فصل: ما قيل في القلم وبريه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أدب الكتاب ***


ما قيل في القلم وبريه

حدثنا أحمد بن إسماعيل بن الخصيب قال‏:‏ من كلام مسلم بن الوليد الأنصاري، في صفة بري القلم قوله‏:‏ ‏"‏حرف قطة قلمك قليلاً ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليرد ما استودعته إلى مقصده، وشق في رأسه شقاً غير عاد ليحتبس الاستمداد عليه، ورفع من شعبتيه ليجمعا حواشي تصويره‏.‏ فإذا فعلت ذلك استمد القلم برشفه بمقدار ما احتملت ظبته فحينئذ يظهر به ما سداه العقل، وألحمه اللسان، وبلته اللهوات، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، وقبلته القلوب‏"‏‏.‏

ويقال‏:‏ بريت القلم أبريه برياً فأنا بار له والقلم مبري‏.‏ وكذلك بريت القدح والمغزل وهو أخذك منهما حتى يتقوما على إرادتك قليلاً قليلاً، لأنك إن لم تفعل ذلك برفق قطعته‏.‏

وقال عبد الله بن مصعب‏:‏

قد طالما قد بروا بالجود أعظمنا *** بري الصناع قداح النبع بالسفن

وقلما يلبث شيء على البري إذا لم يك صلباً قوياً في جنسه، فلذلك يستجاد للقلم القصب‏.‏ ألا ترى إلى قول كثير‏:‏

ولن يلبث الواشون أن يصدعوا العصا *** إذا لم يكن صلباً على البري عودها

ويقال لجميع ما يسقط من قلم وسهم ومغزل إذ بري البراية‏.‏

وقال أوس بن حجر يصف صانعاً لقوس يبريها بمبراته‏:‏

على فخذيه من براية عودها *** شبيه سفى البهمى إذا ما يفتلا

ويقال لما بين العقدتين من القصب أنبوب، والجمع أنابيب‏.‏

وكان بعض الكتاب يجيد الخط ولا يجيد برى القلم، فيبرى له‏.‏ وبعضهم يرى أن في ذلك مهنة يترفع عنها‏.‏ وقال بعض الكتاب‏:‏

لم ترني قط بارياً قلماً *** في بريه كل مهنة وضعه

ما كل من يحمل الحسام لكي *** يردي به سنه ولا طبعه

وقد عيب بعض الكتاب بأنه لا يجيد بري القلم فقيل فيه‏:‏

دخيل في الكتابة ليس منها *** فما يدري دبيراً من قبيل

إذا ما رام للأنبوب برياً *** تنكب عاجزاً قصد السبيل

فكائن ثم من قطع رحيب *** لأصبعه ومن قلم قتيل

وكأن اشتقاق القلم من التقليم، وهو القطع ومنه تقليم حافر الدابة ومنه قلمت ظفري‏.‏ وكل شيء تبري به شيئاً وتقطعه فهو مبراة والجمع مبار، والمبراة السكين الذي يبرى به القوس ثم جعلوا ما يقطع مبراة‏.‏وقال امرؤ القيس يصف قرن ثور‏:‏

فكر إليه بمبراته *** كما خل ظهر اللسان المجر

المجر الفاعل، وأصل الإجرار أن يشق طرف السان لسان الفصيل حتى لا يرضع أمه، وخله جعل فيه خلالاً‏.‏ وذكر امرؤ القيس أن الثور طعن كلب الصيد ففعل به هكذا‏.‏ وكان الوجه أن يقول‏:‏ فكر إليه بمبراته فخله كما خل، فاستغنى عن قوله ‏"‏فخله‏"‏ لعلم المخاطب بما يريد‏.‏

والبراية ما سقط من القلم إذا بريته والليطة ما كان من قشر الأنبوب والجمع ألياط مثل عنب وأعناب وليط وألياط مثل جمل وأجمال‏.‏ والشظية ما تشظى من الأنبوب والجمع شظايا وشظي القلم يشظى شظاً إذا صارت مع أحد سنيه شظية عنه‏.‏ وأصل التشظي في اللغة ‏"‏التفرق والتشقق‏"‏ وشظي الفرس تفرق عصبه وتشقق‏.‏ وقالوا‏:‏ شظية وشظايا مثل بلية وبلايا وشظاة مثل نواة ونوى لا يكتب إلا بالألف لأنه يقال ثلاث شظايا وشظوات‏.‏ وحفى القلم يحفى وحفاء وحفاية وكذلك في غيره‏.‏

