فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (27):

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
{الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق. والنقض: فسخ التركيب، وأصله في طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحاً للمجاز، وإن ذكر مع العهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته. والعهد: الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين، ويقال للدار، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها. والتاريخ لأنه يحفظ، وهذا العهد: إما العهد المأخوذ بالعقل، وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله، وعليه أُوِّلَ قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أو: المأخوذ بالرسل على الأمم، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه، وإليه أشار بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} ونظائره. وقيل: عهود الله تعالى ثلاثة: عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه.
{مِن بَعْدِ ميثاقه} الضمير للعهد والميثاق: اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام، والمراد به ما وَثَقَ الله به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر. و{مِنْ} للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى، كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام، والكتب في التصديق، وترك الجماعات المفروضة، وسائر ما فيه رفض خير. أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، والأمر هو للقول الطالب للفعل، وقيل: مع العلو، وقيل: مع الاستعلاء، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر، فإنه مما يؤمر به كما قيل: له شأن وهو الطلب. والقصد يقال: شأنت شأنه، إذا قصدت قصده. و{أَن يُوصَلَ} يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما، أو ضميره. والثاني أحسن لفظاً ومعنى.
{وَيُفْسِدُونَ في الارض} بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه.
{أولئك هُمُ الخاسرون} الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتراء النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب.

.تفسير الآية رقم (28):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} استخبار فيه إنكار، وتَعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع عليها على الطريق البرهاني، فإن صدوره لا ينفك عن حال وصفة فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده، فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر، من (أتكفرون) وأوفق لما بعده من الحال، والخطاب مع الذين كفروا لما وصفهم بالكفر وسوء المقال وخبث الفعال، خاطبهم على طريقة الالتفات، ووبخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك، والمعنى أخبروني على أي حال تكفرون.
{وَكُنتُمْ أمواتا} أي أجساماً لا حياة لها، عناصر وأغذية، وأخلاطاً ونطفاً، ومضغاً مخلفة وغير مخلفة.
{فأحياكم} بخلق الأرواح ونفخها فيكم، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عندما تقضي آجالكم. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم. أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون. قلت: تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر،. سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو: أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته. أو الخطاب مع القبيلين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوة، ووعدهم على الإيمان، وأوعدهم على الكفر، أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة والخاصة، واستقبح صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإن عظم النعم يوجب عظم معصية النعم، فإن قيل: كيف تعد الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ قلت: لما كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} كانت من النعم العظيمة مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها، كما أن الواقع حالا هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل، فإن بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا. أو مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم، وتبعيد الكفر عنهم على معنى، كيف يتصور منكم الكفر وكنتم أمواتاً جهالاً، فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان، ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم إليه ترجعون، فيثيبكم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والحياة حقيقة في القوة الحساسة، أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجازاً في القوة النامية، لأنها من طلائعها ومقدماتها، وفيما يخص الإنسان من الفضائل، كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت بإزائها يقال على ما يقابلها في كل مرتبة قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وقال: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِيِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس} وإذا وصف به الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك على الاستعارة. وقرأ يعقوب تَرْجعون بفتح التاء في جميع القرآن.

.تفسير الآية رقم (29):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم. ومعنى {لَكُمْ} لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها، لا على وجه الغرض، فإن الفاعل لغرض مستكمل به، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد. وما يعم كل ما في الأرض، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو. وجميعاً: حال من الموصول الثاني.
{ثُمَّ استوى إِلَى السماء} قصد إليها بإرادته، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي: استولى ومَلَكَ، قال:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق ** مِنْ غَير سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو، و{ثُمَّ} لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} لا للتراخي في الوقت، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه {أَاَنتم أَشَدُّ خَلْقاً} مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر.
{فَسَوَّاهُنَّ} عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور. و{هُنَّ} ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع. أو هو في معنى الجمع، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم: ربه رجلاً.
{سَبْعَ سموات} بدل أو تفسير. فإن قيل: أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك؟ قلت: فيما ذكروه شكوك، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف.
{وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} فيه تعليل كأنه قال: ولكونه عالماً بكنه الأشياء كلها، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب، والترتيب الأنيق كان عليماً، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت، وتفتتت أجزاؤها، واتصلت بما يشاكلها، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها، ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان، ونظيره قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين: أما الأولى فهي: أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير. وأما الثانية والثالثة: فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها، قادر على جمعها وإحيائها، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقاً وأعجب صنعاً فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت واختلال مراعٍ فيه مصالحهم وسد حاجاتهم. وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته. وقد سَكَّنَ نافع وأبو عمرو والكسائي: الهاء من نحو فهو وهو تشبيهاً له بعضد.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له، إنعام يعم ذريته. وإذا: ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان، وبنيتا تشبيهاً لهما بالموصولات، واستعملتا للتعليل والمجازاة، ومحلهما النصب أبداً بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه، وأما قوله تعالى: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} ونحوه، فعلى تأويل: اذكر الحادث إذا كان كذا، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه، وعامله في الآية قالوا، أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولاً له صريحاً في القرآن كثيراً، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة، مثل وبدأ خلقكم إذ قال، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة. وعن معمر أنه مزيد. والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل، والتاء لتأنيث الجمع، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي: الرسالة، لأنهم وسائط بين الله تعالى، وبين الناس، فهم رسل الله. أو كالرسل إليهم. واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك. وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان. وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين: قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وهم المدبرات أمراً، فمنهم سماوية، ومنهم أرضية، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع.
والمقول لهم: الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل ملائكة الأرض، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولاً فأفسدوا فيها، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال. وجاعل: من جعل الذي له مفعولان وهما في {الأرض خَلِيفَةً} أعمل فيهما، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه. ويجوز أن يكون بمعنى خالق. والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، وتلقي أمره بغير وسط، ولذلك لم يستنبئ ملكاً كما قال الله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات، ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك. أو خليفة من سكن الأرض قبله، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم، أو يخلف بعضهم بعضاً. وإفراد اللفظ: إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم: مضر وهاشم. أو على تأويل من يخلفكم، أو خلفاً يخلفكم. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة، تعليم المشاورة، وتعظيم شأن المجعول، بأن بَشَّرَ عز وجل بوجود سكان ملكوته، ولقبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك.
{قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} تَعَجُبٌ من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى، أو تلق من اللوح، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر. والسُفْكُ والسَّبْكُ والسَّفْحُ والشَّنُّ أنواع من الصب، فالسفك يقال في الدم والدمع، والسبك في الجواهر المذابة، والسفح في الصب من أعلى، والشن في الصب من فم القربة ونحوها، وكذلك السن، وقرئ: {يُسْفِكُ} على البناء للمفعول، فيكون الراجع إلى {مَنْ}، سواء جعل موصولاً أو موصوفًا محذوفاً، أي: يسفك الدماء فيهم.
{وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} حال مقررة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم. والمعنى: أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه، الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف، لا العجب والتفاخر. وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة.
ونظروا إليها مفردة وقالوا: ما الحكمة في استخلافه، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلاً عن استخلافه، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليماً عن معارضة تلك المفاسد. وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف. ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف، وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله: {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس، من سَبَح في الأرض والماء، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، ويقال قَدُسَ إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار. و{بِحَمْدِكَ} في موضع الحال، أي: متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم، ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل: نقدسك واللام مزيدة.