخرى، كانت منازعة لها في المادة القابلة، وعائقة عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة، وتعذر التمام في الملكة؛ وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق، وقد برهنّا عليه في موضعه، بنحو من هذا البرهان؛ فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة؛ وانظر من تقدم له شيء من العجمة، كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا‏؟‏

فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية، لا يستولي على ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصرا فيه، ولو تعلمه وعلمه، وكذا البربري، والرومي، والإفرنجي، قلَّ أن تجد أحدا منهم مُحْكِما لملكة اللسان العربي، وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر؛ حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن، إذا طلبه بين أهل اللسان العربي، جاء مقصرا في معارفه عن الغاية والتحصيل، وما أتي إلا من قبل اللسان‏.‏

وقد تقدم لك من قبل‏:‏ أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع؛ وأن الصنائع وملكاتها لا تزدحم؛ وأن من سبقت له إجادة في صناعة، فقلَّ أن يجيد أخرى، أو يستولي فيها على الغاية، - ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏-‏.‏

 مطلب في صناعة الشعر ووجه تعلمه

هذا الفن من فنون كلام العرب، وهو المسمى‏:‏ بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات؛ إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب، فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه‏.‏

وهو في لسان العرب غريب النزعة، عزيز المنحى؛ إذ هو‏:‏ كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم‏:‏ بيتا؛ ويسمى الحرف الأخير، الذي تتفق فيه‏:‏ رويا وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره‏:‏ قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده؛ وإذا أفرد كان تاما في بابه في‏:‏ مدح، أو تشبيب، أو رثاء؛ فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك في البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود، بأن يوطئ المقصود الأول ومعانيه، إلى أن تناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر؛ كما يستطرد من التشبيب إلى المدح، ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف، ‏(‏1/ 291‏)‏ ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره، ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأثر، وأمثال ذلك‏.‏ ويراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه، فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس‏.‏

ولهذه الموازين شروط وأحكام، تضمنها علم العروض؛ وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن، وإنها هي أوزان مخصوصة، تسميها أهل تلك الصناعة‏:‏ البحور؛ وقد حصروها في خمسة عشرا بحرا، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما‏.‏

واعلم‏:‏ أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم، وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم؛ وكانت ملكته مستحكمة فيهم، شأن الملكات كلها؛ والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة‏.‏

والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه، فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلا بنفسه، ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده، ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض، بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة؛ ولصعوبة منحاه وغرابة فنه، كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه، ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ‏(‏1/ 292‏)‏ ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها، واستعمالها‏.‏

ولنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة، وما يريدون بها في إطلاقهم‏.‏

فاعلم‏:‏ أنها عبارة عندهم عن‏:‏ المنوال الذي ينسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه، ولا يرجع إلى الكلام، باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن، كما استعمله العرب فيه، الذي هو وظيفة العروض‏.‏

فهذه العلوم الثلاثة‏:‏ خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية، باعتبار انطباقها على تركيب خاص؛ وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب، باعتبار الإعراب والبيان، فيرصها فيه رصا، كما يفعله البنّاء في القالب، أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة، باعتبار ملكة اللسان العربي فيه‏.‏

فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به، وتوجد فيه على أنحاء مختلفة؛ فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول، كقوله‏:‏

يا دار مية بالعلياء فالسند*

ويكون باستدعاء الصَّحْب للوقوف والسؤال، كقوله‏:‏

قفا نسأل الدار التي خفَّ أهلها*

أو‏:‏ باستبكاء الصحب على الطلل، كقوله‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*

أو‏:‏ بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين، كقوله‏:‏

ألم تسأل فتخبرك الرسوم *

ومثل تحية الطلول، بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها، كقوله‏:‏

حي الديار بجانب العَزَل*

أو‏:‏ بالدعاء لها بالسقيا، كقوله‏:‏

أسقى طلولهَم أجشُّ هزيم ** وغدت عليهم نضرة ونعيمُ

أو‏:‏ سؤال السقيا لها من البرق، كقوله‏:‏

يا برقُ طالعْ منزلا بالأبرق ** وَاحْدُ السحاب لها حِداء الأَيْنُقِ

أو‏:‏ مثل التفجع في الجزع، باستدعاء البكاء، كقوله‏:‏

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

أو‏:‏ باستعظام الحادث، كقوله‏:‏

أرأيت من حُملوا على الأعواد *

أو‏:‏ بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده، كقوله‏:‏

منابت العشب لا حام ولا راع ** مضى الردى بطويل الرمح والباع

أو‏:‏ بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات، كقول الخارجية‏:‏

أيا شجر الخابور مالك مورقا ** كأنك لم تجزع على ابن طريف

أو‏:‏ بتهئنة قريعة بالراحة من ثقل وطأته، كقوله‏:‏

ألقى الرماحَ ربيعةُ بن نزار ** أودى الردى بقريعك المغوار

وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه، وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل، إنشائية وخبرية، اسمية وفعلية، متفقة وغير متفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمة من الأخرى؛ يعرفك به ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها؛ فإن مؤلف الكلام هو كالبنّاء أو النسَّاج، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه، أو المنوال الذي ينسج عليه، فإن خرج عن القالب في بنائه، أو على المنوال في نسجه، كان فاسدا‏.‏

ولا تقولن‏:‏ إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول‏:‏ قوانين البلاغة إنما هي‏:‏ قواعد علمية قياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئاتها الخاصة بالقياس، وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية‏.‏

وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس، من تتبع التراكيب في شعر العرب، لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها، والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر - كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق -، وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه، وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه، وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة، يطلع عليها الحافظون لكلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية؛ فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب، كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس‏.‏

ولهذا قلنا‏:‏ إن المحصّل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم، وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاؤوا به مفصلا في النوعين؛ ففي الشعر‏:‏ بالقطع الموزونة، والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة؛ وفي المنثور‏:‏ يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا، وقد يقيدونه بالأسجاع، وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب، والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق، يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البنّاء على القالب، والنسّاج على المنوال‏.‏

فلهذا كان فن تأليف الكلام منفردا عن نظر النحوي والبياني والعروضي؛ نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام، اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب، التي يسمونها‏:‏ أساليب، ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا‏.‏

وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو‏؟‏ فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر، به تفهم حقيقته، على صعوبة هذا الغرض، فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين - فيما رأيناه -‏.‏

وقول العروضيين في حده‏:‏ إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسم له، وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة، فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول‏:‏

الشعر‏:‏ هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به، فقولنا‏:‏ ‏(‏الكلام البليغ‏)‏ جنس؛ وقولنا‏:‏ ‏(‏المبني على الاستعارة والأوصاف‏)‏ فصل عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر؛ وقولنا‏:‏ ‏(‏المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي‏)‏ فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل؛ وقولنا‏:‏ ‏(‏مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده‏)‏ بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء؛ وقولنا‏:‏ ‏(‏الجاري على الأساليب المخصوصة به‏)‏ فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعرا، إنما هو كلام منظوم، لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور، وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر؛ فما كان من الكلام منظوما، وليس على تلك الأساليب، فلا يكون شعرا‏.‏

وبهذا الاعتبار كان الكثير من أهل هذه الصناعة الأدبية، يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم، عند من يرى أن ‏(‏1/ 297‏)‏ الشعر يوجد للعرب وغيرهم؛ ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول‏:‏ مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة‏.‏

وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله، فنقول‏:‏

اعلم‏:‏ أن لعمل الشعر، وإحكام صناعته، شروطا‏:‏

أولها‏:‏ الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب؛ وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل‏:‏ ابن أبي ربيعة، وكثير، وذي الرمة، وجرير، وأبي نواس، وحبيب، والبحتري، والرضي، وأبي فراس، وأكثره شعر ‏(‏كتاب الأغاني‏)‏ لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية‏.‏

ومن كان خاليا من المحفوظ، فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ؛ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط؛ واجتناب الشعر أولى ممن لم يكن له محفوظ؛ ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ‏.‏

وربما يقال‏:‏ إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها؛ فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه، ‏(‏1/ 298‏)‏ بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة؛ ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار؛ وكذا المسموع لاستثارة القريحة باستجماعها، وتنشيطها بملاذ السرور، ثم مع هذا كله، فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له، وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه‏.‏

قالوا‏:‏ وخير الأوقات لذلك أوقات البكر، عند الهبوب من النوم، وفراغ المعدة، ونشاط الفكر، وفي هؤلاء الجمام‏.‏

وربما قالوا‏:‏ إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب ‏(‏العمدة‏)‏، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله‏.‏

قالوا‏:‏ فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر، ولا يكره نفسه عليه؛ وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية، صعب عليه وضعها في محلها، فربما تجيء نافرة قلقة؛ وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده، فليتركه إلى موضعه الأليق به، فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة، فليتخير فيها كما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك، إذا لم يبلغ الإجادة، فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو بنات فكره، واختراع قريحته؛ ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب، والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة، وقد حظر أئمة اللسان عن المولّد وارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة ‏(‏1/ 299‏)‏ منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة؛ ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده، وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم، وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد، فإن فيه نوع تعقيد على الفهم، وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى، فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا، واستعمل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة‏.‏

ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن، ولهذا كان شيوخنا - رحمهم الله - يعيبون شعر أبي إسحاق بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه، وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري، بعدم النسج على الأساليب العربية - كما مر -، فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر؛ والحاكم بذلك هو الذوق‏.‏

وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا، فيصير مبتذلا، ويقرب من عدم الإفادة، ويبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان‏.‏

ولهذا كان الشعر في الربّانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول، وفي القليل على العشر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك‏.‏

وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع، يدرّ بالامتراء، ويجف بالترك والإهمال‏.‏ ‏(‏1/ 300‏)‏

وبالجملة‏:‏ فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب ‏(‏العمدة‏)‏ لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد؛ ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب، ففيه البغية من ذلك، وهذه نبذة كافية؛ - والله المعين -‏.‏ ‏(‏1/ 301‏)‏

 مطلب في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ، لا في المعاني

اعلم‏:‏ أن صناعة الكلام نظما ونثرا، إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها، وهي أصل؛ فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر، إنما يحاولها في الألفاظ، بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله، ويفرض نفسه، مثل وليد ينشأ في جيل العرب، ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم‏.‏

وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق، يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر‏.‏

وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طلوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى صناعة؛ وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة - كما قلناه -، وهو بمثابة القوالب للمعاني؛ فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها‏:‏ آنية الذهب، والفضة، والصدف، والزجاج، والخزف، والماء واحد في نفسه؛ وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها، لا باختلاف الماء؛ كذلك جودة اللغة وبلاغتها في ‏(‏1/ 202‏)‏ الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها؛ وإنما الجاهل، بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول العبارة عن مقصوده لم يحسن؛ بمثابة المُقْعَد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه، - ‏(‏والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‏)‏‏.‏ ‏(‏1/ 303‏)‏

 مطلب في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ

قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي؛ وعلى قدر جودة المحفوظ، وطبقته في جنسه، وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ؛ فمن كان محفوظه‏:‏ شعر حبيب، أو العتابي، أو ابن المعتز، أو ابن هانئ، أو الشريف الرضي، أو رسائل ابن المقفع، أو سهل بن هارون، أو ابن الزيات، أو البديع، أو الصابئ، تكون ملكته أجود، وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين، أو ابن النبيه، أو ترسُّل البيساني، أو العماد الأصفهاني، لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك، يظهر ذلك للبصير الناقد، صاحب الذوق؛ وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما‏.‏

فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة، لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها، وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات؛ واختلافها إنما هو ‏(‏1/ 304‏)‏ باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج، فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها؛ والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج - كما ذكرنا -‏.‏

فالملكة الشعرية‏:‏ تنشأ بحفظ الشعر؛ وملكة الكتابة‏:‏ بحفظ الأسجاع والترسيل؛ والعلمية‏:‏ بمخالطة العلوم، والإدراكات، والأبحاث، والأنظار؛ والفقهية‏:‏ بمخالطة الفقه، وتنظير المسائل وتفريعها، وتخريج الفروع على الأصول؛ والتصوفية الربانية‏:‏ بالعبادات، والأذكار، وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة، والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانيا؛ وكذا سائرها‏.‏

وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة، تكون تلك الملكة في نفسها؛ فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها، إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام؛ ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلئ به من القوانين العلمية، والعبارات الفقهية، الخارجة عن أسلوب البلاغة، والنازلة عن الطبقة؛ لأن العبارات عن القوانين والعلوم لاحظ لها في البلاغة‏.‏

فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر، وكثر، وتلونت به النفس، جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور، وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم‏.‏

وهكذا نجد شعر الفقهاء، والنحاة، والمتكلمين، والنظار، وغيرهم‏:‏ ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب‏.‏

أخبرني صاحبنا، الفاضل‏:‏ أبو القاسم بن رضوان، كاتب العلامة بالدولة المرينية، قال‏:‏ ذاكرت يوما صاحبنا‏:‏ أبا العباس بن شعيب، كاتب السلطان‏:‏ أبي الحسن، ‏(‏1/ 305‏)‏ وكان المقدم في البصر باللسان لعهده، فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي، ولم أنسبها له، وهو هذا‏:‏

