فصل: تفسير الآيات (89- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (89- 122):

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}
{وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم. {شِقَاقِى} معاداتي. {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق. {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح. {أَوْ قَوْمَ صالح} من الرجفة و{أن} بصلتها ثاني مفعولي جزم، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. وعن ابن كثير {يَجْرِمَنَّكُمْ} بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد، والأول أفصح فإن أجرم أقل دوراناً على ألسنة الفصحاء. وقرئ: {مَثَلُ} بالفتح لإِضافته إلى المبنى كقوله:
لَمْ يُمْنع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَت ** حَمَامَةٌ فِي غُصُون ذات ارْقَالِ

{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} زماناً أو مكاناً فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، ولا يبعد أن يسوي في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق.
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عما أنتم عليه. {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} عظيم الرحمة للتائبين. {وَدُودٌ} فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} ما نفهم. {كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلاً عليهما، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم. وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً، أو مهيناً لاعِزَّ لك، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف، ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياساً على القضاء والشهادة والفرق بين. {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة. {لرجمناك} لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه. {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} فتمنعنا عزتك عن الرجم، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإِهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي، وهو يحتمل الإِنكار والتوبيخ والرد والتكذيب، و{ظِهْرِيّاً} منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
{وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} سبق مثله في سورة (الأنعام) والفاء في ف {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ثمة للتصريح بأن الإِصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.
{وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك: ستعلم الكاذب والصادق، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال: سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم. وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال: ومن هو كاذب على زعمهم. {وارتقبوا} وانتظروا ما أقول لكم. {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} فلذلك جاء بفاء السببية. {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا. {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين، وأصل الجثوم اللزوم في المكان.
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا فيها. {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرئ: {بَعُدَتْ} بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} بالتوراة أو المعجزات. {وسلطان مُّبِينٍ} وهو المعجزات القاهرة أو العصا، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها، ويجوز أن يراد بهما واحد أي: ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطاناً له على نبوته واضحاً في نفسه أو موضحاً إياها، فإن أبان جاء لازماً ومتعدياً، والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم. {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح.
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم. {فَأَوْرَدَهُمُ النار} ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها مورداً ثم قال: {وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار بالضد، والآية كالدليل على قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
{وَأُتْبِعُواْ في هذه} الدنيا. {لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} أي يلعنون في الدنيا والآخرة. {بِئْسَ الرفد المرفود} بئس العون المعان أو العطاء المعطى، وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.
{ذلك} أي ذلك النبأ. {مِنْ أَنْبَاء القرى} المهلكة. {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} مقصوص عليك. {مِنْهَا قَائِمٌ} من تلك القرى باق كالزرع القائم. {وَحَصِيدٌ} ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود، والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير.
{وَمَا ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم. {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه. {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم. {آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَئ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} حين جاءهم عذابه ونقمته. {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} هلاك أو تخسير.
{وكذلك} ومثل ذلك الأخذ. {أَخْذُ رَبّكَ} وقرئ: {أَخْذُ رَبّكَ} بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر. {إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلها وقرئ: {إِذ} لأن المعنى على المضي. {وَهِىَ ظالمة} حال من {القرى} وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإِشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره من وخامة العاقبة. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجيع غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم. {لآيَةً} لعبرة. {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الأخرة} يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها. {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه. {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجمع له الناس، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة. {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله:
في مَحفَلِ مِنْ نَوَاصِي النَّاس مَشْهُود

أي كثير شاهدوه، ولو جعل اليوم مشهوداً في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك.
{وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي اليوم. {إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.
{يَوْمَ يَأْتِى} أي الجزاء أو اليوم كقوله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} على أن {يَوْمٍ} بمعنى حين أو الله عز وجل كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ} ونحوه. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {يَأْتِ} بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر. {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف. {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} إلا بإذن الله كقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} وهذا في موقف وقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة. {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النار بمقتضى الوعيد. {وَسَعِيدٌ} وجبت له الجنة بموجب الوعد الضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو للناس.
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير إخراج النفس والشهيق رده، واستعمالها في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ: {شَقُواْ} بالضم.
{خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضاً من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} وإن أهل الآخرة لابد لهم من مظل ومقل، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} تقسيماً صحيحاً لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقاً غير مقيد باليوم، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت.
وقيل هو من قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وقيل إلا هاهنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض. {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} من غير اعتراض.
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {سُعِدُواْ} على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده، و{عَطَاء} نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.
{فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس. {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع. {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ} استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى {كَمَا يَعْبُدُ} كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه. {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كآبائهم، أو من الرزق فيكون عذراً لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول: وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازاً.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} يعني كلمة الإِنظار إلى يوم القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق.
{وَإِنَّهُمْ} وإن كفار قومك. {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن. {مُرِيبٍ} موقع في الريبة.
{وَإِنَّ كُلاًّ} وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين بدل من المضاف إليه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإِعمال اعتباراً للأصل. {لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {لَّمّاً} بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميماً للادغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم. وقرئ لما بالتنوين أي جميعاً كقوله: {أَكْلاً لَّمّاً} {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} على إن {إن} نافية و{لَّمّاً} بمعنى إلا وقد قرئ به. {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «شيبتني هود» {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تخرجوا عما حد لكم. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي. وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان.
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته. {فَتَمَسَّكُمُ النار} بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه. وقرئ: {تِرْكَنُواْ} {فَتِمَسَّكُمُ} بكسر التاء على لغة تميم و{تَرْكَنُواْ} على البناء للمفعول من أركنه. {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال. {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلاً.
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه. {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} وساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار، وصلاة العشية صلاة العصر، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء. وقرئ: {زُلُفا} بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و{زلفى} بمعنى زلفة كقربي وقربة. {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} يكفرنها. وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر» وفي سبب النزول: «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت». {ذلك} إشارة إلى قوله: {فاستقم} وما بعده وقيل إلى القرآن. {ذكرى لِلذكِرِينَ} عظة للمتعظين.
{واصبر} على الطاعات وعن المعاصي. {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإِخلاص.
{فَلَوْلاَ كَانَ} فهلا كان. {مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقل، أو أولو فضل وإنما سمي {بَقِيَّتُ} لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ويجوز أن يكون مصدراً كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب، ويؤيده أنه قرئ: {بَقِيَّتُ} وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه. {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} لكن قليلاً منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك. {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على {أَتَّبِعُ} أو اعترض. وقرئ: {واتبع} أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإِنجاء.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} بشرك. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً وتباغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد.
وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مسلمين كلهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإِرادة وأنه تعالى لم يرد الإِيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه. {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقاً.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا ناساً هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه. {ولذلك خَلَقَهُمْ} إن كان الضمير لـ {الناس} فالإِشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان لمن فإلى الرحمة. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} وعيد أو قوله للملائكة. {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس} أي من عصاتهما {أَجْمَعِينَ} أو منهما أجمعين لا من أحدهما.
{وَكُلاًّ} وكل نبأ. {نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل} نخبرك به. {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بيان لكلا أو بدل منه، وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، أو مفعول {وَكُلاًّ} منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل. {وَجَاءكَ في هذه} السورة أو الأنباء المقتصة عليك. {الحق} ما هو حق. {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى سائر فوائده العامة.
{وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم. {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا.
{وانتظروا} بنا الدوائر. {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.