ومن وصف الكتاب

حدثني القاسم بن إسماعيل قال‏:‏ رأى ابن شبل البرجمي إبراهيم بن العباس وهو يكتب فقال‏:‏

ينظم اللؤلؤ المنثور منطقه *** وينظم الدر بالأقلام في الكتب

حدثنا الحسن بن علي الكاتب قال‏:‏ حدثني سليمان بن وهب قال‏:‏ رآني أبو تمام وأنا أكتب كتاباً فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا أيوب كلامك ذوب شعري‏"‏‏.‏ وأنشدني محمد بن الفضل بن الأسود‏:‏

إذا شئت يوماً أن ترى بهم الوغى *** بلا هز طي ولا سل قاضب

فحرك عنان الطرف نحو معاشر *** وجوههم في الملتقى كالكواكب

يهزون صفر الحطيات كأنها *** أنامل ربات الحدور الكواعب

إذا أرعفوها زينت برعافها *** قراطيس تحكى واضحات الترائب

وشبيه بالبيت الثالث قول القصافي يصف جارية كاتبة‏:‏

أفدي البنان وحسن الخط من علم *** إذا تقمص بالحناء فالكتم

كأنما قابل القرطاس من يدها *** شبها ثلاثة أقلام على قلم

حدثنا الحسين بن علي البامطاني لسليمان بن وهب قال، وكان قلمه يصر من شدة اعتماده عليه‏:‏

إذا ما حددنا وانتضينا قواطعا *** أصم الذكي السمع منها صريرها

تظل المنايا والعطايا شوارعاً *** تدور بما شئنا وتمضي أمورها

يساقط في القرطاس مها بدائعاً *** كمثل الآلي نظمها ونثيرها

يقود أبيات البنان بفطنة *** تكشف عن وجه البلاغة نورها

إذا ما الخطوب الدهم أرخت ستورها *** تجلت بنا عما تسر ستورها

وأنشدنا يعقوب بن بيان‏:‏

لك حزم يلقى الخطوب بعزم *** مستفل بكل أمر جليل

ولسان في الحفل غير كليل *** بالغ في جوامع وفضول

ويد لم تزل من العز والسل *** طان بين التوقيع والتقبيل

الجزء الثاني

ما قيل في الدواة

أنشدنا أحمد بن محمد بن إسحاق، قال‏:‏ أنشدني أبو هفان‏:‏

آلة المجلس الظريف إذا ما *** كنت فيه الدواة والأقلام

يتهادى فيه البلاغة والآ *** داب منثورها معاً والنظام

قال أبو بكر‏:‏ أما المشهور مما قيل فيها فشعر بعض الكتاب، وقد أهدى دواة محلاة بذهب، وهي من الأبنوس‏:‏