لم أدر حين وقفت بالأطلال ** ما الفرق بين جديدها والبالي

فقال لي على البديهة‏:‏ هذا شعر فقيه، فقلت له‏:‏ من أين لك ذلك‏؟‏ قال‏:‏ من قوله‏:‏ ‏(‏ما الفرق‏)‏، إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له‏:‏ لله أبوك‏!‏ إنه ابن النحوي‏.‏

وأما الكتَّاب والشعراء‏:‏ فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم، ومخالطتهم كلام العرب، وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام‏.‏‏.‏

ذاكرت يوما صاحبنا‏:‏ أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة، فقلت له‏:‏ أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته‏!‏ مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام من‏:‏ القرآن، والحديث، وفنون من كلام العرب، - وإن كان محفوظي قليلا -، وإنما أُتيتُ - والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية، والقوانين التأليفية، فإني حفظت قصيدتَيْ‏:‏ الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات، و تدارست كتابَيْ ابن الحاجب‏:‏ في الفقه والأصول، و ‏(‏جمل الخونجي‏)‏ في المنطق، وبعض كتاب ‏(‏التسهيل‏)‏، وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها؛ فنظر إلي ساعة معجبا، ثم قال‏:‏ لله أنت‏!‏ وهل يقول هذا إلا مثلك‏؟‏‏!‏

ويظهر لك من هذا المطلب وما تقرر فيه سرٌّ آخر، وهو‏:‏ إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب، أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها، ‏(‏1/ 306‏)‏ من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم‏.‏

فإنا نجد شعر حسان بن ثابت، وعمر بن أبي ربيعة، والحطيئة، وجرير، والفرزدق، ونصيب، وغيلان ذي الرمة، والأحوص، وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية، وصدرا من الدولة العباسية، في‏:‏ خطبهم، وترسيلهم، ومحاوراتهم للملوك، أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة، وعنترة، وابن كلثوم، وزهير، وعلقمة بن عبدة، وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم؛ والطبع السليم، والذوق الصحيح، شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة‏.‏

والسبب في ذلك‏:‏ أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام، سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة، ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة، وأصفى رونقا من أولئك، وأرصف مبنى، وأعدل تثقيفا، بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة، وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك، إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة‏.‏

ولقد سألت يوما شيخنا، الشريف‏:‏ أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، - وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان، وجاء من وراء الغاية فيه - فسألته يوما‏:‏ ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين‏؟‏ - ولم يكن يستنكر ذلك بذوقه -، فسكت طويلا، ثم قال لي‏:‏ والله ما أدري‏!‏ فقلت‏:‏ ‏(‏1/ 307‏)‏ أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه؛ وذكرت له هذا الذي كتبت، فسكت معجبا، ثم قال لي‏:‏ يا فقيه، هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب؛ وكان من بعدها يؤثر محلي، ويُصيخ في مجالس التعليم إلى قولي، ويشهد لي بالنباهة في العلوم - والله خلق الإنسان، وعلمه البيان -‏.‏ ‏(‏1/ 308‏)‏

 مطلب في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

اعلم‏:‏ أن الشعر كان ديوانا للعرب، فيه‏:‏ علومهم، وأخبارهم، وحكمهم؛ وكان رؤساء العرب منافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن، وأهل البصر، لتمييز حَوْلِه، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة ابن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع؛ فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة على ذلك بقومه، وعصبيته، ومكانه في مضر؛ على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات‏.‏

ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك، وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ثم استقر ذلك، وأونس الرشد من الملة، ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثاب عليه، فرجعوا ‏(‏1/ 309‏)‏ حينئذ إلى ديدنهم منه وكان لعمر بن أبي ربيعة - كبير قريش لذلك العهد - مقامات فيه عالية، وطبقة مرتفعة، وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس، فيقف لاستماعه معجبا به‏.‏

ثم جاء من بعد ذلك المُلْكُ والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها، ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم، ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطّلعون منها على‏:‏ الآثار، والأخبار، واللغة، وشرف اللسان؛ والعرب يطالبون ولدهم بحفظها‏.‏

ولم يزل هذا الشأن أيام بني أمية، وصدرا من دولة بني العباس‏.‏

وانظر ما نقله صاحب ‏(‏العقد‏)‏، في مسامرة الرشيد للأصمعي، في باب‏:‏ الشعر والشعراء، تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك، والرسوخ فيه، والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه، وكثرة محفوظه منه؛ ثم جاء خَلْفٌ من بعدهم، لم يكن اللسان لسانهم من أجل‏:‏ العجمة، وتقصيرها باللسان؛ وإنما تعلموه صناعة؛ ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم، طالبين معروفهم فقط، لا سوى ذلك من الأغراض؛ كما فعله حبيب، والبحتري، والمتنبي، وابن هانئ، ومن بعدهم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى هلم جرا‏.‏

فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو‏:‏ الكذب، والاستجداء؛ لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين - كما ذكرنا آنفا -؛ وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين، وتغير الحال، وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة، ومذمة لأهل المناصب الكبيرة، - والله مقلب الليل والنهار -‏.‏ ‏(‏1/ 310‏)‏

 مطلب في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد

اعلم‏:‏ أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية؛ وقد كان في الفرس شعراء، وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب ‏(‏المنطق‏)‏ أوميروس الشاعر، وأثنى عليه‏.‏

وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون؛ ولما فسد لسان مضر ولغتهم، دونت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد، بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة، فكانت لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية، وبناء الكلمات؛ وكذلك الحضر أهل الأمصار، نشأت فيهم لغة أخرى، خالفت لسان مضر في‏:‏ الإعراب، وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد؛ واختلفت هي في نفسها، بحسب اصطلاحات أهل الآفاق؛ فلأهل المشرق وأمصاره لغة، غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره‏.‏

ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان، لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن وتَقَابُلِها موجودة في طباع البشر، فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة - وهي لغة مضر - الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه، حسبما اشتهر بين أهل الخليقة؛ بل كل جيل، وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار، يتعاطون ‏(‏1/ 311‏)‏ منه ما يطاوعهم في انتحاله، ووصف بنائه، على مَهْيَع كلامهم‏.‏

فأما العرب‏:‏ أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويتأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من‏:‏ النسيب، والمدح، والرثاء، والهجاء، ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام، وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم؛ وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون‏.‏

فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد‏:‏ بالأصمعيات، نسبة إلى الأصمعي - راوية العرب في أشعارهم -؛ وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر‏:‏ بالبدوي، وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة، لا على طريقة الصناعة الموسيقية، ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم‏:‏ الحوراني - نسبة إلى‏:‏ حوران، من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب‏:‏ البادية، ومساكنهم إلى هذا العهد -‏.‏

ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم، يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء، يخالف آخرها الثلاثة في رَويِّه، ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة، شبيها بالمربع والمخمس، الذي أحدثه المتأخرون من المولّدين‏.‏

ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة، وفيهم‏:‏ الفحول، والمتأخرون؛ والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد - وخصوصا علم اللسان - يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها، ويمج نظمهم إذا أُنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها، وفقدان الإعراب منها؛ وهذا إنما أوتي من فقدان الملكة في لغتهم، فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها، إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره، وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة‏:‏ مطابقة الكلام للمقصود، ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالا على الفاعل، والنصب دالا على المفعول، أو بالعكس؛ وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو لغتهم هذه، فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة؛ فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة؛ ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك‏.‏

وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه، ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، بقرائن الكلام، لا بحركات الإعراب‏.‏

وأما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا منه، سموه‏:‏ بالموشح، ينظمونه أسماطا أسماطا، وأغصانا أغصانا، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها‏:‏ بيتا واحدا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة؛ وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها، بحسب الأغراض والمذاهب‏.‏

وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجارُوا في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه‏.‏

وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس‏:‏ مقدم بن معافى القبري، من شعراء الأمير‏:‏ عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه‏:‏ أبو عبد الله، أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب ‏(‏العقد‏)‏، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما؛ فكان أول من برع في هذا الشأن‏:‏ عبادة القزَّاز، شاعر المعتصم بن صمادح، صاحب المرية‏.‏

وقد ذكر الأعلم البطليوسي، أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول‏:‏ كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز؛ وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشَّاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف، وجاء مُصلِّيا خلفه منهم‏:‏ ابن أرفع رأسه، شاعر المأمون بن ذي النون، صاحب طليطلة‏.‏

ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثَّمين، فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم‏:‏ الأعمى التطيلي، ثم يحيى بن بقي‏.‏

وذكر غير واحد من المشايخ، أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون‏:‏ أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة، وتأنق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله‏:‏

ضاحكٌ عن جمانْ ** سافر عن بدرِ

ضاق عنه الزمانْ ** وحواه صدري

خرق ابن بقي موشحته، وتبعه الباقون‏.‏

وذكر العلم البطليوسي، أنه سمع ابن زهر يقول‏:‏ ما حسدت قط وشَّاحا على قول، إلا ابن بقي حين وقع له‏:‏

أما ترى أحمد * في مجده العالي * لا يُلحَقُ

أطلعه الغرب * فأَرِنا مثله * يا مَشرقُ

وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين‏:‏ أبو بكر الأبيض‏.‏

وكان في عصرهما أيضا الحكيم‏:‏ أبو بكر بن باجة، صاحب التلاحين المعروفة؛ واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين‏:‏ محمد بن أبي الفضل بن شرف؛ وأبو إسحاق الدويني‏.‏

قال ابن سعيد‏:‏ وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء‏:‏ أبو بكر بن زهر، وقد شرّقت موشحاته وغرَّبت؛ واشتهر بعده‏:‏ ابن حبون، واشتهر معهما يومئذ بغرناطة‏:‏ المهر بن الغرس، وبعد هذا‏:‏ ابن حزمون بمرسية، وأبو الحسن‏:‏ سهل بن مالك بغرناطة، واشتهر بإشبيلية أبو الحسن بن الفضل، واشتهر بين أهل العُدْوة‏:‏ ابن خلف الجزائري؛ ومن محاسن الموشحات للمتأخرين‏:‏ موشحة ابن سهل، شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها‏.‏

وأما المشارقة، فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات؛ ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك‏:‏ موشحة ابن سناء الملك المصري، اشتهرت شرقا وغربا‏.‏

ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوه فنا، سموه‏:‏ بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال، بحسب لغتهم المستعجمة‏.‏

وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية‏:‏ أبو بكر بن قُزْمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حُلاها، ولا انسبكت معانيها، واشتهرت رشاقتها، إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق‏.‏

قال ابن سعيد‏:‏ ورأيت أزجاله مروية ببغداد، أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب‏.‏

قال‏:‏ وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيلي - إمام الزجالين في عصرنا - يقول‏:‏ ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان - شيخ الصناعة -‏.‏

وكان ابن قزمان - مع أنه قرطبي الدار - كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية، ويبيت بنهرها؛ وكان في عصرهم بشرق الأندلس‏:‏ محلف الأسود، وله محاسن من الزجل‏.‏

وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها‏:‏ مدغيس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة‏.‏

وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية‏:‏ ابن جحدر، الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل‏.‏قال ابن سعيد‏:‏ لقيته، ولقيت تلميذه‏:‏ المعمع، صاحب الزجل المشهور‏.‏

ثم جاء من بعدهم‏:‏ أبو الحسن‏:‏ سهل بن مالك - إمام الأدب -؛ ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا، الوزير‏:‏ أبو عبد الله بن الخطيب - إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية من غير مدافع -؛ وكان لعصره بالأندلس‏:‏ محمد بن عبد العظيم - من أهل وادي آش -، وكان إماما في هذه الطريقة‏.‏

وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر، وفيها نظمهم، حتى إنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية، ويسمونه‏:‏ الشعر الزجلي؛ وكان من المجيدين لهذه الطريقة‏:‏ الأديب‏:‏ أبو عبد الله الألوسي‏.‏

ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا، وسموه‏:‏ عروض البلد؛ وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس، يعرف‏:‏ بابن عُمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح، ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب، فاستحسنه أهل فاس، وولعوا به، ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم، واستفحل فيه كثير منهم، ونوَّعوه أصنافا إلى‏:‏ المزدوج، والكاري، والملعبة، والغزل؛ واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها، وملاحظاتهم فيها؛ وكان منهم‏:‏ الشيخ‏:‏ علي بن المؤذن سلمان؛ وبِزَرْهُون - من ضواحي مكناسة - رجل يعرف‏:‏ بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن، وأتى فيه بكل غريبة من الإبداع‏.‏

وأما أهل تونس، فاستحدثوا في الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء‏.‏

وكان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر، يسمونه‏:‏ المواليا، وتحته فنون كثيرة، يسمون منها‏:‏ القوما، وكان وكان؛ ومنه‏:‏ مفرد؛ ومنه في بيتين، ويسمونه‏:‏ دوبيت، على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان؛ وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة، وأتوا فيها بالغرائب، وتبحروا فيها في أساليب البلاغة، بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاءوا بالعجائب‏.‏