قد بعثنا إليك أم المنايا *** والعطايا نجية الأحساب

تتزيا بصفرة وكذا الزنج تزيا عجباً بصفر الثياب

ريقها ريق نحلة مع صاب *** حين يجري لعابها في الكتاب

في حشاها لغير حرب حراب *** هن أمضى من مرهفات الحراب

وقال غيره‏:‏

وما أم أولاد ولما تلدهم *** عقام إذا ما استنجدت لم تكلم

وأولادها خرس ويأتيك عنهم *** أحاديث من أيام طسم وجرهم

إذا استعجلوا في حالة أرقلت بهم *** أثافي من لحم كريم ومن دم

وشكا بعض الكتاب أن دواته بلا مداد، فقال لبعض أخوانه يطلب منه مدداً‏:‏

أنا أشكو إليك أن دواتي *** وهي عوني في حاجتي وعتادي

عطلت من مدادها واستعاضت *** يقق اللون من حلوك السواد

لم تزل من بنات حام فصارت *** من بني يافث بغير ولاد

أنت للحادثات عدة صدق *** خلق أن تمدها بمداد

وأنشدنا علي بن الصباح‏:‏

دواة حديد زين الله خلقها *** بكف فتى حلو الكتابة حاذق

تدير العطايا والمنايا حرابها *** إذا طعنت في شاكلات المهارق

ولأحمد بن إسماعيل في وصف الدواة، إلا أن وصف القلم يتقدمها في أبياته‏:‏

في كفة مثل سنان الصعده *** أرقش بز الأفعوان جلده

يلتهم الجيش اللهام وحده *** كأنه متشح ببرده

لو صادم الطرد المنيف هده *** أو صافح السيف الحسام قده

يأوي إلى طير له معده *** يمزج فيه صبر بشهده

ترضعه من مقلة مسوده *** يمدها جار كثيف العده

كأنه الليل إذا استمده *** مقلتها مكحولة بنده

قوله‏:‏ ‏"‏كأنه الليل إذا استمده‏"‏ن يشبه قول ابن الرومي يصف حبر أبي حفص الوراق‏:‏

كأنه ألوان دهم الخيل *** حبر أبي حفص لعاب الليل

يسيل للإخوان أي سيل *** بغير ميزان وغير كيل

وعلى ذكر الخبر فإنا نذكر قول بعض الوراقين‏:‏

ولجة بحر أجم العباب *** بادي تياره يزخر

تثور إذا جاش من قعرها *** بذورتها حمم تفطر

فأكرم ببحر له لجة *** جواهرها حكم تنثر

وقال بعضهم‏:‏ إنما سمي الحبر حبراً لأنه تحبر به الأخبار‏.‏ أنشدني الحمدوني لنفسه‏:‏

ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا *** عنان شأوي عما رمت من وهممي

أما الدواة فأودى حملها جسدي *** وقلم المال مني حرفة القلم

وحبرت في صحف الحرف محبرة *** تذود عني سوام المال والنعم

ونحوه، وليس هو، مما قصدناه في كتاب الكتاب، ولكنه اعترض فجئت بما أحفظ فيه لغير الحمدوني‏:‏ جمعت حروف الحرف في الحبر كلها ولول شقائي ما عرفت المحابرا

وقد زاد بي الإخفاق في كل موطن *** لحملي في كمي إليه الدفاترا

وسطر في أثناء قلبي تعللا *** طلابي لما أن عرفت المساطر

وفي مثله‏:‏

لما أخذت حروف الخط حرفني *** عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب

أقوت منازل مالي حين أوطنها *** منحيا سفط الآداب والكتب

وقال آخر‏:‏

أدمى البكا جفني والمآقي *** وظلت ذا هم وذا احترق

ما أن أرى في الأرض والآفاق *** أدنى ولا أشقى من الوراق

إذا أتى في القمص الأخلاق *** رايته مطنزة العشاق

يفرح بالأقلام والأوراق *** كفرحة الجندي بالأرزاق

قال أبو بكر‏:‏ حدثني أحمد بن محمد الأنصاري، قال‏:‏ قيل لوراق‏:‏ ما تشتهي‏؟‏ قال‏:‏ قلماً مشاقاً، وحبراً براقاً، وجلوداً رقاقاً‏.‏