واعلم‏:‏ أن الأذواق في معرفة البلاغة كلها إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة، وكثر استعماله لها، ومخاطبته بين أجيالها، حتى يحصل ملكتها - كما قلناه في اللغة العربية -؛ فلا الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق، ولا المشرق بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب، لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته، وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته؛ - ‏{‏ومن آياته خلق السموات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين‏}‏‏.‏

مطلب‏:‏ في بيان المردف، والمستزاد، والمزدوجة

قال السيد، العلامة‏:‏ غلام علي أزاد - رحمه الله تعالى -‏:‏ الرديف‏:‏ عبارة عن كلمة مستقلة فصاعدا، تتكرر بعد الروي، والشعر المشتمل عليه يسمى‏:‏ مُرْدَفا، من الترديف؛ وهو يزيد الأشعار جمالا، ويلبس بنات الأفكار خلخالا، وبه يتنوع الشعر الفارسي على أنواع لا تحصى، وأقسام لا تتناهى‏.‏

ولا رديف في شعر العرب؛ وإن تكلف أحد بالترديف، لا تظهر له جلوة مثل ما تظهر في شعر الفرس، فهو في الفارسية بزة العروس، وفي العربية رجْل الطاووس؛ ولا منشأ له إلا خصوصية اللسان؛ ومن يعرف اللسانين يشاهد أن الرديف في الفارسية طبيعي، وفي العربية غير طبيعي؛ وبيانه أن الرديف يجيء في الفارسية عفوا بلا تجشم، بل لا يحسن إغزالهم بلا رديف، أو وصل بالروي؛ ويجيء في العربية بالتجشم، حيث يحتاج إلى فرض رديف يصح معناه في جميع أبيات القصيدة، بل ربما يعوق الرديف الذهن عن التطرق إلى المعاني العالية؛ بخلاف الفارسية، فإن الرديف فيها يبعث الذهن على المعاني العالية، ويهديه إلى الجواهر الغالية؛ وقد سبق أن سبب ذلك‏:‏ ليس إلا خصوصية اللسان‏.‏

ولهذا ما وجدت في كلام العرب العرباء شعرا مردفا، وإنما وجدته في كلام الأعاجم على سبيل الشذوذ، كما نظم الزمخشري قصيدة مردفة، في مدح علاء الدولة - والي خوارزم -، مطلعها‏:‏

الفضل حصّله علاء الدولهْ ** والمجد أثَّله علاء الدولهْ

وكما نظم الشيخ‏:‏ عبد العزيز اللنباني قصيدة مردفة، مطلعها‏:‏

بُشراكَ يا من به يستبشر العيد ** ومن به كل ميت ينشر العيد

والآية المكررة في سورة الرحمن من القرآن المجيد، وهي‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏}‏ فيها رائحة من الرديف‏.‏

ولا يخفى أن التكرير نوع من التفنن في الكلام، وضرب من طلاقة ألسنة الأقلام؛ ورأيت في الرديف فائدة، وهي‏:‏ أن حروف الرويِّ التي قوافيها قليلة، كالثاء المثلثة، والخاء المعجمة، والذال المعجمة، والزاي، والضاد المعجمة، والطاء المهملة، والظاء المعجمة، والغين المعجمة، والكاف، إذا وقعت رويا يضطر فيها الإنسان إلى إيراد اللغات الحوشية، والألفاظ الغير المأنوسة، وبالرديف يتخلص عن هذا الاضطرار، ويتسع عليه مضيق القوافي؛ والرويِّ المُنوَّن بلا إشباع؛ والمتحرك بلا وصل لا يكون إلا في الشعر المردَف، لوقوع الروي في وسط الكلام، وهو في الشعر المردف من وجه وسط، للحوق الرديف به، فلا يُشبع بل ينتقل فيه الإشباع من الروي إلى الحرف الواقع في آخر الرديف؛ ومن وجه آخر لكون مدار القافية عليه فيشبع؛ فالروي المنون بلا إشباع كما في قولي‏:‏

رشأُ الأبيرق قاتل واللهِ ** إن المحب لغافل والله

والروي المشبع كقولي أيضا‏:‏

جور الحبيبة في منى مرضي ** ذبح المتيم هاهنا مرضي

والروي المتحرك بلا وصل كقولي أيضا‏:‏

قدر القلوب من الصفاء يلوح ** ثمن الجواهر بالجلاء يلوح

واعلم‏:‏ أن المستزاد من مستخرجات العجم، ثم تناوله العرب، وهو كلام موزون يستزاد فيه بعد كل مصراع من البيت جزءان من بحر المستزاد عليه، بشرط الالتئام، أو بعد كل بيت إلا البيت المصرع، فإنه يستزاد فيه جزءان بعد الشطر الأول أيضا، كما تراعى فيه القافية؛ والقسم الأول أوفق بالدُّبِيتْ، والقسم الثاني أوفق بالقصيدة‏.‏

ولا يخفى على الناقد أن تمكين القافية في زيادة المستزاد، قلما يوجد مثله في غيرها، فالزيادة فيه كأنها برة في ساق الغادة، نعم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة؛ على أنها تجلب المعاني الرائقة، وتجذب الخيالات الفائقة، بخلاف الرديف، فإنه يطرد المعاني، ويقتل الغواني‏.‏ ثم الالتئام بين الزيادة وبين المستزاد عليه تدركه القريحة السليمة، ‏(‏1/ 320‏)‏ ولا يوجد الالتئام في كل وزن من أوزان العروض، بل عدة أوزان من الفارسية؛ أما بالعربية فلا يوجد إلا في ثلاثة أوزان‏:‏

أحدها‏:‏ المتقارب، والزيادة فيه إما‏:‏ فعولن فعولُ، سالما ومقبوضا؛ أو‏:‏ فعولن فَعَلْ، سالما ومحذوفا؛ أو‏:‏ فعولُ فعولُ، مقبوضين؛ أو‏:‏ فعولُ فَعَلْ، مقبوضا ومخدوفا‏.‏

وثانيها‏:‏ ركض الخيل، والزيادة فيه إما‏:‏ فَعَلُنْ فَعَلُنْ، بتحريك العين فيهما؛ أبو بسكونها فيهما؛ أو بتحريك العين في أحدهما، وسكونها في الآخر؛ وكلا البحرين من الدائرة الخامسة من العروض‏.‏

وثالثها‏:‏ الدُّبيبت، وهو في الأصل من مستخرجات العجم، استخرجوه من ‏(‏بحر النهرج‏)‏، لا من ‏(‏بحر الكامل‏)‏ - كما زعمه بعضهم -؛ والنهرج‏:‏ عند الفرس ثمانية ‏(‏مفاعيلن‏)‏، يتركب الدبيت منه، ومن بعض فروعه بعد الزحافات‏.‏

واختراع الحسن القطان - من أهل خراسان - لضبط أوزانه شجرتين، إحداهما‏:‏ شجرة الأخرب، مشتملة على أربعة وعشرين وزنا، ووجه تسميتها‏:‏ أن جزأها الأول‏:‏ ‏(‏مفعولُ‏)‏ بضم اللام من ‏(‏مفاعلن‏)‏ بالخرب، وهو‏:‏ حذف الميم والنون من ‏(‏مفاعيلن‏)‏، وأخراهما‏:‏ شجرة الأخرم، أيضا مشتملة على أربعة وعشرين وزنا، ووجه تسميتها‏:‏ أن جزأها الأول ‏(‏مفعولن‏)‏ من ‏(‏مفاعيلن‏)‏ بالخرم، وهو‏:‏ حذف الميم فقط من ‏(‏مفاعيلن‏)‏، ويجوز الجمع بين بعض هذه الأفاعيل وبين بعض آخر في دُبِيت واحد لا يخل به الوزن‏.‏

وأوصل بعضهم أوزانه بضرب بعضها في بعض إلى عشرة آلاف‏.‏ ‏(‏1/ 321‏)‏

ثم الزيادة في مستزاد الدوبيت على قسمين، القسم الأول‏:‏ ما فيه أول الجزأين أخرب، وهو ‏(‏مفعول‏)‏ من ‏(‏مفاعيلن‏)‏ - كما مر -، والثاني منهما‏:‏ إما ‏(‏فعول‏)‏، فيكون الجزءان ‏(‏مفعول فعول‏)‏، أو ‏(‏فَعَلْ‏)‏، فيكون الجزءان ‏(‏مفعول فعل‏)‏، والقسم الثاني‏:‏ ما فيه أول الجزأين أخرم، وهو ‏(‏مفعول‏)‏ من ‏(‏مفاعيلن‏)‏ - كما سبق -، والثاني منهما‏:‏ إما ‏(‏فَاعِ‏)‏، فيكون الجزءان ‏(‏مفعولن فاع‏)‏، أو ‏(‏فع‏)‏، فيكون الجزءان ‏(‏مفعولن فع‏)‏؛ والزحافات التي تقع في ‏(‏مفاعيلن‏)‏ وتتولد منه الأجزاء اللواتي في القسمين من الزيادة مذكورة في كتب العروض الفارسية، في شرح الرباعي؛ ويجوز الجمع بين هذه الأفاعيل في الزيادات، كما يجوز في الأبيات الأصلية‏.‏

وعرّف صاحب ‏(‏مناظر الإنشاء‏)‏ المستزاد‏:‏ بأن تستزاد بعد كل مصراع فقرة من النثر؛ وتبعته في ‏(‏سبحة المرجان‏)‏، ثم اختلج في خاطري أن النظم والنثر متضادان، كيف يصح الاجتماع بينهما‏؟‏ فاستخرجت الوزن للزيادة، وعرفت المستزاد بالتعريف الذي تقدم‏.‏

وللمستزاد أحكام، منها‏:‏ أن لا يجوز قطع الكلمة بين المصاريع وبين الزيادات، في أي محل كان؛ فلا بد من أن يختم كل من المصراع والزيادة على تمام الكلمة، لا على بعضها، لأن كلا من المصراع الأصلي والزيادة قطعة على حدة، لا اتصال بينهما إلا في المعنى‏.‏

ففي القسم الأول‏:‏ أربع قطع، وفي القسم الثاني‏:‏ ثلاث قطع‏.‏ ‏(‏1/ 322‏)‏

ومنها‏:‏ أن يأتي في العروض والجزء الثاني من زيادتها ‏(‏فعول‏)‏ في وزن ‏(‏الدوبيت‏)‏؛ كما يجوز في ‏(‏المتقارب‏)‏ المستزاد وغير المستزاد؛ وعلى هذا القياس ‏(‏فاع‏)‏، من غير أن يجعل الحرف الأخير منهما من المصراع الثاني، كما يجعل منه أحيانا في غير المستزاد؛ وهذا الأمر يفهم من الحكم الأول أيضا؛ لكن بينته لزيادة التوضيح‏.‏

ومنها‏:‏ أن يجيء في رأس الزيادات ورأس الأعجاز همزة الوصل بالقطع من غير مضايقة؛ لما مر من أن كلاّ منهما قطعة على حدة‏.‏

ولما كان المستزاد من مخترعات شعراء العجم، لزم لشعراء العرب أن يعملوا على ما قرره شعراء العجم من قواعدهم، والأحسن أن تنسب القصيدة إلى الرَّوِيّين‏:‏ روي المصراع الأصلي، وروي الزيادة‏.‏

ويقال مثلا للقصيدة الأولى من تغزلات هذا الديوان‏:‏ الألفية الهمزية؛ أما ترتيب الديوان على ترتيب حروف الهجاء، فمداره على رويِّ الزيادة‏.‏

ولقد أكثر شعراء العرب النظم في وزن الدوبيت، لعذوبته وسلاسته؛ لكن ما نظم أحد منهم قصيدة في هذا البحر، فضلا أن ينظم المستزاد فيه‏.‏

ورأيت في ‏(‏ديوان الشيخ‏:‏ صفي الدين الحلي‏)‏ موشحا في وزن الدوبيت، مشتملا على الزيادة، لكنه قسم آخر من الشعر، ما هو على طريقة اخترتها‏.‏

ولا شك في أن المستزاد طريقه صعب، لما فيه من رعاية القافيتين، وتحمل الداهيتين، فأجريت الكميت في ميدان الدوبيت، ونظمت فيه قصائد المستزاد، وأسست أساسا جديدا على نهج السداد

أما المستزاد في ‏(‏المتقارب‏)‏، و ‏(‏ركض الخيل‏)‏ فاستخرجته أنا، ولم يسبق إليه ذهن قبلي، فهو أول بناء أسسته بالعربية؛ ثم شعراء الفرس نظموا المستزاد في الدوبيت، وغيره قليلا قليلا؛ لكن ما رتب أحد منهم ديوانا فيه، فديواني أول ديوان رتب في المستزاد، وأول صيد نشب في حبالة الصياد‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال - رحمه الله - في أول كتابه ‏(‏مظهر البركات‏)‏‏:‏ إن المزدوجة من أقسام الموزونات حق للسان الفارسي، فإنها فيه طبيعية تأتي عفوا بلا تكلف، وضعها شعراء الفرس لنظم القصص والأخبار، وسموها‏:‏ ‏(‏المثنوي‏)‏؛ أما اللسان العربي فهي فيه غير طبيعية لا تأتي إلا بالتجشم؛ كما أن القصيدة في اللسان الهندي غير طبيعية، ليس وجودها فيه أصلا؛ يعرف هذه المراتب من له معرفة تامة بهذه الألسنة‏.‏

ولهذا ما نظم المزدوجة من شعراء العرب، إلا أشخاص معدودة، منهم‏:‏ الشيخ، أبو يعلى‏:‏ محمد بن الهبارية العباسي، نظم ‏(‏الصادح والباغم‏)‏ في ‏(‏الرجز‏)‏، أولها‏:‏

الحمد لله الذي حباني ** بالأصغرين القلب واللسان

وإنما فضيلة الإنسان ** وفخره بالعقل والتبيان

ومنهم‏:‏ الشيخ‏:‏ بهاء الدين العاملي، نظم مزدوجة في ‏(‏الوافر‏)‏، سماها‏:‏ ‏(‏رياض الأرواح‏)‏، منها‏:‏

ألا يا خائضا بحر الأماني ** هداك الله من هذا التواني ‏(‏1/ 324‏)‏

ونظم مزدوجة أخرى في ‏(‏الرمل‏)‏، سماها‏:‏ ‏(‏سوانح سفر الحجاز‏)‏، منها‏:‏

يا نديمي ضاع عمري وانقضى ** قم لاستدراك وقت قد مضى

وما رأيت شاعرا عربيا، نظم المزدوجة في ‏(‏الخفيف‏)‏، ونظمها فيه شعراء الفرس كثيرا، وهو أوفق بالمزدوجة في اللسان العربي أيضا‏.‏

فاختلج في خاطري أن أنظم المزدوجة العربية في ‏(‏الخفيف‏)‏، فنظمت هذه المزدوجة، وسميتها‏:‏ ‏(‏مظهر البركات‏)‏‏.‏

ولشعراء الفرس‏:‏ ‏(‏الرديف‏)‏؛ وقد نظمت ديوانا مردفا، رويُّه على ترتيب حروف الهجاء، لامتحان الطبيعة، واختبار القريحة؛ ورأيت أن الرديف في المزدوجة العربية طبيعي، يروق المسامع، بخلاف القصائد العربية، بل الرديف في المزدوجة، ربما يعين الطبع على أداء المقاصد، ويخرجه عن مضيق القافية، ويبين أن هذا من خصائص المزدوجة‏.‏

ولشعراء الفرس‏:‏ ‏(‏الحاجب‏)‏، وهو‏:‏ عبارة عن الرديف بين القافيتين، ويُسمَّى الشعر المشتمل عليه ‏(‏محجوبا‏)‏؛ ورأيت أن ‏(‏الحاجب‏)‏ أيضا طبيعي في المزدوجة العربية، تقبله الطباع بلا إكراه‏.‏

واعلم‏:‏ أن شعراء الفرس والهند دأبهم أن يختاروا لأنفسهم أسماء، ويذكروها في أواخر منظوماتهم، ليعلم بها من نظمها؛ ويسمي شعراء الفرس هذا الاسم‏:‏ ‏(‏التخلص‏)‏؛ والسر في ذلك‏:‏ أن الاسم الأصلي للشاعر ربما لا تسعه الأوزان، فيختارون اسما مختصرا يسعه الوزن‏.‏ ‏(‏1/ 325‏)‏

 مطلب في طبقات الشعراء

اعلم‏:‏ أن البلغاء طبقاتهم العلية‏:‏

1- الجاهلية الأولون‏.‏

2- ثم المخضرمون‏.‏

3- ثم الإسلاميون‏.‏

4- ثم المولدون‏.‏

5- ثم المحدثون‏.‏

6- والعصريون‏.‏

فهذه الطبقات الست، ثلاث منها‏:‏ حازوا قصب السبق في حلبة الرهان، معرفة كلامهم فرض كفاية في الإسلام، لأنه يستدل به على الكلام العربي الذي تستنبط منه أحكام الحلال والحرام، وألحق به بعضهم ما بعده، كإثبات لطائف المعاني، دون الألفاظ المحكمة المباني، ‏(‏1/ 326‏)‏ ومن حققه لم يكن منه على ثقة‏.‏

وإن في الشعر دقائق، لم يكشف عنها الغطاء، منها‏:‏ أن أهل المعاني قالوا‏:‏ إن التعقيد المعنوي واللفظي ينافي الفصاحة‏.‏

فقال بعض المتأخرين‏:‏ إن الألفاظ كلها غير فصيحة، لما فيها من التعقيد المعنوي؛ وليس كما قال؛ لأن أبا هلال العسكري قال في ‏(‏كتاب الصناعتين‏)‏‏:‏ إنها فصيحة، وإن التعقيد إنما يكره إذا لم يقصد، فإن قصد فهو فصيح‏.‏

ومما يؤيده أن الإسنوي قال في كتابه ‏(‏طراز المحافل‏)‏‏:‏ إن من السنة أن يلقي الألغاز على من في مجلسه، لتشحيذ الأذهان؛ لما رواه البخاري، عن ابن عمر، من حديث النخلة‏.‏

قال أبو هلال‏:‏ ومنه نوع بديع، سميته‏:‏ شبه الإلغاز، وهو‏:‏ أن يوصف شيء بصفات تساق على نهج اللغز، ليس المقصود الإلغاز‏.‏ انتهى‏.‏

وإن معجزة كل نبي على وفق زمانه وقومه، ولما كان أشرف الخلق العرب، وأعظم ما عندهم الشجاعة، والفصاحة، والكرم، كان أعظم معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ القرآن المعجز، بفصاحته وبلاغته؛ ولما كان خاتم الرسل ولا نبي بعده، جعل له معجزة باقية إلى القيامة لا تزال تتلى، وجديدة على كثرة الترداد، لا تخلق ولا تبلى‏.‏

وبلغاء العرب في الشعر والخطب على ست طبقات‏:‏

1- الجاهلية الأولى‏:‏ من قوم عاد وقحطان‏.‏ ‏(‏1/ 327‏)‏

2- والمخضرمون‏:‏ وهم من أدرك الجاهلية والإسلام‏.‏

3- والإسلاميون‏.‏

4- والمولدون‏.‏

5- والمحدثون‏.‏

6- والمتأخرون‏:‏ ومن ألحق بهم من العصريين‏.‏

والثلاث الأول‏:‏ هم ما هم في البلاغة؛ والجزالة ومعرفة شعرهم رواية ودراية - عند فقهاء الإسلام - فرض كفاية؛ لأنه به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة، المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال والحرام؛ وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني، لا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ، وتركيب المعاني‏.‏

إذا عرفت هذا، فاعلم‏:‏ أن الطبقات الثلاث الأول، جمعوا أشعارهم في كتب كثيرة غير الدواوين‏:‏ ‏(‏كالحماسة‏)‏، و ‏(‏المفضليات‏)‏، و ‏(‏أشعار هذيل‏)‏، وغيرها من الكتب المفيدة‏.‏

ثم أورد‏:‏ الشهاب الخفاجي، بعد ذكر هذا، من نثرهم ونظمهم جملة صالحة، في كتابه ‏(‏ريحانة الألباء‏)‏، وذكر كلام المولدين، وبعض شعراء الجاهلية، ثم قال‏:‏ إن المتأخرين، وإن تأخر زمانهم عن المتقدمين، فقد زاحموهم بالرُّكب، وكادوا أن يرقوا إلى أعلى الرتب، لا سيما شعراء المغرب، فقد أتوا بمعان بديعة، وارتقوا إلى مرتبة رفيعة، كيزيد بن خالد الإشبيلي، له في وصف السفن معان لم يسبق إليها‏.‏

ومن شعرائهم‏:‏ ابن خفاجة‏.‏

وقال الأدباء‏:‏ بُدئ الشعر ‏(‏1/ 328‏)‏ بملك، وختم بملك؛ والأول‏:‏ امرؤ القيس، فإنه أول من هلهل الشعر، وهذبه، ونسج نسيبه، ورتبه؛ والثاني‏:‏ ابن المعتز، فإنه ممن أوتي جوامع الكلم‏:‏ نظما، ونثرا، وإنشاء، وشعرا‏.‏والعامة تقول‏:‏ كلام الملوك ملوك الكلام؛ وقيل‏:‏ أبو فراس، والأول‏:‏ أقرب إلى القياس‏.‏

ولما بلغ عبدَ الملك أن الحجّاج لا يراعي الشعراء، نقم ذلك عليه، وكتب إليه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله، عبد الملك، إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد‏:‏ فقد بلغني عنك أمر كذب فراستي فيك، وأخلف ظني بك، من إعراضك عن الشعر والشعراء، فكأنك لا تعرف فضيلة الشعر والشعراء، ومواقع سهامهم، أو ما علمت يا أخا ثقيف، أن بقاء الشعر بقاء الذكر، ونماء الفخر؛ وأن الشعر طراز الملك، وحلي الدولة، وعنوان النعم، وتمام المجد، ودلائل الكرم؛ وأنهم يحضون على الأفعال الجميلة، وينهون عن الأخلاق الذميمة؛ وأنهم سنوا سبل المكارم لطلابها، ودلو العفاة على أبوابها؛ وأن الإحسان إليهم كرم، والإعراض عنهم لؤم وندم؛ فاستدرك فرط تفريطك، وامح بصوابك وحي أغاليطك؛ والسلام‏.‏

وبهذا علمت وقع الشعراء عند الملوك، وأنه سبيل إلى المكارم مسلوك، وأن الشعراء قافلة تحمل الذكر الجميل، وأن بضائعهم نافقة عند الكرام، كاسدة عند اللئام؛ والسلطان سوق تجلب لها الرغائب، وتجُبى لها محامد تمتلئ بها الحقائب‏.‏ انتهى المقصود منه بالتخليص‏.‏ ‏(‏1/ 329‏)‏

 مطلب في مدح المنظوم من الكلام، والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام

روى الترمذي، عن جابر بن سمرة، قال‏:‏ جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة، وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت، وربما يتبسم معهم‏.‏

وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت‏:‏ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد، يقوم عليه قائما، يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏.‏

وروى مسلم، عن عائشة، قالت‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول‏:‏ هجاهم حسان فشفى واستشفى‏.‏

وقال السيوطي في ‏(‏الخصائص الكبرى‏)‏‏:‏ أخرج البيهقي، من طريق‏:‏ يعلى بن الأشدق قال‏:‏ سمعت النابغة - نابغة بني جعدة - يقول‏:‏ أنشدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر فأعجبه، فقال‏:‏ ‏(‏أجدت، لا يفضض الله فاك‏)‏، فلقد رأيته، ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة، وما ذهب له سن؛ ثم أخرجه‏:‏ البيهقي من وجه آخر عن‏:‏ النابغة؛ وأخرجه‏:‏ ابن أبي أسامة من وجه آخر عنه، وفيه‏:‏ فكان من أحسن الناس ثغرا، فكان إذا سقط له سن نبت له؛ وأخرجه‏:‏ ابن السكن من وجه آخر عنه، وفيه‏:‏ فرأيت أسنان النابغة أبيض من البَرَد، لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏.‏

وقال الشيخ‏:‏ محمد حياة السندي، المدني، في ‏(‏رسالة‏:‏ الأحاديث المسلسلة‏)‏، عن نابغة بني جعدة الشاعر‏:‏ لقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها‏:‏

بلغنا السماء السبع مجدا وسؤددا ** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال‏:‏ أين يا أبا ليلى‏؟‏ قلت‏:‏ إلى الجنة يا رسول الله، قال‏:‏ إلى الجنة - إن شاء الله تعالى -‏.‏

وقال كعب بن زهير - رضي الله عنه -‏:‏

جاء السخينة كي تُغالب ربها ** وليغلبنَّ مغالبَ الغُلاّبِ

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا‏)‏؛ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن الله لم ينس ذلك لك‏)‏‏.‏

وعقد البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ بابا مستقلا في الشعر، وقال‏:‏ ‏(‏باب اختياره - صلى الله عليه وسلم - الشعر‏)‏، وذكر حديثا طويلا عن جابر - رضي الله عنه -، وحاصل الحديث‏:‏ أنه جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال‏:‏ يا رسول الله، يريد أبي أن يأخذ مالي؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏ائت بأبيك عندي‏)‏؛ فلما جاء أبوه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏يقول ابنك أنت تأخذ ماله‏)‏، قال‏:‏ سله يا رسول الله، لا مصرف لماله إلا عماته وقراباته، أما أصرفه على نفسي وعيالي‏؟‏ فنزل جبريل - عليه السلام - وقال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، قال ‏(‏1/ 331‏)‏ هذا الشيخ في نفسه شعرا ما وصل إلى أذنه‏)‏؛ فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏هل قلت في نفسك شعرا‏؟‏‏)‏ فاعترف الشيخ، وقال‏:‏ لا يزال يزيدنا الله - تعالى - بك بصيرة ويقينا؛ وعرض سبعة أبيات نظمها في نفسه، وهي‏:‏

غذوتك مولودا وصُنتك يافعا ** تَعلُّ بما أجني عليك وتنهلُ

إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت ** لسقمك إلا ساهرا أتمل

مل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها ** لتعلم أن الموت حتم مُوكّلُ

كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طرقت به دوني فعيني تهمل

فلما بلغت السن والغاية التي ** أتتك مراما فيه كنت أؤمِّلُ

جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضِّلُ

فليتك إذ لم تَرْعَ حق أُبوَّتي ** فعلت كما الجار المجاور يفعل

قال جابر‏:‏ فبكى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم أخذ تلابيب ابنه وقال له‏:‏ ‏(‏اذهب، فأنت ومالك لأبيك‏)‏‏.‏ انتهى‏.‏