وقال بعض المحدثين في محبرة‏:‏

ولقد غدوت إلى المحدث آنفاً *** فإذا بحضرته ظباء رتع

وإذا ظباء الأنس يكتب كل ما *** يملى وتحفظ ما يقال وتسمع

يتجاذبون الحبر من ملمومة *** بيضاء تحملها علائق أربع

من خالص البلور غير لونها *** فكأنها سبج يلوح ويلمع

إن نكسوها لم تمل ومليكها *** فيما حوته عاجلاً لا يطمع

ومتى أمالوها ارشف رضابها *** أداه فوها وهي لا تتمنع

فكأنها قلب رصين سره *** أبداً ويكتم كل ما يستودع

يمتاحها ماضي الشباة مذلق *** يجري بميدان الطروس فيسرع

رجلاه رأس عندها لكنه *** تلقاه برجفاة ساعة يطلع

فكأنه والحبر خضب رأسه *** شيخ لوصل خريدة يتصنع

لم لا ألاحظه بعين جلالة *** وبه إلى الله الصحائف ترفع

وقد قال بعض الكتاب‏:‏ حكم الدواة أن تكون متوسطة في قدرها، نصفا في قدها، لا باللطيفة جداً فتقصر أقلامها، ولا بالكبيرة فيثقل حملها‏.‏ لأن الكاتب - ولو كان وزيراً مائة غلام مرسومون بحمل دواته - مضطر في بعض الأوقات إلى حملها ووضعها ورفعها بين يدي رئيسه، حيث لا يحسن أن يتولى ذلك منها غيره، ولا يتحملها عنه سواه‏.‏ وأن يكون عليها من الحلية أخف ما يتهيأ أن يتحلى الدوي به من وثاقة ولطف صنعة، ليأمن أن تنكسر أو تنفصم منها عروة في مجلس رياسة أو مقام محنة‏.‏ وأن تكون الحلية ساذجة، لا حفر ولا ثبات فتحمل القذى والدنس، ولا نقش عليها ولا صورة لأن ذلك من زي أهل التوضع، لا سيما في آلة يستعان بها مثل هذه الصناعة الجليلة المستولية على تدبير المملكة، وإن أحرقت الفضة حتى يكون سوادها أكثر من بياضها، فإن ذلك أحسن وأبلغ في السرو وأشبه بقدر من لا يتكثر بالذهب والفضة‏.‏

وقد حكى عن المأمون أنه رأى على أسنان دابة له فضة فنهى عن استعمالها وقال‏:‏ إنما يتكثر بالذهب والفضة من قلا عنده‏.‏

وكذلك قال المنصور للمهدي وقد رأى تحته سرجاً لجامه مفضض‏:‏ أترى الناس لا يعلمون أنك من وراء كل شيء تريده فأنزل هذا اللجام‏.‏

حدثنا أحمد بن يزيد المهبلي قال حدثني أبو هفان قال سألت وراقاً عن حاله فقال ‏"‏عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس سواداً من الحبر، وحظى أحقر من شق القلم، وبدني أضعف من قصبة، وطعامي أمر من العفص، وسوء الحال ألزم لي من الصبغ‏"‏‏.‏ فقلت له‏:‏ عبرت عن بلاء ببلاء‏.‏

وقال آخر‏:‏

ترى الرشا والحبل أنبوبة *** يقلب ماء اسوداً من قليب

روض الندى ينبت زهر اللهى *** وهذه تنب زهر القلوب

وسئل وراق عن حاله فقال‏:‏

إذا كنت بالليل لا أكتب *** وطول النهار أنا ألعب

فطوراً يبطلني مأكل *** وطوراً يبطلني مشرب

فإن دام هذا على ما أرى *** فبيتي أول ما يخرب

ولا يستحسن أن يكثر عدد الأقلام في الدواة، فأحسن ذلك أن تكون أربعة إلى ما دون ذلك‏.‏ وقد قيل فيه‏:‏

لا أحب الدواة تحشى يراعا *** تلك عندي من الدوي معيبة

قلم واحد وجودة خط *** فإذا شئت فاستزد أنبوبه

هذه قعدة الشجاع عليها *** سيره دائباً وتلك جنيبه

ويقال‏:‏ دواة ودويات لأدنى العدد وفي الكثير دوي‏.‏ وقال أحمد بن ثور يصف ناقته‏:‏

كأن توشي أقرانها *** إذا ما نشحن مخط الدوي

نشحن‏:‏ عرقن‏.‏ وجمع الدوى دوي‏.‏ وأراد بمخط الدوي مخط أقلام الدوى، فاستجار ذلك لأن المعنى لا يشتبه كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏واسأل القرية‏"‏ يريد أهل القرية‏.‏

وأنشد الفراء‏:‏

لمن الدار كخط بالدوى *** أقفر المعروف منها وانمحى

ويقال‏:‏ حليت الدواة أحليها تحلية وحلية حسنة وجمع الحلى الحلي مثل ثدى وثدي‏.‏ وقالوا‏:‏ حليت الرجل إذا أخذت علامات من جسده، أحليه تحلية، وهذه حلية الرجل وجمعها حلى وحلى بضم الحاء وكسرها قد قرئ ‏"‏من حليهم عجلاً‏"‏ و ‏"‏من حليهم‏"‏‏.‏ ودواة ودوى مثل نواة ونوى، ودواة ودوى مثل فتاة وفتى، ودواة ودويات مثل حصاة وحصيات، ويقال دواة ودوايا وهي رديئة، قال الشاعر‏:‏

إذا نحن وجهنا إليكم صحيفة *** ألقنا الدوايا بالدموع السواجم