وقد ثبت‏:‏ تصرف الأب في مال الابن، قدر الضرورة، بهذا الحديث‏.‏

قال الشيخ‏:‏ بهاء الدين العاملي، في بعض مؤلفاته‏:‏ روي عن قيس بن عاصم، قال‏:‏ وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخلت عليه، وعنده الصلصال بن الدلهمس، فقلت‏:‏ يا نبي الله، عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم نغير في البرية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏يا قيس، إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء رقيبا، وعلى كل شيء حسيبا، وإن لكل أجل كتابا، وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وهو ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ثم لا تحشر إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لا تستوحش إلا منه، وهو فعلك‏)‏، فقال‏:‏ يا نبي الله، أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر، نفخر به على من يلينا من العرب وندخره؛ فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه بحسان، فاستبان لي القول قبل مجيء حسان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد، فقلت‏:‏

تخيَّرْ خليطا من فَعالك إنما ** قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ

ولا بد بعد الموت من أن تُعِدَّه ** ليوم ينادي المرء فيه فيُقبِل

فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن ** بغير الذي يرضى به الله تَشْغَلُ

فلن يصحب الإنسانَ من بعد موته ** ومن قبله إلا الذي كان يعمل

أقول‏:‏ روى البخاري، عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن من الشعر حكمة‏)‏؛ ولا يخفى على حكماء الكلام، والماهرين بسرائر الأقلام، أن بعض الشعر، وهو الذي كان محمودا شرعا، مندرج في مفهوم الحكمة؛ لأن مفهوم الشعر أخص من وجه من مفهوم الحكمة، والمقصود من هذا الكلام بيان فضيلة الشعر، فينبغي أن يقع الشعر مخبرا عنه، ويكون مقدما في الذكر‏.‏

وحق العبارة أن يقال‏:‏ بعض الشعر حكمة؛ ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن من الشعر حكمة‏)‏، فأبقى التقدم اللفظي على أصله، للاهتمام بشأن الشعر، وإفادة الحصر، وقلب الأسلوب المعنوي، وجعل الحكمة مخبرا عنه، للمبالغة في مدح الشعر، أي‏:‏ ماهية الحكمة بعض الشعر؛ فلزم أن يكون أفراد الحكمة بأسرها بعض الشعر، ومندرجة تحته؛ فإن اندراج الماهية مستلزم لاندراج جميع الأفراد‏.‏

وقصد - صلى الله عليه وسلم - من إفادة الحصر، بتقديم الخبر، وإيراد الكلام على أسلوب التأكيد مبالغة، فيكون معنى الكلام الأقدس‏:‏ إنما الحكمة بعض الشعر‏.‏

ولله لطف ما أودعه صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - كلامه‏!‏ وهو أن المبالغة لها مناسبة بالشعر؛ فراعى - صلى الله عليه وسلم - هذه المناسبة الشعرية، في كلام أورده في مدح الشعر، وأفاد سندا كاملا لجواز المبالغة، إذا اقتضت مصلحة دينية‏.‏

ومثله‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن من البيان لسحرا‏)‏‏.‏

قال الطيبي في ‏(‏تبيانه‏)‏‏:‏ من‏:‏ للتبعيض، والكلام فيه تشبيه، وحقه أن يقال‏:‏ إن بعض البيان كالسحر، فقلب وجعل الخبر مبتدأ، مبالغة في جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا؛ ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم‏.‏ انتهى‏.‏

يعني‏:‏ أن السحر له وجهان‏:‏ المدح، والذم؛ ووجه تشبيه البيان به هاهنا الأول‏.‏

قال المحقق الشريف في ‏(‏حواشي الكشاف‏)‏ عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين‏}‏‏:‏ فإن قيل‏:‏ لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس، أجيب‏:‏ بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية، فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس، ويتعجب منه؛ ورُدَّ‏:‏ بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتّى فيها مثل هذا الاعتبار، ولا يقصد منها إلا الإخبار، بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال‏}‏، فالأولى‏:‏ أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ، على معنى‏:‏ وبعض الناس، أو‏:‏ بعض منهم، من اتصف بما ذكر، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف؛ ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وروى ابن ماجة‏:‏ ‏(‏الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها‏)‏‏.‏

وقال صاحب ‏(‏كفاية الحاجة، في شرح سنن ابن ماجة‏)‏‏:‏ قوله‏:‏ ضالة المؤمن، أي‏:‏ مطلوبة له أشد ما يتصور من الطلب؛ فاللائق بحال المؤمن أن يطلبها كما يطلب المرء ضالته؛ فهذا الكلام بطريق الإرشاد والتعليم، لا الإخبار؛ إذ كم من مؤمن ليس له طلب أصلا‏؟‏ أو بطريق الإخبار، بحمل المؤمن على الكامل قوله‏:‏ ‏(‏حيثما وجدها‏)‏، أي‏:‏ ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى المقول لا القائل؛ وهذا كما قيل‏:‏ انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏(‏الكلمة الحكمة‏)‏‏:‏ شاملة للنظم والنثر، لعموم اللفظ؛ ويؤيد الأول‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن من الشعر حكمة‏)‏‏.‏

ومن العجائب أن الكلمة تطلق على القصيدة، كما قال الجوهري، وغيره؛ وإذا تمهد هذا فأقول‏:‏ لو قطع النظر عن المبالغة في الحديث، وأخذ أصل المعنى، أعني‏:‏ بعض الشعر حكمة، يحصل من انضمامه بالحديث الثاني الشكل الأول من الأشكال المنطقية، أعني‏:‏ بعض الشعر كلمة، والكلمة الحكمة ضالة المؤمن؛ فبعض الشعر ضالة المؤمن، وإنما زدتُ لفظ ‏(‏الكلمة‏)‏ في الصغرى، لأن الشعر حكمة قولية‏.‏

وقد ثبت بهذه النتيجة الصحيحة‏:‏ طلب النتائج من الشعراء التي تكون موافقة بالشريعة الغرَّاء؛ والدليل القاطع، والبرهان الساطع، على إثبات النتيجة ما رواه مسلم، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال‏:‏ ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما، فقال‏:‏ ‏(‏هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏هيه‏)‏، فأنشدته بيتا، فقال‏:‏ ‏(‏هيه‏)‏، ثم أنشدته بيتا، فقال‏:‏ ‏(‏هيه‏)‏، حتى أنشدته مائة بيت‏.‏

ويستفاد من هذا الحديث‏:‏ طلب الشعر المحمود الذي هو نتيجة الشكل، واستحباب الزيادة في الطلب، واستحباب الإنشاد، واستحباب الطلب حيثما وجد، فإن أمية بن أبي الصلت مات كافرا‏.‏

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيه‏:‏ ‏(‏آمن لسانه، وكفر قلبه‏)‏‏.‏

وتحقق من هاهنا أن من طلب ‏(‏1/ 336‏)‏ الشعر المحمود، أتى بالعمل المستحب؛ ومن أنكر تركه‏.‏

كيف لا‏؟‏ وقد روى الترمذي، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة يمشي بين يديه، وهو يقول‏:‏

خلّوا بني الكفار عن سبيله ** اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يُزيل الهامَ عن مقيله ** ويذهل الخليلَ عن خليله

فقال له عمر‏:‏ يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول شعرا‏؟‏‏!‏ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏خَلِّ عنه يا عمر، فهي أسرع فيهم من نضح النبل‏)‏‏.‏

وروى البخاري، عن سعيد بن المسيّب قال‏:‏ ‏(‏مر عمر في المسجد، وحسان ينشد، فأنكر عليه عمر، فقال‏:‏ كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك؛ ثم التفت إلى أبي هريرة فقال‏:‏ أنشدك بالله، أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول‏:‏ أجب عني، اللهم أيده بروح القدس‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏؛ وفيه منع الإنكار عن الشعر، وجواز الإنشاد في المسجد‏.‏

قال القسطلاني‏:‏ هذه المقالة منه - صلى الله عليه وسلم - دالة على‏:‏ أن للشعر حقا يتأهل صاحبه لأن يؤيد في النطق به بجبرائيل - عليه السلام -، وما هذا شأنه يجوز قوله في المسجد قطعا‏.‏

وروي عن ابن سيرين، أنه أُنشد شعرا، فقال له بعض جلسائه‏:‏ مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ويلك يا لُكَع‏!‏ وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي‏؟‏ فحسنه حسن، وقبيحه قبيح‏.‏

و روى الدار قطني، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت‏:‏ ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏هو كلام‏:‏ حسنه حسن، وقبيحه قبيح‏)‏‏.‏

والمقصد‏:‏ أن الشعر ليس في نفسه مذموما، بل الحُسْن والقبح راجعان إلى المفهوم، فالمفهوم إذا كان قبيحا، فالمنثور والمنظوم من القول سواء؛ ومعنى القبيح‏:‏ أن يكون فيه فحش، أو أذى لمسلم، أو كذب؛ والكذب الممنوع في الشعر ما كان مضرا بأمر ديني، لا الكذب الذي أُتي به لتحسين الشعر فقط، فإنه مأذون فيه، وإن استغرق الحد، وتجاوز المعتاد‏.‏

ألا ترى قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه -‏؟‏ فإنه تغزل فيها بسعاد، وأتى من الإغراقات والاستعارات والتشبيهات بكل بديع، لا سيما تشبيه الرضاب بالشراب، في قوله‏:‏

تجلو عوارضَ ذا ظَلْم إذا ابتسمت ** كأنها منهل بالراح معلول

والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه وما أنكر؛ بل صارت هذه القصيدة أحسن الوسائل إلى الشفاعة، وأوثق الذرائع إلى الإغماض عن الشناعة؛ وفازت بحسن القبول من جنابه، وجازى قائلها بعطية من جلبابه؛ ولله در أبي إسحاق الغزي حيث قال‏:‏

جحود فضيلة الشعراء غَيٌ ** وتفخيم المديح من الرشاد

محت بانت سعاد ذنوب كعب ** وأعلت كعبه في كل نادي

وما افتقر النبي إلى قصيد ** مشببة بِبَيْنٍ من سعاد

ولكن منّ إسداء الأيادي ** وكان إلى المكارم خير هاد

وقد قالوا‏:‏ فضل هذه القصيدة على القصائد الأخر الموشحة بمدحه - صلى الله عليه وسلم -، كفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم؛ هذا وقد شبه واصفه - صلى الله عليه وسلم - عنقه المقدس بجيد دمية، وما أنكره أحد من السلف والخلف‏.‏

وقال القفال، والصيدلاني قولا صدقا، وهو‏:‏ أن الشعر كذبه ليس بكذب، لأن قصد الكاذب‏:‏ تحقيق قوله، وقصد الشاعر‏:‏ تحسين كلامه فقط‏.‏

وبما حررناه ثبت جواز التخييلات الكلامية، والتوسع في المضامير الأقلامية؛ وتحقق أن الإنكار من الشعر المحمود، هو بترك المستحب، وأن لا تسمع لومة لائم في ما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكبار الصحابة، والتابعون، وأهل العلم، وموضع القدوة - رضي الله عنهم -‏.‏

وقد ورد النهي عن سب الشعراء؛ روى البخاري، عن عروة بن الزبير، قال‏:‏ ذهبت أسب حسانا عند عائشة، فقالت‏:‏ لا تسبه، فإنه كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -‏.‏

ولا شك أن من أنشأ أو أنشد الشعر المحمود، فهو تلو للمنافحين، حيث يريح المؤمنين بالحكم اليمانية، ويدافع عنهم ما يملهم من العوارض النفسانية؛ ويعضده ما روي عن ابن عباس‏:‏ أنه كان إذا فرغ من درس التفسير والحديث يقول لتلامذته‏:‏ أحمضوا، ويأمرهم بالأخذ في ملح الكلام، خوفا عليهم من الملال‏.‏

والإحماض‏:‏ أصله من‏:‏ الحَمْض، وهو‏:‏ ما ملح ومرّ من النبات، ومقابله‏:‏ الخلّة، وهو‏:‏ ما كان حلوا؛ تقول العرب‏:‏ ‏(‏الخلة‏:‏ خبز الإبل، والحمض‏:‏ فاكهتها‏)‏؛ لأنها إذا ملت من الخلة مالت إلى الحمض؛ ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهددا‏:‏ أنت مختل فتحمّض‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏، فهو في الشعراء المشركين؛ ويستفاد من الآية‏:‏ أن علة الذم‏:‏ الهيمان في كل واد من الكذب والباطل، وبهذا الاعتبار الشعر مذموم، وكل ما ورد من ذمه في القرآن والحديث فهو راجع إلى هذا الاعتبار؛ وهو ممدوح باعتبار اشتماله على الحكم؛ ولذا ميز الله - سبحانه - الشعراء المؤمنين عن هؤلاء المشركين بالاستثناء، وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إن من الشعر حكمة‏)‏‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له‏}‏، فهو رد على الكفار القائلين‏:‏ بأنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر‏.‏

ولا يخفى أن القرآن ليس من جنس الشعر، ولا يقول به من له أدنى تمييز، لأن الشعر يكون مقفى موزونا، وليس القرآن كذلك‏.‏

ويمكن أن يكون قولهم مبينا على‏:‏ أن الشاعر يراعي الوزن والقافية في الكلام؛ فالذي يكون قادرا على الشعر، سهل له أن ينشئ الكلام بلا مراعاة الوزن والقافية، فما يأتي به هو ناشئ عن سليقته، لا كما يدعي أنه منزَّل من السماء؛ فرد الله - سبحانه - عليهم، وقال‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر‏}‏، لأن أكثره خيالات لا حقيقة لها، وتغزلات بالنساء والأمارد، وافتخارات باطلة، ومدائح من لا يستحق، إلى غير ذلك‏.‏

والقرآن ليس على هذا الأسلوب، ثم أيده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينبغي له‏}‏ أي‏:‏ لا يليق بشأنه؛ لأن الشعر قلما يخلو عن الأمور المذكورة، وقد امتحنتموه - صلى الله عليه ‏(‏1/ 340‏)‏ وسلم - نحوا من أربعين سنة، فما وجدتم من أقواله، وأفعاله، وأحواله، ما يناسب شيئا منها‏.‏

ولا يخفى أن في قوله - تعالى -‏:‏ ‏{‏وما ينبغي له‏}‏ إشعارا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قادرا على الشعر، ولم يقله؛ بناء على أنه ما كان ينبغي له؛ فإنه - سبحانه - نفى الانبغاء دون القدرة عليه؛ ثم أيده بقوله - تعالى -‏:‏ ‏{‏إن هو إلا ذكر وقرآن مبين‏}‏، أي‏:‏ كتاب سماوي، ظاهر أنه ليس من كلام البشر، لما فيه من الإعجاز‏.‏

وقد تبين من هذا‏:‏ أن في الآية تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يملي القرآن بسليقته، كما هو شأن الشعراء، حيث يملون الكلام الموزون بسلائقهم؛ وإذا أمعنت النظر لا تجد فيه ذما للشعر، بل تجد مدحا عظيما‏.‏

وليت شعري، أي شيء يستدعي إلى ذم الشعر مطلقا‏؟‏ فإن الحُسْن والقبح راجعان إلى المعنى - كما تقدم -؛ وإذا كان المعنى حسنا، فالمنظوم أزيد حسنا وجمالا من المنثور، وأنفع للمتكلم في ما قصده من إيقاع المعاني في نفس المخاطب، وللمخاطب في التوجه إليه بالرغبة‏.‏

ولقد أجاد البوصيري حيث قال‏:‏

فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ** وليس ينقص قدرا غير منتظم

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بقول طرفة، وهو‏:‏

*ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ

ويقول‏:‏ ‏(‏أصدق كلمة قالها الشاعر‏:‏ كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ماخلا اللهَ باطلُ *

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها - ‏(‏1/ 341‏)‏‏:‏ ‏(‏أهديتم الفتاة إلى بعلها‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فبعثتم معها من يغني‏؟‏ قالت‏:‏ ولم نفعل‏؟‏ قال‏:‏ أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل‏؟‏ ألا بعثتم معها من يقول‏:‏

أتيناكم أتيناكم ** فحيونا نحييكم

ولولا الحنطة السمرا * ءُ لم نحلُلْ بواديكم

وقد ورد في الصحيح، أنه قال - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق‏:‏

‏(‏بسم الله وبه هُدينا ** ولو عبدنا غيره شقينا

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا

فأنزلن سكينة علينا ** وثبِّت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا‏)‏

ويرفع صوته‏:‏ ‏(‏أبينا أبينا‏)‏، بالموحدة؛ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أتينا‏)‏، بالمثناة الفوقية‏.‏

واختلف العلماء في صدور الشعر منه - صلى الله عليه وسلم -؛ ونقل المثبتون أشياء، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يبني مسجده - صلى الله عليه وسلم -‏:‏

‏(‏هذا الحمال لا حمال خيبرْ ** هذا أبر ربنا وأطهرْ‏)‏

وكان الزهري يقول‏:‏ لم يقل - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الشعر إلا قد قيل قبله، إلا هذا‏.‏

وقد ألف السيد‏:‏ محمد البرزنجي، المدني، رسالة ‏(‏1/ 342‏)‏ في إثبات الكتابة والقراءة والشعر له - صلى الله عليه وسلم -، يقول فيها‏:‏ لا شك أن الشعر إذا كان حكمة أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن من الشعر لحكمة‏)‏ كمال؛ ولا ينبغي أن يخلو - صلى الله عليه وسلم - عن كمال ما، لأنه نسخة الكاملة الجامعة لجميع صفات الكمالات الإنسانية، بل والملكية؛ وإيقاع النفس؛ والتهمة بالنظر إلى القرآن، إنما يرد بالنسبة إلى ما قبل نزول الوحي، وثبوت النبوة؛ أما بعده‏:‏ فلا كما قيل في الكتابة والقراءة‏.‏

وكل ما صدر عنه من النطق بالشعر، فإنما هو بعد النبوة، ولم يقل أحد قط أنه - صلى الله عليه وسلم - ينظم الشعر، أو يرويه، أو يجالس الشعراء قبلها؛ وأما بعد النبوة‏:‏ فقد نطق به، ورواه، واستنشده الصحابة، وأُنشدت القصائد بحضرته، وأصلح من كلا مهم، كما أصلح من قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - قوله‏:‏

من سيوف الهند‏.‏‏.‏‏.‏وأبدله بـ‏:‏ سيوف الله‏.‏‏.‏‏.‏

فلا إخلال بنبوته، ولا تهمة في معجزته؛ بل هو معجزة أخرى، وكمال آخر؛ فلا مانع من تجويزه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وتمام البيت الذي أصلحه - صلى الله عليه وسلم - هكذا‏:‏

إن الرسول لنور يستضاء به ** مهنَّد من سيوف الله مسلولُ

أقول‏:‏ لعل وجه إصلاحه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقع ‏(‏1/ 343‏)‏ لفظ مستدرك في الكلام؛ فإن المهند - على ما قال الجوهري -‏:‏ السيف المطبوع من حديد الهند‏.‏

هذا ما سنح لي في فضيلة الشعر المحمود، وشرف هذا الكوكب المسعود‏.‏

ثم أول من قدر جواهر المنطق بالميزان، ونظم اللآلي الخاصة بخزينة الإنسان، صفي الله‏:‏ آدم - عليه السلام -؛ فالشعر المتولد منه آدَمُ الأشعار، والجد الأعلى لنتائج الأفكار؛ وأسنده ابن الأثير وغيره من الجم الغفير إلى آدم - عليه السلام -؛ وأنكر جمع كثير من المحققين‏.‏

وقال آخرون‏:‏ رثى آدم هابيل بالسريانية، فلما وصل إلى يعرب بن قحطان ترجمها بالعربية‏.‏

واختلف في قضية هابيل، أين وقعت‏؟‏ فمنهم من ذهب إلى أنها وقعت بالهند، على جبل نود، الذي نزل عليه آدم - عليه السلام - السماء؛ وقيل‏:‏ بمكة؛ ثم الروايات تعاضدت في‏:‏ أن آدم نزل بالهند من السماء، وتوطن بعد ذلك بهذه‏.‏ الغبراء‏.‏

وقد فصلته في رسالتي‏:‏ ‏(‏شمامة العنبر، فيما ورد في الهند من سيد البشر‏)‏‏.‏

وقد توارث أولاد آدم الشاعرية، منهم من سكن الهند‏.‏

ولما أظلت ألوية الإسلام على هذا السواد، وألقى الإسلاميون رحالهم في هذه البلاد، وتكلموا بلسانها، وترنموا بألحانها، وسمعوا كلام مصاقعها، وعرفوا بيان سواجعها، وقفوا على أنهم بذلوا غاية الجهد في إبداع المعاني، وصرفوا هممهم إلى أقصى حدود الطاقة البشرية في تأسيس المباني‏.‏

ثم اعلم‏:‏ أن الجَوَلان في سوح الأدب، حق للأئمة الفصحاء من العرب، ‏(‏1/ 344‏)‏ فإنهم صعدوا في قمم أطواده، وبلغوا قصارى أنجاده‏.‏

ولعمري إن أزهار الفصاحة باسمة بنسائمهم، وأرجاء البلاغة فائحة بشمائمهم؛ جزاهم الله عنا أوفى الأجزية، وذكرهم في مجامع القدس بأحسن الأثنية‏.‏

ولما ألَّف الإسلام بين الأمم، ووقعت مخالطة العرب والعجم، وجلس الخلفاء في بغداد، وأمتهم الخلائق من شواسع البلاد، اكتسب العجم فن الفصاحة من العرب العرباء، وتجاوبوا على سننهم في هذه الدوحة العلياء، لا سيما من كان قريبا من دار الخلافة، وجارا متصلا بمركز الشرافة؛ كما تشهد به ‏(‏يتيمة الدهر‏)‏ للثعالبي، و ‏(‏دمية القصر‏)‏ للباخرزي، وغيرهما‏.‏

وأما الهند‏:‏ ففتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد‏:‏ محمد بن قاسم الثقفي، سنة اثنتين وتسعين الهجرية؛ وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج، سنة خمس وتسعين؛ وبعدما عاد، عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم، وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند‏.‏

وفي عهد العباسية، كان أبو حفص، ربيع بن صبيح السعدي، البصري، من أتباع التابعين، وأعيان المحدثين بالسند، وهو أول من صنف في الإسلام؛ قال صاحب ‏(‏المغني‏)‏‏:‏ مات بأرض السند، سنة ستين ومائة؛ وقصد السلطان‏:‏ محمود الغزنوي، أواخر المائة الرابعة - غزو الهند -، وأتى مرارا، وغلب، وأخذ الغنائم، وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من القادر بالله بن المقتدر العباسي؛ ولكن السلطان‏:‏ محمود ما أقام بمملكة الهند؛ وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور؛ حتى استولى السلطان‏:‏ معز الدين، سام الغوري، على غزنين، وأتى لاهور، وقبض على خسرو ملك خَتْم الملوك الغزنوية، وضبط الهند، وجعل دهلي دار الملك، سنة تسع وثمانين ‏(‏1/ 345‏)‏ وخمسمائة؛ ومن هذا التاريخ إلى الآن ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية‏.‏

ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد، وطلعت شموسه على الأغوار والأنجاد، ظهر جمع من الأدباء الإسلامية، ونثروا على بسط الأزمنة لآلئ من السحب الأقلامية؛ وليست كتب القوم حاضرة عندي في حال التحرير، حتى أجلوا عرائس تراجمهم على منصة التقرير‏.‏ انتهى المراد من ‏(‏تسلية الفؤاد‏)‏‏.‏

ومن أدباء الهند‏:‏ القاضي‏:‏ عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي، الكندي، الدهلوي؛ المتوفى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة؛ له قصيدة لامية مشهورة، مطلعها‏:‏

يا سائق الظعن في الأسحار والأُصُلِ ** سلّمْ على دار سلمى وابكِ ثم سَلِ

ومنهم‏:‏ الشيخ‏:‏ أحمد التهانيسري؛ وله - رحمه الله تعالى - قصيدة دالية، مطلعها‏:‏

أطار لبي حنينُ الطائر الغرد ** وهاج لوعة قلبي التائهِ الكمدِ

ومنهم‏:‏ السيد، غلام‏:‏ علي بن السيد‏:‏ نوح البلكرامي، المتخلص‏:‏ بآزاد؛ له‏:‏ سبعة دواوين، والقصيدة‏:‏ في وصف أعضاء المعشوقة من الرأس إلى ‏(‏1/ 346‏)‏ القدم، سماها‏:‏ ‏(‏مرآة الجمال‏)‏، وشرحها شرحا لطيفا، منها‏:‏ ديوان مردف، وديوان مستزاد، وديوان مرجع‏.‏

والترجيع‏:‏ نوع من الشعر، أنشأه في نهاية الرقة، ولم ينظم الترجيع العربي قبله أحد من الشعراء، وسمى الدواوين السبعة‏:‏ ‏(‏بالسبعة السيارة‏)‏، ونظم الدفاتر السبعة المسماة بـ‏:‏ ‏(‏مظهر البركات‏)‏ مزدوجة في بحر الخفيف، في غاية السلاسة والعذوبة، ولم ينظم أحد قبله مزدوجة عربية في هذا البحر، ولم يتفق لأحد من شعراء العرب والمقلدين لهم من شعراء العجم مزدوجة على هذه الكيفية؛ ونظم الدفتر السابع، في سنة 1193 هـ، ومات - رحمه الله - في سنة 1200 الهجرية؛ وله تصانيف كثيرة في العربية والفارسية، كما سيأتي تفصيلها في ترجمته - إن شاء الله تعالى -‏.‏

وجملة أشعاره المنظومة في المذكورات‏:‏ أحد عشر ألفا؛ وما سُمع قط من أهل الهند من يكون له ديوان عربي، أو شعر عربي، على هذه الحالة؛ وهو‏:‏ ‏(‏حسَّان الهند‏)‏؛ مدح - النبي صلى الله عليه وسلم - في دواوينه وقصائده، وأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة، لم يتيسر مثلها لأحد من الشعراء المفلقين؛ وأبدع فيها مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين؛ وله في التغزل طور خاص، قلما يوجد في كلام غيره، يعرفه أصحاب الفن‏.‏

ومنهم‏:‏ الشيخ، الأجل، مسند الوقت، الشاه‏:‏ ولي الله المحدث الدهلوي؛ وله‏:‏ قصائد حسنة، وكلمات غراء في مدحه - صلى الله عليه وسلم -‏.‏ ‏(‏1/ 347‏)‏

ومنهم‏:‏ الشيخ‏:‏ عبد العزيز؛ والشيخ‏:‏ رفيع الدين؛ والشيخ‏:‏ محمد إسماعيل، الدهلويون - رحمهم الله تعالى -؛ ولهم‏:‏ منثور ومنظوم لطيف بليغ‏.‏

ومنهم‏:‏ الشيخ، الأديب‏:‏ أوحد الدين البلكرامي - رحمه الله -؛ رأيت له نثرا فصيحا، ونظما بليغا، وتقاريظ كثيرة على كتب عديدة‏.‏

ومنهم‏:‏ الشيخ، الكامل‏:‏ فضل حق الخير آبادي، وكم له من قصائد وأشعار عارض بها الحريري والبديع، وأتى فيها بكل لفظ لطيف، ومعنى بديع‏!‏ لولا أنه أكثر فيها من التجنيس، والاشتقاق، والألفاظ الحوشية، بلا خلاف‏.‏

ومنهم‏:‏ السميدع، الفاضل، المولوي‏:‏ علي عباس الجرياكوثي - حماه الله تعالى -، له‏:‏ ‏(‏ديوان الشعر‏)‏، ومكاتيب، وتقاريظ‏.‏

ومنهم‏:‏ الشيخ، الفاضل‏:‏ فيض الحسن السهارنبوري - سلمه الله تعالى -؛ وله قصائد بليغة، وأشعار لطيفة، لم يتفق مثلها لمعاصريه؛ ولهذين الأخيرين كتابة إلينا، ونظم في مدح كتبنا، قد طبع بعضها‏.‏

ومنهم‏:‏ أخي، من أبي وأمي، السيد، السند‏:‏ أحمد حسن القنوجي، المتخلص‏:‏ بالعرشي، وبعض قصائده يربو على كلام الأساتذة، لا سيما الفارسية منها‏.‏

وأما هذا الفقير، ليس من هذا العلم في وِرْد ولا صدر، ولا نخل بواديه ولا سدر، وهذا الذي نراه من آثاره الباقية في العربية والفارسية، وما ذكره في ‏(‏الإتحاف‏)‏ له، فإنما هو طلٌّ من وابل هؤلاء الأدباء، وفيض من ساحل أولئك الكملاء النبلاء، فإنه قد صرف برهة من الزمان، ‏(‏1/ 348‏)‏ في تتبع قالهم وقيلهم، واتبع آثارهم في ذلك، ومشى على سبيلهم، ولنعم ما قيل‏:‏

فهذا الشذا آثار رفقته معي ** ولست بورد إنما أنا تربه

ثم اعلم‏:‏ أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان ثمرته، وهي‏:‏ الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب العرباء، ومناحي الأدباء القدماء؛ فيجمعون لذلك من حِفْظِ كلام العرب، ما عساه تحصل به الملكة‏:‏ من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها؛ وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة‏.‏

والمقصود بذلك كله‏:‏ أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب، وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه؛ لأنه لا تحصل الملكة من حفظه، إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه‏.‏

ثم إنهم إذا حَدُّوا هذا الفن قالوا‏:‏ هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف؛ يريدون‏:‏ من علوم اللسان، أو العلوم الشرعية، من حيث متونها فقط، وهي‏:‏ القرآن، والحديث؛ إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم، إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كَلَفِهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم، وترسلهم ‏(‏1/ 349‏)‏ بالاصطلاحات العلمية؛ فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفتها، ليكون قائما على فهمها‏.‏

وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم‏:‏ أن أصول هذا الفن وأركانه‏:‏ أربعة دواوين، وهي‏:‏ ‏(‏أدب الكاتب‏)‏ لابن قتيبة؛ وكتاب‏:‏ ‏(‏الكامل‏)‏ للمبرد؛ وكتاب‏:‏ ‏(‏البيان والتبيين‏)‏ للجاحظ؛ وكتاب‏:‏ ‏(‏النوادر‏)‏ لأبي علي القالي البغدادي؛ وما سوى هذه الأربعة فتبع لها، وفروع عنها، وكتب المحدثين في ذلك كثيرة‏.‏

وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر؛ إذ الغناء إنما هو تلحينه؛ وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية، يأخذون أنفسهم به، حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة‏.‏

وقد ألف القاضي‏:‏ أبو الفرج الأصبهاني - وهو ما هو - كتابه في ‏(‏الأغاني‏)‏، جمع فيه‏:‏ أخبار العرب، وأشعارهم، وأنسابهم، وأيامهم، ودولهم؛ وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه؛ ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من‏:‏ فنون الشعر، والتاريخ، والغناء، وسائر الأحوال؛ ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه؛ وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنَّى له بها، - والله الهادي للصواب -‏.‏

هذا آخر ما نقلناه من كتاب ‏(‏عنوان العبر، وديوان المبتدأ والخبر‏)‏؛ وقد نقله أيضا صاحب ‏(‏كشف الظنون‏)‏، لكن بالتلخيص المخل، والاختصار الممل، فلم أعتمد عليه؛ وأخذت من حيث أخذ، مع زيادات زدناها في ‏(‏1/350‏)‏ مواضع شتى من كتب أخرى، حرصا على الجمع، وطمعا في تمام الفائدة‏.‏

ولا غرو إن كان قد وقع بعض تكرار، في غير موضع من هذه المطالب، بوجوه تظهر عليك عند التأمل فيما لديك؛ - وبالله التوفيق -‏.‏ ‏(‏1/ 351‏)‏

مطلب‏:‏ في تعيين العلم الذي هو‏:‏ فرض عين على كل مكلف، أعني‏:‏ الذي يتضمنه قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏طلب العلم‏:‏ فريضة على كل مسلم‏)‏

اعلم‏:‏ أن للعلماء اختلافا عظيما في تعيين ذلك العلم، وهو أكثر من عشرين قولا، وحاصله‏:‏ أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده‏.‏

قال المفسرون والمحدثون‏:‏ هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى سائر العلوم، وهو الحق الذي لا محيد عنه، ولا مصير إلا إليه، وعليه جمهور المحققين من السلف والخلف، بلا خلاف بينهم‏.‏

وقال الفقهاء‏:‏ هو العلم بالحلال والحرام، ويسمى‏:‏ بعلم الفقه؛ وهذا يندرج في الأول - كما هو الظاهر -‏.‏

وقال المتكلمون‏:‏ هو العلم الذي يدرك به التوحيد الذي هو أساس الشريعة، ويسمى‏:‏ بعلم الكلام؛ وهذا أيضا داخل في الأول، لأن مسائل التوحيد مبينة فيهما بيانا شافيا، وليس وراء بيان الله ورسوله بيان‏.‏

وأما الكلام الذي اختص به المتكلمون، وخلطوا فيه المنطق والفلسفة، فليس هو من هذا الباب‏.‏

وقال الصوفية‏:‏ هو علم القلب ومعرفة الخواطر، لأن النية التي هي شرط الأعمال، لا تصح إلا بها، وهذا شعبة من شعب السنة المطهرة، فإن العلم بها عالم به على الوجه الأتم الأكمل‏.‏ ‏(‏1/ 352‏)‏

وقال أهل الحق‏:‏ هو علم المكاشفة، ولا وجه للتخصيص به، ولم يدل عليه نص ولا برهان‏.‏

وقيل‏:‏ إنه العلم الذي يشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، لأنه الفرض على عامة المسلمين، وهو اختيار الشيخ‏:‏ أبي طالب أكملي‏.‏

وزاد عليه بعضهم‏:‏ أن وجوب المباني الخمسة إنما هو بقدر الحاجة، مثلا‏:‏ من بلغ ضحوة النهار، يجب عليه أن يعرف الله - سبحانه وتعالى - بصفاته استدلالا، وأن يتكلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما؛ وإن عاش إلى وقت الظهر، يجب عليه أن يتكلم أحكام الطهارة والصلاة؛ وإن عاش إلى رمضان، يجب أن يتكلم أحكام الصوم؛ وإن ملك مالا، يجب أن يتعلم كيفية الزكاة؛ وإن حصل له استطاعة الحج، يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه‏.‏

هذه هي المذاهب المشهورة في هذا الباب؛ والأول‏:‏ أولاها، فإن هذه كلها تدخل فيه، ولا تخرج عنه، حتى يحتاج إليه‏.‏

وزاد في ‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏‏:‏ قال بعضهم‏:‏ هو علم العبد بحاله ومقامه من الله - تعالى -‏.‏

وقيل‏:‏ بل هو العلم بالإخلاص، وآفات النفوس‏.‏

وقيل‏:‏ بل هو علم الباطن‏.‏

وقال المتصوفة‏:‏ هو علم التصوف‏.‏

وقيل‏:‏ هو العلم بما اشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، وتقدم‏.‏

والذي ينبغي أن يقطع ما هو مراد به‏:‏ هو علم بما كلف الله - تعالى - به عباده من‏:‏ الأحكام الاعتقادية، والعملية؛ كذا في ‏(‏الإحياء‏)‏ للغزالي، وأطال في بيان ذلك‏.‏

وقال في ‏(‏السراجية‏)‏‏:‏ طلب العلم فريضة، بقدر ما يحتاج إليه، لأمر لا بد منه من‏:‏ أحكام الوضوء، والصلاة، وسائر الشرائع، ولأمور معاشه، وما وراء ذلك، ليس بفرض، فإن تعلمها فهو الأفضل، وإن تركها فلا إثم عليه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا بيان علم فرض العين؛ وأما فرض الكفاية‏:‏ فقد ذكر في ‏(‏منتخب الإحياء‏)‏‏:‏ أن علم الطب في تصحيح الأبدان من فروض الكفاية؛ لكن في ‏(‏السراجية‏)‏‏:‏ يستحب أن يتعلم الرجل من الطب قدر ما يمتنع به عما يضر بدنه، وكذا من فروض الكفاية‏:‏ علم الحساب في الوصايا والمواريث، وكذا الفلاحة، والحياكة، والحجامة، والسياسة؛ أما التعمق في الطب فليس بواجب، وإن كان فيه زيادة قوة، على قدر الكفاية‏.‏

فهذه العلوم كالفروع، فإن الأصل هو‏:‏ العلم بكتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الأئمة، وآثار الصحابة، والتعلم بعلم اللغة التي هي‏:‏ آلة لتحصيل العلم بالشرعيات، وكذا العلم بالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، مما في‏:‏ علم الفقه، وعلم القراءة، ومخارج الحروف، والعلم بالأخبار وتفاصيلها، والآثار، وأسامي رجالها ورواتها، ومعرفة المسند، والمرسل، والقوي والضعيف منها، كلها‏:‏ من فروض الكفاية، وكذا معرفة الأحكام لقطع الخصومات وسياسة الولاة‏.‏

وهذه العلوم إنما تتعلق بالآخرة، لأنها سبب استقامة الدنيا، وفي استقامتِها استقامتُها؛ فكان هذا علم الدنيا بواسطة صلاح الدنيا، بخلاف علم الأصول‏:‏ من التوحيد، وصفات الباري؛ وهكذا علم الفتوى من فروض الكفاية‏.‏

أما العلم بالعبادات والطاعات، ومعرفة الحلال والحرام، فإن أصل فوق العلم بالغرامات والحدود والحيل؛ وأما علم المعاملة‏:‏ فهو على المؤمن المتقي كالزهد، والتقوى، والرضاء، والشكر، والخوف، والمنة لله - تعالى - في جميع أحواله، والإحسان، وحسن الظن، وحسن الخلق، والإخلاص، فهذه علوم نافعة أيضا‏.‏

وأما علم المكاشفة‏:‏ فلا يحصل بالتعليم والتعلم، وإنما يحصل بالمجاهدة التي جعلها الله - تعالى - مقدمة للهداية؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏}

وأما علم الكلام‏:‏ فالسلف لم يشتغلوا به، حتى إن من اشتغل به نسب إلى‏:‏ البدعة، والاشتغال بما لا يعنيه‏.‏

هذا كله خلاصة ما في ‏(‏التاتارخانية‏)‏؛ وألحق الغزالي الفقه والفقهاء بعلم الدنيا وعلمائها، قال‏:‏ ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين، ولكن لا بنفسه، بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ثم سوّى بين الفقه والطب، إذ الطب أيضا يتعلق بالدنيا، وهو صحة الجسد، لكن قال‏:‏ إن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه، ثم ذكرها، وأطال في بيان علم المكاشفة، ‏(‏1/ 355‏)‏ وعلم المعاملة، ثم ذكر الفلسفة وقال‏:‏ إنها ليست علما برأسها، بل هي أربعة أجزاء‏:‏ أما الهندسة، والحساب‏:‏ فهما مباحان؛ وأما المنطق، والطبيعيات‏:‏ فبعضها‏:‏ مخالف للشرع والدين الحق، فهو جهل وليس بعلم؛ وبعضها ليس كذلك؛ وأطال الكلام في تفصيله‏.‏

وقال في خزانة الرواية في ‏(‏السراجية‏)‏‏:‏ تعلُّمُ الكلام، والمناظرة فيه، قدر ما يحتاج إليه‏:‏ غير منهي؛ قال الشيخ‏:‏ شهاب الدين السهروردي في ‏(‏أعلام الهدى‏)‏‏:‏ إن عدم الاشتغال بعلم الكلام، إنما هو في زمان قرب العهد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، الذين كانوا مستغنين عن ذلك، بسبب بركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزول الوحي، وقلة الوقائع والفتن بين المسلمين؛ وصرح به السيد الشريف؛ والعلامة التفتازاني؛ وغيرهما من المحققين المشهورين بالعدالة‏:‏ أن الاشتغال بالكلام في زماننا من فرائض الكفاية؛ وقال التفتازاني‏:‏ إنما المنع لقاصر النظر، والمتعصب في الدين‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا ذكر العلوم المحمودة؛ وأما العلم المباح‏:‏ فمنه‏:‏ العلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار، وما يجري مجراها، وأما المذمومة‏:‏ ففي ‏(‏التاتارخانية‏)‏‏:‏ وأما علم السحر، والنيرنجات، والطِّلّسْمات، وعلم النجوم، ونحوها، فهي‏:‏ علوم غير محمودة؛ وأما علم الفلسفة، والهندسة‏:‏ فبعيد عن علم الآخرة؛ استخرج ذلك الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة‏.‏

وفي ‏(‏فتح المبين، شرح الأربعين‏)‏ للحليمي، وغيره‏:‏ صرحوا بجواز تعلم الفلسفة، وفروعها من‏:‏ الإلهي، والطبيعي، والرياضي، ليرد على أهلها، ويدفع شرهم عن الشريعة، فيكون من باب إعداد العدة‏.‏

وفي ‏(‏السراجية‏)‏‏:‏ تعلُّمُ النجوم قدر ما تُعرف به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به؛ وفي ‏(‏التتارخانية‏)‏‏:‏ وما سواه حرام‏.‏

وفي ‏(‏الخلاصة والزيادة‏)‏‏:‏ حرام‏.‏

وفي ‏(‏المدارك‏)‏، في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فنظر نظرة في النجوم، فقال‏:‏ إني سقيم‏)‏، قالوا‏:‏ علم النجوم كان حقا، ثم نسخ الاشتغال بمعرفته‏.‏ انتهى‏.‏

وفي ‏(‏البيضاوي‏)‏‏:‏ أي‏:‏ فرأى مواقعها واتصالاتها، أو في علمها، أو في كتابها، ولا منع منه‏.‏ انتهى‏.‏

وفي ‏(‏التفسير الكبير‏)‏ في هذا المقام‏:‏ إن قيل النظر في علم النجوم غير جائز، فكيف أقدم عليه إبراهيم - عليه السلام -‏؟‏ قلنا‏:‏ لا نسلم أن النظر في علم النجوم، والاستدلال بمعانيها‏:‏ حرام، وذلك لأن من اعتقد أن الله - تعالى - خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وخاصية لأجلها، يظهر منه أثر مخصوص، فهذا العلم على هذا الوجه‏:‏ ليس بباطل‏.‏ انتهى‏.‏

فعُلِم من هذا‏:‏ أن حرمة تعلم علم النجوم مختلف فيها‏.‏

وأما أخبار المنجمين‏:‏ فقد ذكر في ‏(‏المدارك‏)‏ في تفسير‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏:‏ وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث أو الموت، فإنه يقول بالقياس، والنظر في الطالع؛ وما يُدرك بالدليل لا يكون غيبا، على أنه مجرد الظن، والظن غير العلم‏.‏

وفي ‏(‏الكشف‏)‏‏:‏ مقالات المنجمة على طريقتين‏:‏ من الناس من يكذبهم، واستدل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليطلعكم على الغيب‏}‏ وبقوله - عليه الصلاة والسلام -‏:‏ ‏(‏من أتى كاهنا أو عريفا فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد‏)‏‏.‏

ومنهم‏:‏ من قال بالتفصيل، فإن المنجم لا يخلو من أن يقول‏:‏ إن هذه الكواكب مخلوقات، أو غير مخلوقات؛ الثاني‏:‏ كفر صريح؛ وأما الأول‏:‏ فإما أن يقول‏:‏ إنها فاعلات مختارات بنفسها، فذلك أيضا‏:‏ كفر صريح، وإن قال‏:‏ إنها مخلوقات مسخرات، أدلةً على بعض الأشياء، ولها أثر بخلق الله تعالى فيها‏:‏ كالنور، والنار، ونحوهما، وأنهم استخرجوا ذلك بالحساب، فذلك لا يكون غيبا، لأن الغيب ما لا يدل عليه بالحساب؛ وأما الآية والحديث‏:‏ فهما محمولان على علم الغيب، وهذا ليس بغيب‏.‏

وأما المنطق‏:‏ فقد ذكر ابن حجر المكي في ‏(‏شرح الأربعين‏)‏ للنووي‏:‏ أن من آلات العلم الشرعي من‏:‏ فقه، وحديث، وتفسير‏:‏ المنطق الذي بأيدي الناس اليوم، فإنه علم مفيد، لا محذور فيه بوجه، إنما المحذور فيما كان يخلط به شيء من الفلسفيات المنابذة للشرائع، ولأنه كالعلوم العربية في أنه‏:‏ من مواد أصول الفقه، ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصوره والتصديق بأحواله إثباتا ونفيا، والمنطق‏:‏ هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق، فوجب كونه علما شرعيا، إذ هو ما صدر عن الشرع، أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود‏:‏ كعلم الكلام، أو توقف كمال‏:‏ كعلم العربية والمنطق‏.‏

ولذا قال الغزالي‏:‏ لا ثقة بفقه من لا يتمنطق؛ أي‏:‏ من لا قواعد المنطق مركوزة بالطبع فيه، كالمجتهدين في العصر الأول، أو بالتعلم‏.‏

وممن أثنى على المنطق‏:‏ الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وشراح ‏(‏1/ 358‏)‏ كتابه، وغيرهم من الأئمة؛ والقول بتحريمه‏:‏ محمول على ما كان مخلوطا بالفلسفة‏.‏ انتهى كلام ‏(‏كشاف اصطلاحات الفنون‏)‏ مع تصرف فيه ببعض الزيادة، وسيأتي حكم علم المنطق، وما هو الحق فيه، تحت ‏(‏علم الميزان‏)‏ من باب الميم، في القسم الثاني من هذا الكتاب‏.‏

وكذا حكم علم الكلام‏:‏ ذكرته في كتابي ‏(‏قصد السبيل، إلى ذم الكلام والتأويل‏)‏‏.‏

وللسيد، الإمام، المجتهد‏:‏ محمد بن إبراهيم الوزير، اليماني - رحمه الله - كتب ورسائل مستقلة في هذا الباب، منها‏:‏ كتابه المسمى‏:‏ ‏(‏بالروض الباسم، في الذب عن سنة أبي القاسم‏)‏، فإن شئت الزيادة فعليك بها‏.‏

وأما ما ذكره صاحب ‏(‏كشاف الاصطلاحات‏)‏ في هذا المقام، من حكم العلوم - كما تقدم آنفا -، فما هو إلا أقوال أهل العلم المحضة، وآراؤهم الساذجة التي لا إثارة عليها من علم؛ وهذه الحكايات والمقالات مثلها كثير الوجود في كتب الفقهاء، ولكن من لا يتبع إلا ما قرره الدليل، لا يقبل ذلك أبد الآبدين، ولا يتوجه إلى تلك الأقوال الخالية عن الاستناد، إلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، التي لا علم غيرهما؛ أو ما كان له دخل في فهمهما، وكان كالآلات لهما‏.‏

وقد ذكرنا في هذا الكتاب، تحت بعض العلوم حكمه، فارجع إليه، يتضح لك ما هو الحق في المسألة؛ وليس هذا الكتاب مما ينبغي فيه ذكر المسائل والأدلة عليها على وجه التفصيل، فإنه مدونة في دواوين الإسلام، وكتب الأئمة، وقد قضوا منها الوطر، وميزوا فيها الحق عن الباطل، والخطأ من الصواب‏.‏

انظر مؤلفات شيخ الإسلام‏:‏ ابن تيمية الحراني؛ وتلميذه‏:‏ الإمام، الرباني، الحافظ‏:‏ ابن القيم ‏(‏كإغاثة اللهفان، عن مكائد الشيطان‏)‏، وغيره؛ ومؤلفات السيد‏:‏ ابن الوزير؛ والعلامة‏:‏ محمد بن إسماعيل الأمير اليماني؛ وتصانيف ‏(‏1/ 359‏)‏ قاضي القضاة، المجتهد المطلق‏:‏ محمد بن علي الشوكاني؛ وأمثال هؤلاء؛ واعتنِ بها اعتناء لا يفتر طبعك منها، واشدد يديك عليها شدا بالغا مبلغ النهاية، تفزْ بسعادة الدارين، وخيري الكونين - إن شاء الله تعالى -‏.‏

وسيتضح عليك عند مطالعتها‏:‏ أن أيَّ علم أحق بالتحصيل والاكتساب، وأشدها دخلا في الإنقاذ من المهلكات في الدنيا والآخرة؛ وإن لم ينصرك الدهر على الاطلاع عليها، فاجهد في تحصيل مختصرات هؤلاء البررة الخيرة ‏(‏كأدب الطلب‏)‏، و ‏(‏القول المفيد‏)‏، و ‏(‏إرشاد النقاد‏)‏ ونحوها؛ فإن قصرت يدك عن هذه أيضا، فارجع إلى الملخصات التي لخصناها من مؤلفات تلك العصابة الكرام، وألفناها في تدوين هذا المرام، وقد طبع أكثرها في هذه الأيام، وانتشرت في الآفاق من العرب والعجم، فإنها تشتمل على فوائد نفيسة، وحقائق صحيحة، وعوائد نافعة، ومقاصد صالحة، وحقوق ثابتة بالكتاب والسنة، وهي تكفي المقلد، وتغني المجتهد، وتشفي العليل، وتروي الغليل، وتسلي الفؤاد، وتوصل المريد إلى المراد‏.‏

ويالله العجب‏!‏ من قوم بسطوا القول في بيان علوم الفرض والكفاية‏!‏ والمحمودة منها والمذمومة‏!‏ وجاؤوا في تبيينها بزبالة أفكارهم‏!‏ ونخالة أذهانهم من غير حجة نيرة‏!‏ وصعدوا في تعيينها تارة إلى السماء، ونزلوا أخرى إلى الأرض‏!‏ ولم يرفعوا رؤوسهم إلى ما جاء عن سيد العلماء، وسند الفضلاء - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك‏!‏ ولم يمعنوا أنظارهم فيه‏!‏ وهو‏:‏ قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏العلم ثلاثة‏:‏ آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما كان سوى ذلك فهو فضل‏)‏‏.‏ رواه أبو داود، وابن ماجة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -؛ واللام‏:‏ في قوله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏العلم‏)‏ قيل‏:‏ للعهد، أي‏:‏ علم الدين؛ وقيل‏:‏ للاستغراق، كما في قوله - تعالى -‏:‏ ‏(‏الحمد لله‏)‏، وهو الراجح‏.‏

والمراد بالآية‏:‏ الكتاب العزيز، وبالسنة‏:‏ علم الحديث الشريف، وبالفريضة‏:‏ علم الميراث، وهو‏:‏ جزء من علم الكتاب والسنة، وما سوى هذين الأصلين‏:‏ فضل، أي‏:‏ زائد لا ضرورة فيه، كائنا ما كان، ولا سيما العلوم التي جاءت من كفرة اليونان، وليست مبنية على أساس شرعي، ولا على عرفان، بل حدثت هي في الإسلام، بعد انقراض القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، فإنها ليس فيها من الخير شيء بل كلها كما قيل‏:‏ علم لا ينفع، وجهل لا يضر‏.‏

ومن تمسك‏:‏ بأذيال الكتاب الإلهي، والحديث النبوي، فقد استغنى عن جميع العلوم والفنون؛ ‏(‏وكل الصيد في جوف الفرا‏)‏؛ ومن لم يستغن بما جاء عن الله - تعالى - ورسوله، ولم يره كافيا وافيا لأمور الدنيا والآخرة، فلا أغناه الله، ولا حياه‏.‏

والمعرض عن هذين العلمين الكريمين، والأصلين الشريفين، الجامعين للعلوم النافعة في المعاش والمعاد، إلى الخوض في الفنون الأجنبية، والاشتغال بها ليلا ونهارا، والاستغراق فيها بأوقاته كلها‏:‏ ليس أهلا للتخاطب، ولا محلا للالتفات، ولا موفَّقا للخير، ولا موقعا للنجاة‏.‏

وفي حديث معاوية - رضي الله عنه - قال‏:‏ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وهذه الفنون غالبها من هذا القبيل، ونهى أيضا عن النظر في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء - عليهم السلام - من قبله، فكيف بالنظر في هذه الجهالات والخرافات، التي سموها‏:‏ علوما وفنونا، وجعلوها من مواسم الفضيلة، وربطوا بها كمال الشخص، وحصروه في اكتسابها الذي لا ينبغي التعبير عنه، إلا بإضاعة الأوقات، وإهلاك النفس الناطقة، بإلقائها في الموبقات - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين المتبعين عما يكره ولا يرضاه، وصاننا وإياهم عما يضر في دين الإله، إنه قريب مجيب، وبالله التوفيق، وهو المستعان -‏.‏